الفقر إلى الله عز وجل
من سنة الله عز وجل مع أحبائه أن يبتليهم بالشدة ويمتحنهم بالأزمان حتى يحصل لهم من مقامات الصبر واللَّجإ إليه عز وجل والافتقار ما لا يحصل في الرخاء. قال عز من قائل لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا. ولا مبدل لكلمات الله.(سورة الأنعام، الآية: 35) وقال عز وجل مخاطبا الأمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في المحنة بمكة: أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض.(سورة النمل، الآية: 64) وقال جل وعلا: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة. وأولئك هم المهتدون.(سورة البقرة، الآية: 154) بلاؤه عز وجل بالبأساء لحزبه جماعة ولأحبائه أفرادا الهدف منه أن ينحازوا إليه ويقفوا على بابه، بعد أن قطع عنهم الأسباب، بالافتقار والذلة.وقد ابتلى الله سبحانه قوم موسى بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، لكنهم لم يتضرعوا فأصابهم الله بعذاب بِيسٍ بما كانوا يفسقون.
ابتلاء الأحباب ضَمٌّ بيد الحكمة إلى جناب الرحمة، وقبضة العذاب على الكافرين شدة عادلة جزاءً بما كسبت أيدي الناس. ويظهر فرق ما بين أولئك وهؤلاء في أن الأحباب يتضرعون ويَلْجَأون بالدعاء ويزداد افتقارهم لمولاهم صابرين على أذى من آذاهم حتى يأتيهم نصر الله، بينما أعداء الله تأخذهم الصاعقة وهم ينظرون، فلا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم من عذاب الله يُصْحبون، بعد عنادهم وعتوهم ورفضهم طاعة الله وطاعة من والاه.
وإنَّ الأشعثَ الأغبرَ ذا الطمرين الذي لو أقسم على الله لأبره نموذج للولي الظاهرِ فقرُ قلبه إلى ربه على ثوبه وقُوتِه. مظهر الفقر والمرقعة والزي صناعة ونفاق وشَرَك للصيد إن لم يكن في القلب نية، وإن لم يكن عزوف حقيقي عن الدنيا، وزهد فيها، وطلاق إرادي لها. على أن التقلل من الدنيا سنة نبوية المقصود منها أن يتخفف العباد من أثقالها ليُسارعوا إلى ربهم خفافا. ومن أبطأت به إرادته فما استطاع أن يرقى من سلبية الفقر من الدنيا والتقلل إلى إيجابية الفقر إلى الله والصعود في عقبة السلوك إليه اقتحاما، فليس حظّه هينا إن عصمه الله بالفَقْرِ المادي الاضطراري من ارتكاب المعاصي ومن الترف والتوسع في النِّعم.
الافتقار القلبي إلى الله عز وجل، مثلَ محبته ودوام ذكره، أشرف منازل الطريق عند السادة الصوفية، "وأعلاها وأرفعها. بل هي روح كل منزلة وسرّها ولبها وغايتها".
الافتقار إليه سبحانه بصادق الرغبة، وصادق النفور من الدنيا ودناءتها، وصادق الشعور بالإفلاس في الحياة إن لم يعرف العبد غاية وجوده، منزلة شامخة يقود الله عز وجل إليها بمقادات الاضطرار من شاء بما شاء. يقود إلى الشهادة في سبيله رجالا غضبوا لله لحظة فما وجدوا غير بذل النفس جملة. ويقود إلى الشهادة وإلى الصديقية رجالا نذروا حياتهم لله ولم يلتفتوا إلى غير الله حتى لقوا مصرعهم وهم في ساحة القتال أو في ساحة تدبير الجهاد وإصلاح شأن الأمة. وحبَس حابس الفقر والعُدْم والفتنة آخرين فتشبهوا بالكرام ولحقوا بمقامات الصديقية عن طريق الصحبة والذكر والصدق والمجاهدة. هؤلاء هم السادة الصوفية فقهاءُ القلوب وأطباؤها، ولكل من رشف من شرابهم نصيبٌ إن لم يرتفع بهم إلى حقيقة العبودية وذروة الجهاد فقد خرجوا من الدنيا إلى الآخرة بعد أن أطلق عليهم في الملكوت نعتُ الافتقار إلى الله لحظة. يا لها من غنيمة للضعفاء والعجزة الذين لا يجدون ما ينفقون من رصيد السابقة ورصيد الرجولة ورصيد البذل مثلما بذله السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، سادة هذه المنزلة وكل منزلة.
قال شيخ الإسلام ابن القيم يلخص لنا بأسلوبه الأخاذ أوصاف الفقير إلى الله وصفا جامعا: "جملة نعت الفقير حقا أنه المتخلي عن الدنيا تظرُّفا، والمتجافي عنها تعفُّفا. لا يستغني بها تكثّرا ولا يستكثر منها تملُّكا. وإن كان مالكا لها بهذا الشرط لم تضرَّهُ، بل هو فقيرٌ غناه في فقره، وغنى فقره في غناه. ومن نعته أن يكون فقيرا من حاله ، وهو خروجه عن الحال تبرِّيا، وترك الالتفات إليه تسلِّيا، وترك مساكنة الأحوال، والرجوع عن موافقتها. فلا يستغني بها اعتمادا عليها، ولا يفتقر إليها مساكنة لها.
"ومن نعته أنه يعمل على موافقة الله في الصبر والرضى والتوكل والإنابة. فهو عامل على مراد الله منه لا على موافقة هواه، وهو تحصيل مراده من الله. فالفقير خالصٌ بكليته لله سبحانه، ليس لنفسه ولا لهواه في أحواله حظ ونصيب، بل عملُه بقيام شاهد الحق، وفناء شاهد نفسه. قد غيبه شاهد الحق عن شاهد نفسه. فهو يريد الله بمراد الله. فَمُعَوّلُه على الله وهمته لا تقف على شيء سواه. قد فَنِيَ بحبه عن حب ما سواه، وبأمره عن هواه، وبحسن اختياره له عن اختياره لنفسه. فهو في واد والناس في واد. خاضِعٌ متواضع، سليم القلب، سلسُ القياد للحق، سريع القلب إلى ذكر الله، بريء من الدعاوي، لا يدعي بلسانه ولا بقلبه ولابحاله، زاهد في كل ما سوى الله، راغب في كل ما يقرب إلى الله، قريب من الناس، أبعد شيء منهم، يأنس بما يستوحشون منه، ويستوحش مما يأنسون به، منفرد في طريق طلبه، لا تقيده الرسوم، ولا تملكه الفوائد، ولا يفرح بموجود، ولا يأسف على مفقود. من جالسه قرَّت عينه به، ومن رآه ذكَّرته رؤيته بالله سبحانه.قد حمل كلَّه ومؤْنته عن الناس، واحتمل أذاهم، وكف أذاه عنهم، وبذل لهم نصيحته، وسبَّل لهم عِرضَه ونفسه، لا لمعاوضة ولا لذلة وعجز. لا يدخل فيما لا يعنيه، ولا يبخل بما لا ينقصه. وصفُه الصدقُ والعفةُ والإيثار والتواضع والحلم والوقار والاحتمال. لا يتوقع لما يبذله للناس منهم عِوَضا ولا مِدْحَةً.لا يعاتب ولا يخاصم ولا يطالب، ولا يرى له على أحد حقا، ولا يرى له على أحد فضلا. مُقبلٌ على شأنه، مكرم لإخوانه، بَخِيلٌ بزمانه، حافظ للسانه، مسافر في ليله ونهاره، ويقظته ومنامه. لا يضع عصا السير عن عاتقه حتى يصل إلى مطلبه. قد رُفع له عَلَمُ الحب، فشمَّر إليه، وناداه على الاشتياق فأقبل بكليته عليه. أجاب منادي المحبة إذ دعاه: حي على الفلاح، وواصل السُّرى في بيداء الطلب فحمد عند الوصول مسراه. وإنما يحمد القوم السُّرى عند الصباح".
لمى الغامدي @lm_alghamdy
عضوة فعالة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
يآرب فرج همي واستجب دعائي