أخذت مقعدي وشرعت في تسجيل أسماء الفتيات و النساء اللاتي احتشدن في أول أيام الدراسة في مركز تحفيظ القرآن الكريم ، بدا عليهما الإرتياح لكنهما اكتفتا بالتبسم ولم تقولا شيئا ، ثم قالت إحداهما بلسان أعجمي : هل تتكلمين الإنجليزية ؟ ورحبت بهما بلغتهما هذه المرة ، فكأنما انتشلتهما من ( غيابة الجب )سألتها :
من أين الأخت؟
من أمريكا ، وصلنا الرياض حديثا ، قدمنا السعودية لنتعلم القرآن الكريم واللغة العربية ، كانت الكبرى هي المبادرة بالحديث ، عرفتني بنفسها ورفيقتها قائلة :
هذه عائشة ابنة زوجي وأنا سعيدة.
قلت مازحة :
هل أنت سعيدة أم أن هذا اسمك فقط ؟
ضحكت وقالت :
أنا أسميت نفسي سعيدة لأني سعيدة بهذا الدين.
دعوت لها بالسعادة في الدنيا والآخرة فقد أدخلت السعادة إلى قلبي .
في الفصل عرفت الدارسات بالضيفتين الكريمتين ، فرحبن بهما وقرأنا شيئا من القرآن ، كنت ألاحظ أن سعيدة تحرك شفتيها مع كل قارئة ، تحاول التعلم بكل ماأوتيت من إمكانات ، وعندما أخذت إحدى القارئات بتلاوة سورة الهمزة أخذت صاحبتنا الحيرة ، سألتها عما بها ، وقد كانت تعرف الحروف العربية لكنها تجهل المعاني ، قالت :
إن القارئة تقول :( ويلٌ ) لكل همزة ، وأنا لا أرى حرف النون !
ضحكت وقلت في نفسي : هذه ورطة ! وأخذت أشرح لها جهد طاقتي معنى التنوين وشكله ، لكن عندما قرأت قارئة أخرى من سورة البلد ، أدركت أني وقعت في ورطة جديدة أصعب من سابقتها ، فكلمة ( حل ) منونة لكن عليها ضمة واحدة بجانبها ميم صغيرة ، فكيف سأشرح لهذه الأخت الأعجمية حكم التجويد واصطلاحات ضبط المصحف ، الأمور التي تكاد لاتدركها كثير من الأخوات العربيات المسلمات .
وفي نهاية الدوام حرصت على الخروج قبل صاحبتيّ ، وأبلغت زوجي بأمر هذه الأسرة ، فقام على الفور بالتعرف بزوج سعيدة واسمه فجر الدين ، ودعوناهما بعد ذلك لزيارتنا في بيتنا ، وأعددنا لهم مأدبة عشاء دعونا إليها بعض الأصدقاء لتعريفهم بهذه الأسرة المهاجرة ، وأبدت أختنا سعيدة إعجابها الشديد بأخلاق المسلمين وكرمهم ، وحدثتني عن جارة لها تهديها باستمرار أطباقاً شهية من الطعام العربي ، حمدت الله على ذلك وقلت لها : لم تتعرفي بعد بأخلاق المسلمين ، فهذا قليل من كثير .
قالت في ذات يوم والسعادة بادية على محياها :
لقد بدأت أتعلم العربية .
قلت :
هذا خبر جميل ، وماذا تعلمت ؟
أخذت تستجمع قواها ثم قالت بالعربية :
أنا أحب الرياض .
قلت : ماشاء الله ، جميل حقاً وماذا أعجبك فيها ؟
قالت : كل مافيها حلال ، نشتري أي شيء ، نأكل أي شيء ولا نخاف من الحرام ، وأضافت : هناك في أمريكا البحث عن الطعام المباح يشكل هاجساً ، نحن لانستطيع أن نشتري بيتاً إلا بالربا .
( قالت كلمة حلال وكلمة ربا بالعربية )
وتابعت تقول :
نشعر بأمان لامثيل له هنا ، نخرج في أي وقت من ليل أو نهار ولانخاف شيئاً ، وهناك نمشي نتلفت حولنا نخشى أن نختطف .
تبادلنا بعد ذلك الزيارات ، ولاحظت خلال وجودي بمنزلهم أن الوضع المادي للأسرة مترد بشكل ظاهر , وعلمت من بعض أطراف الحديث أنهم يعيشون على راتب المنحة التي تدفعها الجامعة للزوج الذي يدرس العربية لغير الناطقين بها ، واعترافاً منهم بالجميل الذي أسداه إليهم أحد موظفي سفارة المملكة في الحصول على هذه المنحة فقد أسموا طفلهم باسمه ( هاشم ) وكانت يسرها أن نناديها بكنيتها ( أم هاشم )
وحدثت زميلاتي في المدرسة بأمر هذه الأسرة فسألت إحداهن :
هل هذه الأسرة فقيرة مادياً ؟ أشعر بذلك من حديثك عنهم .
قلت : إنها لاتشتكي ، لكني أحس من بعض مشاهداتي في منزلهم أنهم يتدبرون أمورهم بصعوبة .
في اليوم التالي قدمت لي صديقتي ظرفاً مغلقاً وطلبت مني إيصاله للأخت سعيدة ، وفي المساء ، استدعيت الأخت سعيدة إلى الإدارة و قدمت لها المظروف قائلةً :
هذا هدية من أخت لك في الله .
بدا عليها الإستغراب وتناولت المغلف ، وما إن فتحته حتى انخرطت في بكاء شديد . أخذت في تهدئتها وأنا أغالب دموعي تأثراً.
قالت وهي تحاول السيطرة على مشاعرها :
هل تعرفني صديقتك ؟
قلت : يكفي أنها أختك في الإسلام .
ردت متسائلة : ولكن لماذا تعطيني هذا المبلغ ؟ ماذا تريد مني بالمقابل ؟ هل تريد مني أن أعلمها هي أو أحد أولادها اللغة الإنجليزية .
قلت : لماذا تفكرين بهذه الطريقة ؟ هي لاتريد منك ( جزاءً ولا شكوراً ) إنما تبتغي بذلك وجه الله ، فعادت تبكي من جديد .
قلت : تستطيعين الدعاء لها وهذه مكافأة حسنة .
ثم سألتها إن كانت تريد دخول الفصل فقد حان وقت درس القرآن ، فاعتذرت قائلة :
إني بحاجة إلى أن أخلو إلى نفسي ، و أضافت كمن يكلم نفسه :
أريد أن أستوعب هذا الحدث .
ربت على كتفها وذهبت إلى الفصل فطالباتي ينتظرنني . وبالرغم من أني حاولت إخفاء ما بي إلا أن عائشة ابنة زوج سعيدة ذات الثلاثة عشر ربيعاً بادرتني بالسؤال :
ما بك ؟ كان واضحاً أنها تدرك أن شيئاً ما قد حدث ، أضافت : لقد كنت تبكين ، أين خالتي ؟ماذا حدث ؟
قلت : هي بخير اطمئني ، لكنها ترغب بالانفراد قليلاً .
فاستأذنت عائشة للخروج وقد دمعت عيناها قبل أن تعرف الحكاية .
استدعيت بعد ذلك بقليل إلى الإدارة فقد حضرت المشرفة لزيارة المركز ، وما إن رأتني حتى بدأتني بسيل من الأسئلة : من هذه المرأة ؟ ولماذا تجلس وحدها في ساحة المدرسة ؟ ولماذا تبكي هكذا ؟قلت : هي إحدى الدارسات في صفي وتمر بظروف خاصة ، ولم أشأ أن أسبب لها المزيد من الحرج بإبلاغ القصة للمشرفة ، وكانت المشرفة تتحلى بروح مرحة , قالت وهي تضحك عجباً :
سألتها لماذا تبكين ؟ فقالت وهي مستمرة بالبكاء : أنا سعيدة ، سعيدة جداً . فإذا كانت تبكي كل هذا البكاء لأنها سعيدة فماذا ستفعل إذا حزنت ؟!أنهت المشرفة زيارتها للمركز وقمت معها مودعة , فواجهتنا سعيدة مقبلة ، كانت مبتسمة هذه المرة والحمد لله ، قالت متسائلة وهي لاتزال تهز رأسها عجباً :
أهكذا هو الإسلام ؟! أهكذا هم المسلمون ؟!قلت : ياأختاه أنت حديثة العهد بالإسلام ، هذا الدين العظيم الذي يأمر بالإحسان إلى الأهل والوالدين والأقارب والجيران حتى لو كانوا غير مسلمين ، يأمر بالإحسان حتى إلى الأعداء ، إلى الأسرى ، بل يأمر بالإحسان إلى البهائم ! فكيف لايحسن المسلمون إلى مسلم مغترب نزل ضيفاً بساحتهم ؟!
هذا هو الأصل ، فإن وقعت في مشكلة وأنت وسط المسلمين ولم يهبوا لمساعدتك فهذا هو الأمر الذي يدعو للاستغراب وليس العكس .
بدا لي أنها تحمد الله بكل جوارحها على نعمة الإسلام كما لم تفعل من قبل .
تذكرت وأنا أصافحها مودعةً قول الله تعالى ( والمؤلفة قلوبهم )
وتذكرت قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء )فأحسنوا ... أحسنوا "إن الله يحب المحسنين "
منقووووووووووووول
ღღ زهـــــرة الــبــيــت ღღ @ghgh_zhr_albyt_ghgh
عضوة شرف في عالم حواء
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
ام الثلاثة
البسملة
Miss Casablanca
أشكر مروركن وردودكن
بارك الله فيكن
وجزاكن خيراً
البسملة
Miss Casablanca
أشكر مروركن وردودكن
بارك الله فيكن
وجزاكن خيراً
الصفحة الأخيرة
تسلمي على القصه الروعه
وتسلم أناملك اللي كتبت القصه وتعبت
الله لايضيع لك تعب ان شاء الله
ربي يجعلها في ميزان حسناتك .