أريكة الحرباء
ليلة خريفية باردة النسمات ، أبَت إلا أن يلامس نداها ماءً من نوع آخر ينحدر من مقلتين أضناهما الشعور بالذنب و خريف الأعمار ، و أن يُداعبَ نسيمها خصلات لحية بيضاءَ تهدلت على صدر أفعمته الأكدار .
على عتبة دار هجرها منذ الأمس القريب الزوجة و الأبناء ، تتوسط زقاقاً ينير عتمته بريق فانوس ضئيل ، يجلس العمّ حجّاج على أريكة خشبية نُقِش على ألواحها اللزجة تاريخ أسرة بأكمله ، و شهدتْ مساميرها الصدأة ألوانا من الابتسامة و الأحلام ، و أصنافا من الأهوال التي تشيب لها رؤوس الأطفال .
ضجيجُ أطيافٍ يحاصره من كل مكان ، يخطفه بعيداً ليحلق به بين ثنايا غيوم الزّمان .. يلتفتُ ذات اليمين و الشمال ، في انتظار تحية جار أو ابتسامة طفل عابر ، و من يدري ، ربّما يتحقق المستحيل و يستشعر يد زوجته أو أحد أبنائه تلامس كتفه بدفء و حنان . لكنه و للأسف لا يُبصر أمامه غيرَ مهرول يتجنبه ، أو شامتٍ ساخر ينظره بنصفِ عين .. لا سيّدة و لا سيّد ، لا ملتح و لا أمرد ، لا صاح و لا راقد ، لا أحد بالإطلاق يكترث لأمر سيفٍ حاقد ، لطالما بتر بحدّه أعناقَ رياحينَ أينعتْ في بيت صامد .
قبل ما يزيد عن عقدين من الزمن ، يوم تربّع حبّ هند في قلب حجاج المنغلق على نفسه ، انسحب من حضن والديه المحافظين لينفرد بحضن محبوبته الموظفة التي تنتمي إلى أسرة تؤمن بالحداثة المتّزنة .
قصة حبّ عرفتْ صراعاً عنيفاً بين عائلتين، كلّ منها لها أسلوبها الخاص في الحياة . المحافظة ترى النّقاب الشامل واجب ، و تطوع المرأة للعمل من أجل مساندة الرجل أمر خائب ، فلا تلبث أن تنعت كل امرأة يهفو قلبها لمسايرة العصر بالكفر و التبرج ، واصفة إياها كما وصفها المتشددون من قبلها من أنها ( كسيجارة يدخنها المرء ، و لحظة ينتهي منها يفرك عقبها في المنفضة ) . بينما الأخرى تؤمن بكفاءة المرأة و اندماجها كفاعل فعال في المجتمع ، لا يهمها من أمر المرأة غير ستر عورتها و صيانة شرفها و الحفاظ على هويتها الدّينية .
صراع أعقبه صراع ، و انتصر الحبّ أخيراً و انفكّ الصداع . تزوج حجاج من هند رغم أنف أمه و أبيه . اقتنى لنفسه بيتا في زقاق لا يبعد عن مسكن والديه . منذ اللحظة حاول جاهداً رفقة زوجته المتسامحة دحر النزاع و استمالة والديه لعل المياه تعود إلى مجاريها ، لكنهما كانا يلاقيان منهما كل مرة من القذف و الشتم ما لا يطيقانه ، بل وعداها بالويل إن حاولا من جديد الاقتراب من باب بيتهما .
مرت سنتين كانت بالنسبة للعروسين أحلى و أجمل أيام العمر . نسِيا خلالها عطف الآباء و حنين الأمهات ، سمر الأصدقاء و دعابة الأخوات . لفّهما الوجدان و كأنهما بطلي ( طوق الحمامة ) ، أمسى الحبّ بينهما تكاملا رغم الاختلاف الفكري ، لينعما بعلاقة تبادلية ، حبّ و حنان من هذا الطرف يرتدّ مضاعفا إلى الطرف الآخر .
على أريكة خشبية نُصِبت في بهو المنزل ، جلس حجاج إلى جانب زوجته التي أمست تنتظر مولودها كل لحظة و حين . كانت تقرأ مجلة ثقافية و قد برز العبوس و الامتعاص على محياها ، بينما حجاج يراقب ذهولها في صمت ، يداعب لحيته الكثة السوداء بأطراف أصابعه ، يتململ ، يصلح من جلسته ، يسألها و عيناه تلمعان ببريق وهاج :
ـــ ماذا تقرئين ؟ أراك على غير ما يرام ...
ترفع هند عينيها المرهقتين و العرق يتصبب من جبينها ، ترمي المجلة فوق الطاولة فتجيب : ـــ يراودني اللحظة ألمٌ طفيف .. ما كان علي و أنا على وشك الوضع أن أقرأ تاريخ العراق إبان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ...
يقترب منها ضاحكا :ـــ ماذا تقصدين بالألم ؟ هل تريدين وضع حملك في هذا الليل ؟ اصبري قليلا .. الصباح رباح ..
خرج حجاج باحثا عن سيارة تقل زوجته إلى المشفى ، يطوف الأزقة و الدروب ، ليل دامسٌ و شوارع خالية ، يجد نفسه فجأة قرب سيارة أبيه الراكنة في موقف السيارات .. حنين قديمٌ خيّم عليه و رشق فؤاده .. سيارة عتيقة سافرت به عبر الزمن ، عادت به إلى الوراء لتوقظ فيه ذكرى الطفولة و شوق الوالدين . بعد حيرة مزقت صبره ، قاده الشوق ليدق بابهما بعد منتصف الليل .
تلعثم في السلام و بعدها تقدم ليقبل يد أمه ، لكنها جذبت يدها لتفاجأه بلهجة جدّ قاسية :ـــ ماذا تريد ؟
ـــ بالله عليك يا أماه ، زوجتي تعاني من ألم المخاض و لم أجد سيارة تقلنا إلى المشفى .. أريد مساعدتك أرجوك ..
تضحك أمّ حجاج ملء شدقيها و تجيبه بنبرة ساخرة :
ـــ يا لك من أحمق غبيّ ، أبعد فعلتك الشنعاء و اقترانك بمتبرجة غير منقبة تريد أن تضع شرفك بين أيدي الأطباء ليعبثوا به كيف شاءوا ؟ اتق الله يا بني .. خد سيارة أبيك و عليك بالعمّة ميمونة ، أم تناسيت من أنها هي من سهرت على عملية إنجابي يوم أنجبتك .. هيا اغرب عن وجهي أيها المسحور ، و حبّذا لو حلقت تلك اللحية فهي لا تناسب ديّوثا مثلك .
وقع كلام الأم في قلب حجاج كسهم انطلق من قوس ، ساعياً بلا التواء نحو هدف مباشر. بات ملزماً على تنفيد أوامر أمه ، و خاصة بعد أن قدّمت له يد المساعدة كعربون لمصالحةٍ مرتقبة .
هو يؤمن أن أمه محقة في تصرفها ، و أن زوجته تائهة في عصرنتها . و ما كان سكوته الذي جعل منه يستكين و يخضع ، و يلين و يهجع ، إلا مسرّات شهر العسل الذي دام ربيعيْن من الزمن بعد الزواج .
و هو يدخل على هند رفقة العمّة ميمونة ، يجدانها مستلقيةً على الأريكةِ و قدِ ازداد وجعُها . تحاول العمّة مساعدتها و جسّ نبضها بطريقتها التقليدية ، لكنها ترفض ذلك ، ترمق حجاجا بنظراتٍ متسائلةٍ حائرة فتسأله : ـــ ماذا تنتظر ؟ خدني إلى المشفى ...
يجيبها بنبرة باردة :
ـــ عن أيّ مشفى تتحدثين ؟ هل أنجَبتْني أمي في المشفى ليُنجَبَ طفلي هناك ...؟
عمّ الضجيج و تبخّرت الابتسامة الماكرة ، تجلّى السرّ الدّفين و أمستْ ملامحه واضحةً بارزة ، كثر القيل و القال ، أوشكتْ هند أن تختنق إذ لا سبيل للخلاص من عنادِ شخص تحوّل بسرعة البرق إلى كابوس مخيف .
و هيّ تلتوي فوق الأريكة بجسدها المنهكة *** حية تصارع الموت ، تبدأ الدماء بالنزيف ، تفرّ العمّة ميمونة خوفاً من مشاكل لا دخلَ لها فيها ، يجدُ حجاج نفسه متوترا أمام الأمر الواقع ، فيأخدها على وجه السرعةِ إلى المشفى ، حيث نَجَتْ بأعجوبةٍ من موتٍ محقق ، بعد أن أنجبتْ توأمين يختلفان في الجنس.
منذ تلك الليلة المشؤومة ، و على امتداد عشرين خريف ، عاشت هند رفقة فلدتا كبدها سفيانّ و غادة في صراع عنيف مع حجاج . رغم رغد العيش باتوا و كأنهم تعاقدوا مع سلطان الموت ، أو كأنهم هياكل زنزانة حُكم عليها بالمؤبد . كلما بلغ السيل الزبى ، كان سفيان يتدخل من أجل نصرة أمه أو أخته غادة ، فيجد نفسه حينها بين مطرقة و سنداب ، بين عنف يدحر به عنفَ أبيه ، و بين مبادئ تمنعه من مسّ زغبة في رأس والده مهما تمادى في تجبره و تسلطه. كعادتهم كل يوم ، يجتمعون حول طاولة إفطار واحدة نظراً لضيق المنزل . سفيان و غادة يلتهمان الطعام التهاما رغم وفرته ، يأكلان بسرعة فائقة و عيناهما لا تبرحان الصحون الممتلأة ، بينما حجاج ينظر إليهما باستغراب و هو يفرك أسنانه البيضاء بعود الأرك فيخاطبهما باسهزاء :
ـــ أمّكما أفسدتكما و لم تعلمكما حتى أدب الأكل .. كُلا ببطء .. من يراكما على هذه الحالة يظن أنكما لم تقربا الطعام منذ شهور ...
تحاول غادة الإجابة فيقاطعها سفيان :
ـــ أنتَ من جعل منّا نلتهم الطعام التهاما من غير شعور حتى و إن كنّا ضيوفا في منازل الغير ...
ـــ و ما دخلي أنا في كيفية تناولكما للطعام ؟
ـــ إذا أسرعنا في الأكل ، فإنّما لنغتنم الفرصة و نملأ البطون ، قبل أن تنقلب علينا الموائدُ و الصّحون .. أنسيتَ أنك قلبتَ على وجوهنا طيلة عشرين خريف ما يزيد عن ألف صِحن و تسعةٍ و تسعين مائدة؟ ما أكلنا يوماً آمنين و لا شربنا مطمئنين .. ما أحوجنا لأبٍ نلتمس فيه القلب العطوف .. الرجل الهادئ الرّزين ، إذا تكلم ينطق بالكلمة الطيبة العاقلة ، و إذا قّرر ينظر بعين الرؤية الثاقبة البعيدة . أنت بعيدٌ كل البعد عن هذه الأوصاف ، فكيف لك أن تجعل من أبنائك على الأقل يأكلون كبقية البشر ...؟
يثور حجاج في وجه ابنه محاولا إيذاءه و هو يزمجر بأعلى صوته: ـــ إن كنتُ قد حطمتُ في وجوهكم تسعة و تسعون مائدة ، فاليوم سأدمّر هذه لأكمل بها تمام المائة ..
حينها يندفع كالثور ، يرفع الطاولة بصحونها و أكوابها لتصبح ما بين لحظة و أخرى في خبر كان ، ثم اتجه نحو سفيان و شدّه من عنقه بكلتا يديه قائلا :
ـــ اِسمع يا هذا ، إذهبوا كلكم إلى الجحيم ، منذ اللحظة لا أريد أن أرى أحدا منكم في بيتي .. هل سمعت ..؟
يرُدّ سفيان و هو يطلق زفرةً تليها الأنّات و الآهات ، فاقداً أمله في دحر نزوةٍ لم يعد في مقدوره كبح جماحها :
ـــ سمعتُ كلامك ، و الأفضل لك أن تسمعَ كلامي أيضا ، سنرحل الليلة ، فأمي لها وظيفة تكفيها ، و بنت خلوقة تؤنسها، و ولد بار يحميها ، فإياك ثم إياك أن تقترب منا أو تحاول البحث عنا ، لأنه حينها سأتخلى عن مبادئي و إنسانيتي و أردّ لك الصّاع صاعين .
maarmaar11 @maarmaar11
عضوة جديدة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
iam-here
•
قصة تجسد نهاية تناحر على أمر فيه سعة
ليتنا نصل إلى علاج ناجع لـ توحد الرؤية
ثم ليتنا نتشبث بتلابيب مبادئنا وقناعاتنا التي تكفل انسجام الذات واقصاء الأزمات
قصة جيدة واصلي عزيزتي واعتني بالأهداف النبيلة
ليتنا نصل إلى علاج ناجع لـ توحد الرؤية
ثم ليتنا نتشبث بتلابيب مبادئنا وقناعاتنا التي تكفل انسجام الذات واقصاء الأزمات
قصة جيدة واصلي عزيزتي واعتني بالأهداف النبيلة
الصفحة الأخيرة
وفقك الله لكل خير ،، ومرحبا بمشاركات تفيدنا ولا تضللنا