آيات التخويف وبركان المدينة المنورة
------------------------------------------------------------------------------
قال الله تعالى :{ وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً }الإسراء59، في هذه الآية العظيمة يبين الله جل وعلا أن ما يجريه من الآيات الكونية من الزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير له فيها جل وعلا حكمةٌ بالغة وغايةٌ عظيمة , ألا وهي تخويف العباد وتذكيرهم بالله جل وعلا , سيما من طغت عليهم الغفلة , وأعمتهم الدنيا بمتعها وشهواتها .
وصدق الله { وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً }الإسراء60،ففي هذه الآية وصف وبيان لأحوال كثير من الغافلين ممن لا يزيدهم رؤية الآيات إلا إعراضاً , ولا مشاهدة المخوفات إلا غياً وصدوداً .
- ومن هنا يتبين لنا حال السلف رضوان الله عليهم حينما كانوا يرون الآيات , ويشاهدون المخوفات , فقد كانوا يذلون وينكسرون بين يديه ويلجأون إليه جل وعلا بالدعاء والتضرع والإقلاع , فتتغير أحوالهم , وتتبدل فعالهم إلى ما يحب الله ويرضى , بينما الكثيرين عياذاً بالله تعالى نجد أن ظلمة القلب الذي غطاه الران قد منعهم من رؤية الحق والخوف من الله تعالى , حتى أصبح هم الكثيرين اليوم معرفة أخبار الزلازل ومدى قوته وقياسه على مقياس ( ريختر) ؟ وكم سيموت فيه ؟ وما حجم الدمار الذي سيخلفه ؟ بل لا أكون مبالغاً إذا قلت أن بعض الناس من جرأته وقلة خوفه أصبح يتندر ويطلق النكت السخيفة , والمُزَحُ السمجة .
- إن مما ابتلى به المسلمون عند حدوث الآيات والمخوفات رَدُهَا إلى غير فاعلها وآمِرها وهو الله تعالى بل نراهم دائماً ما يركزون على نسبتها إلى الأسباب المادية المحسوسة البحتة , وهذا من أعظم الفتن إذ الواجبُ أن يَرْبِطَ المسلمُ ما يحدث في الكون بالأسباب الشرعية مع عدم إلغاء وإبطال الأسباب الحسية لكنها يجب أن تكون تابعة لا متبوعة , وأقبح من هؤلاء ما نسمعه حين تحل الكوارث والزلازل وتخلف وراءها ما تخلف , فكثيراً ما نسمع من وكالات الأنباء والأخبار عند حدوث الكوارث ما يطلقون عليه ( غضب الطبيعة أو سخط الطبيعة ) وهذا كله ناشئ عن التأثر بكلام الملاحدة , ونسي هؤلاء أن الطبيعة مخلوقة مذللـه لخالقها وموجدها ومالكها وهو الله تعالى .
روى الشيخان في صحيحهما من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله :( لا تقوم الساعة حتى تكثر الزلازل ) فهذه الآية وتلكم العلامة التي أخبر بها النبي ها نحن في هذا العصر نراها ونشاهدها , إذ لا يعرف في تاريخ الدنيا زلازلُ بهذه الكثرة كما نراه ونشاهده في هذه السنوات الأخيرة وهذه الأيام الماضية , حتى أعُلن أنه خلال خمسة عشر عاماً ماضيةً فقط شهد العالم أربعة عشر زلزالاً مدمراً ومهولاً فضلاً عن الزلازل الصغرى التي أصبحت من كثرتها لا يحصيها إلا الله تعالى .
- إن ما تناقلته وسائل الإعلام في الأيام القليلة الماضية من تتابع الهزات , وكثرة الزلازل التي أصابت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استدعى الأمر عند المسئولين إلى إجلاء السكان وإغلاق المدارس ومنع دخول السيارات إلى بعض القرى التي نشطت بعض براكينها الكامنة قريباً منها ونسبت هذه الزلازل المتتابعة توقعات بحدوث ثورة لبعض البراكين الكامنة خاصةً بعد ارتفاع درجات الحرارة وصعود أبخرة وغازات من وسط هذه البراكين , نسأل الله أن يعافي المسلمين وأن ينجيهم من كل سوء , والذي يعنينا هنا هو أن هذه الآيات الباهرات والمخوفات العظيمات يجب أنْ تحدث عند المسلم أوبةً ورجعة يستخلص منها الفوائد ويأخذ منها العبر والعظات , وما أكثرها :
1- فمن العبر العظيمة التي يجب أن تحدثها هذه الآيات , شكر الله تعالى وحمدِه على لطفه بعباده , وشكر الله لا يكون إلا بحسن العمل الموافق للقول , أما أن نشكره باللسان دون الجوارح فهذا من غرور الشيطان قال الحسن : ( أفكلما حسنت منا الأقوال ساءت منا الأفعال !! ) .
2- ثانياً : مما يجب أن تحدثه هذه الآيات , الخوف من الله تعالى , فهو من أجل العبادات القلبية وأحبها إلى الله تعالى , وقد أمر الله عباده في مواضع كما في قوله :{فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }آل عمران175 .
فكم نَزَع العباد عن معصية الله بسبب الخوف ! وكم أحسنوا وتابوا بسبب الخوف ! فالخوف من الله سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه كما قال أبو حفص النيسابوري , وقال أبو سليمان الداراني :( ما فارق الخوف قلباً إلا خَرِبْ ) . والخوف هو الحكمة التي لأجلها أرسل الله الآيات قال تعالى :{ وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً }الإسراء59 وقال : ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان ولا تنخسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن يخوف الله بهما عباده ) .
3- ثالثاً : من الدروس المستفادة الإيمان بقوة الله وقدرته سبحانه وتعالى , فقوته جل وعلا لا تقهرها شيء وسلطانه لا يعلوه سلطان , وهو جل وعلا لا يعجزه شيء , لا راد لقضائه , ولا معقب لحكمه , ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن , ولهذا كان من أعظم الذكر والذي هو كنز من كنوز الجنة ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) والمعنى أن الحول وهو التحول من حال إلى حال , والقوة هي القدرة على ذلك التحول فلا يتحول أحد ولا يقدر أحد على التحول إلا بإذن الله , ففي هذا الباب يذكر بعض الخبراء الأمريكيين أن قوة الزلزال المسمى ( تسونامي ) والذي ضرب جنوب شرق آسيا قبل سنوات , والذي قُتِلَ فيه قرابة نصف مليون إنسان وذلك حينما تسبب بطوفان عظيم سبقه خسف في قاع البحر أدى إلى انحسار الماء إلى داخل البحر ثم أعقبه بركان متدفق غلـى معه ماء البحر الذي تحول إلى طوفان عظيم أباد كل ما أتى عليه , قدرت قوته بالقوة التفجيرية بقرابة مليون قنبلة ذرية " فلا إله إلا الله القوي العزيز , ولا إله إلا الله الذي شهدت كل ذرة في هذا الكون على قوته وعظمته وجبروته ".
4- رابع الدروس المستفادة , يجب على المسلم عدم الأمن من مكر الله تعالى , ويجب أن يعلم العبد كذلك أن من أسباب الإمهال في العقوبات الدنيوية هو الاستدراج قال تعالى :{وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ{182} وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ{183}الأعراف 182،183 وقال تعالى :{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ{55} نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ{56} المؤمنون 55،56 وقال :( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ) .
5- خامس الدروس , وجوب البعد عن أسباب العقوبة والإهلاك , ومن أعظمها الذنوب والمعاصي فشؤمها عظيم وخطرها جسيم وأثرها وخيم قال ابن القيم :( وهل في الدنيا والآخرة شرٌ أو داءٌ إلا سببه الذنوب والمعاصي ) .
أخرج الإمام أحمد من حديث جبير أن المسلمين لما فتحوا قبرص وتقاسم المسلمون الكفار وفرق بينهم فبكى بعضهم إلى بعض فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي فقلت ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله فقال : ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره , فبينما هي أمة قاهرة ظاهرة , لهم الملكُ فتركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى .
- إن من الجهل أن يُعتقد أن العذاب يصيب الكافر دون المؤمن , فإن من ضيع أمر الله استحق العذاب وناله العذاب ( فليست الحلوة لنا والمرة لهم متى ما سلكنا طريقهم واتبعنا سبيلهم ) .
6- سادس الدروس , أهمية رجوع المرء إلى كلام الله تعالى وتدبر ما جاء فيه سيما ما قُصُّ علينا من أحوال من عصاه وخالف أمره كما جاء في كتاب الله تعالى والذي لو أنزله على الحجارة الصلبة لخضعت وتصدعت وتدكدكت , بينما يُقْرأْ القرآن في الليل والنهار وتمر علينا عجائب القصص وعظائم الأحوال فلا تتأثر هذه القلوب ولا تخشع ولا تلين قال ابن القيم : ( فمن لم يلن لله في هذه الدارِ قَلْبَهُ فليستمتع قليلاً , فإن أمامه الملين الأعظم وهي النار نعوذ بالله منها .أ.ه
7- سابع الدروس , إن من الخطأ أن يظن المرء أن المواضع المقدسة والأماكن المباركة في منأى من أن يصيبها نصيب وَقَدَرٌ من العقوبات الدنيوية فالأرض المقدسة لا تقدس أحداً , فهذا المسجد الحرام شرفه الله جاء في علامات الساعة أن الله يسلط عليه رجلٌ يقال له ذو السويقتين من الحبشة يهدمها حجراً حجراً قال : ( يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة , ويَسْلِبُهَا حُلِيَهَا , ويجردها من كسوتها ولكأني أنظر إليه أصلعاً أفحجاً , يضرب بمسحاتِه ومِعْوَلِه ) .
وكذلك المدينة شرفها الله نال المسلمون فيها هزيمتهم الأولى في غزوة أحد حينما خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابهم ما أصابهم ووقع في المدينة كذلك آية وعلامة شبيهة بما يحصل اليوم قد تكون مقدمات لجنس ما وقع في ذلك الزمن وهو ما أخبر به النبي في قوله : ( لا تقوم الساعة حتى تخرج نارٌ من أرض الحجاز تضيء لها أعناق بصرى ) متفق عليه , وبُصرى بلد في أول الشام , فهذه العلامة العظيمة والآية الباهرة قد وقعت حقاً وصدقاً وكان ذلك سنة أربع وخمسين وستمائة ومن تتبع مقالات من وصفها يجد أن لها شبهاً ببعض ما يحصل اليوم , فقد ذكر بعضُ ما شاهدها وأدركها أن هذه النار خرجت من المدينة , وكان بِدؤها زلزلة عظيمة رجفت منها الأرض والحيطان والسقوف والأخشاب والأبواب وفي ليلة الأربعاء بعد العتمة في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة واستوت إلى ضحى نهار يوم الجمعة , ثم سكتت هذه الزلزلة , فظهر في أثرها نارٌ عظيمة تُرىَ في صورة البلد العظيم عليها سور محيط عليها أبراج ومآذن , لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته , وخرج معها مثل النهر أحمرُ أزرق لها دوي كدوي الرعد يأخذ الصخور بين يديه , وشوهد لها غليان كغليان البحر , وسالت معها أودية بالنار , يخرج من وسطها سهود وجبال نيران تأكل الحجارة فيما أ نموذج عما أخبر الله به في كتابه في قوله :{إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ{32} كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ{33} المرسلات23،33. ومن عظيم أثر هذه الزلزلة وتلك النار العظيمة التي توقدت من تلك البراكين , أن أثرها بلغ العراق رغم بُعدْ المسافة فقد جاء أن العراق زمن تلك الزلزلة أصابها غرق عظيم , حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد إليها , وغرق كثير منها , ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد , وانهدمت دار الوزير وثلاثمائة وثمانون داراً وأشرف الناس على الهلاك , حتى أصبحت السفن تدخل إلى وسط شوارع وأزقة بغداد , ولما وقعت هذه الزلزلة وتلك النار خرج أهل المدينة من مظالمهم وأقلعوا عن معاصيهم وتاب جميع أهلها , ولجأ الناس كلهم إلى المساجد ولزموها وألحوا على الله تعالى أن يزيل الكرب , ويكشف الخطب .
وأخلصوا لله تعالى وفي هذه الأثناء غطت النار السماءَ حمرة والناس بين مصلٍ وتالٍ للقرآن وراكعٍ وساجدٍ وداعٍ لله تعالى ومتنصل من ذنوبه ومستغفر وتائب , فحل عفو الله ولزمت النار مكانها وتناقص لهيبها , ثم سكنت .
قال أحدهم في وصف ما حدث
يا كاشف الضُر صفحاً عن جرائمنا *** لقد أحاطت بنا يا ربُ بأساءُ
نشكو إليك خطوباً لا نطيقُ لها *** حملاً ونحن بها حقاً أحقاءُ
زلازلُ تخشعُ الصُم الصٌلابُ لها *** وَكيف يقوى على الزلزال شماءُ
أقام سبعاً يرجُ الأرض فانصدعت *** عن منظرٍ منه عينُ الشمسِ عشواءُ
بحرٌ من النار تجري فوقهُ سفنٌ *** من الهضاب لها في الأرضِ أَرساءُ
كأنما فوقه الاجبالُ طافيةٌ *** موجٌ عليه لفرط البَهْج وعثاءُ
ترمي لها شرراً كالقصر طائشة *** كأنما ديمةٌ تنصب هطلاءُ
تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت *** رعباً وتُرعِدُ مثل السعفِ أضواءُ
فيالها آيةُ من معجزات رسول *** الله يعقلها القوم الألباءُ
فباسمك الأعظم المكنون إن عَظُمَتْ *** منا الذنوبُ وساء القلبُ أسواءُ
فاسمح وهب وتفضل وامح واعفُ وجد *** واصفح فكل لفرطِ الجهلِ خطاءُ
فقومُ يونسَ لما آمنوا كشف الــ *** عذاب عنهم وعَّم القوم نعَماءُ
ونحن أمةٌ هذا المصطفى ولنا *** منه إلى عفوك المرجوِ دعاء
والحمد لله رب العالمين
إقتباس
elshymaa @elshymaa
عضوة نشيطة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الامــيــرة01
•
جزاك الله خير
الصفحة الأخيرة