بسم الله الرحمن الرحيم
مارأيكم اليوم أن نعرف من هو الكريم ابن الكريم؟؟؟
الكريم ابن الكريم
قصة يوسف فيها عبر وفوائد جمة لمن تأملها .
وفيها متعة وتشويق للنفس البشرية
فهي تحكي أطوار حياة نبي من أنبياء الله ، منذ الصغر إلى أن تقلد المنصب الكبير في عصره .
وفي هذه الورقات نقوم بجولة عجلى على مقطعين من مقاطع السورة نستلهم منها العبر والدروس النافعة لنا .
يقول سبحانه : {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رأيت أحد عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رأيتهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإنسان عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إبراهيم وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)} .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ))(32).
دخل عمر ، رضي الله عنه ،مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد قاصا يقص على الناس من أخبار الجاهلية والأمم السابقة فقال عمر : من هذا ؟
قالوا : قاص يقص علينا .
فعلاه عمر بالدرة وقال : أتقص يا عدو نفسك والله يقول : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } (يوسف: من الآية3).
ومن أحسن القصص : قصة يوسف ، عليه السلام .
وبطلها هو : يوسف صلى الله عليه وسلم الذي مر بأربع مشاهد:
1- مشهد الفراق لأبيه عندما فارقه أربعين سنة لم يشاهده فيها .
2- ومشهد الفتنة مع امرأة العزيز التي تعرضت له ، وهي من أجمل خلق الله .
3- ومشهد السجن عندما سجن في ذات الله ،ومحص ليخرج برضوان الله .
4- ومشهد الوزراة والملك عندما اعتلى على مناصب القوة ومراكزها في عصره .
قال تعالى في أول السورة ( الر ) فمن هذه الحروف نتكلم .
ومن هذه الحروف نقول كلماتنا.
فيا أيها الفصحاء .. يا قريش اللسناء .. يا قريش البليغة . تعالوا فصوغوا من هذه الحروف قرانا ، كما صغنا قرآننا .
فالمادة موجودة والخام معروف.
ولكن هل تستطيعون ؟
لا !!! لن تستطيعوا ، { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا } (البقرة: من الآية24) .
ثم قال تعالى : { تلك آيات الكتاب المبين } كتاب بين واضح ، { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (يوسف:2) فيا من نام وما استيقظ ... استيقظ بهذا القران .
ويا من غفل ولم يصح ... اصح بهذا القرن .
ويا من فقد عقله ... أعقل بهذا القران .
ثم يقول ، تبارك وتعالى ، مقدما للقصة المدهشة التي ما سمع الناس بمثلها{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يوسف: من الآية3)، فأروع القصص وأصدق القصص هي قصص القران.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف:3). كنت أميا لا تقرا ولا تكتب .
كنت في صحراء مع أمة أمية جاهلية ليس عندها أي قصص ، وليس عندها علم ، فاسمع الآن القصص .
ثم ينتقل بنا القران إلى يوسف صلى الله عليه وسلم ، والى أبيه يعقوب ، إلى الأنبياء المطهرين والأسرة العريقة ذات الكرم والجود والتقوى .
وما كان من خير آتاه فإنما *** توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطى إلا وشيجة *** وتغرس إلا في منابتها النخل
يصحو يوسف ، عليه السلام ،وهو غلام فيما يقارب العاشرة فيجلس أمام أبيه ، ومن أجب الأعاجيب عند الطفلان يرى في النوم رؤيا ليفرح بها ويقصها على أبيه وأمه ، وبعضهم يزيد فيها وينقص .
وأما يوسف صلى الله عليه وسلم فما زخرف وما زاد ، بل جلس أمام أبيه ، وقال : يا أبتاه !! إني رأيت البارحة أحد عشر كوكبا في السماء والشمس والقمر .
ولو سكت لما كان في القصة عجب ؛ لأن الكل يرى النجوم والكواكب والشمس والقمر ، ولكن سر الرؤيا كان في الخاتمة {رأيتهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (يوسف: من الآية4).
ففزع يعقوب بهذه الرؤيا ، وفطن لأنه من الأنبياء ، وعلم أن ابنه هذا سوف يكون له شأن أيما شأن ، وسوف يكون وارثه في النبوة .
فخاف أن يخبر إخوانه بهذه الرؤيا ، فيأتي الشيطان فيفسد ما بينهم وبينه .
فقال : ( يا بني ) للتحبيب {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} (يوسف: من الآية5) حذاري حذاري أن يسمعوا هذه القصة ، فلا تخبرهم أبدا انك رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون لك .
ولكن يوسف ، عليه السلام ، نسي لصغره الوصية ، فأخبر بها إخوانه عندما جلس معهم .
ولذلك علمنا صلى الله عليه وسلم أن أحدنا إذا رأى رؤيا أن لا يقصها إلا على من يحب (24).
فثار الحقد والحسد في قلوب إخوانه ، وبدءوا يدبرون له المكايد .
فعلم يعقوب بأنهم علموا الرؤيا فتضايق وخاف منهم على أخيهم .
ثم قال تعالى : {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيات لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8)} فهم إضافة إلى تلك الرؤيا التي أثارتهم ، قد ازدادوا بغضا ليوسف عندما رأوا أباهم يقربه ويحبه ويبش له دونهم .
وفي هذا : تنبيه للآباء بأن لا يفضلوا أحد أبنائهم على الآخرين ؛ لأنه في النهاية إن لم يصرفه الله عن السوء سيكون مثل إخوة يوسف ، ولا شك .
ولا تغررك الأفعال الظاهرة ، فإن بعض القلوب والنفوس تكتم شعورها لتفرغه في الوقت المناسب .
المهم : أنهم دبروا لأخيهم مكيدة ما سمع التاريخ بمثلها .
فهو طفل صغير عاقل تقي ورع من أبناء النبوة ،لكنهم قرروا قتله أو إخفاءه .
{يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً}
لماذا كل هذا ؟
{يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أي : سوف تختلون بأبيكم وينفرد بحبكم ، {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} فتتوبون من الخطأ ، وتستغفرون الله من الجريمة ،ويتوب الله عليكم .
قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : نووا التوبة قبل الذنب .
{قَائِلٌ مِنْهُمْ} وهو أكبرهم {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} فالقتل جريمة نكراء عند هذا الأخ الذي تحركت غيرته على أخيه نوعا ما ، فجعلته يختار عدم القتل ، ولكن {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ } ي : في بئر عميقة ، {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أي : مصممين على هذه الفعلة .
فلما اجتمعوا، اجمعوا أمرهم على هذه المكيدة.
ولكن ، من يخرج يوسف من بيد يدي أبيهم ، عليه السلام :
فأتوا يوما وقالوا : {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} أنحن خونة ؟ أتشك فينا ؟ هل ضربناه ؟ هل حسدناه ؟ {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} فنحن نحبه والله ، وننصح له ، ولا نريد إلا الخير له .
ثم أكدوا طلبهم وقرنوه ببعض الأعذار المغرية والتطمينات فقالوا : {أرسلهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي : يرعى معنا الغنم ، بل ويلعب أيضا ؛ لأن الصغار دائما يحبون اللعب ، ولا تخف فنحن سنحفظه من اللصوص ومن الذئاب لأننا عصبة كثيرون.
فقال ، عليه السلام : {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} أجد وحشة والله على هذا الابن أن يذهب من بيتي ، (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) لما كانوا قالوا في الأخير : {أَكَلَهُ الذِّئْبُ} لأن هذا ليس في أذهانهم منذ البداية ، فهو ، عليه السلام ، قد سهل لهم العذر والمكيدة.
فخرجوا به، فلما أصبحوا في الصحراء ، والغنم ترتع وتأكل وهم يلعبون ، والجو ساكن وهادئ ، والطيور تغرد وتزغرد ، والنسيم يعل وينهل على الأعشاب ، ولكن القلوب تغلي بالحقد على الأخ الحبيب القريب والصغير .
فأخذوه ، وقيدوه بحبل ، وأنزلوه في البئر .
فأخذ يستغيث ويظن أنهم يمزحون ، وقد خيروه بين القتل وبين أن يلقى في البئر .
كفى بك داءان ترى الموت شافيا *** وحسب المنايا أن يكن امانيا
تمنيتها لما تمنيت أن تــــرى *** صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا
فأنزلوه ، وهو يتشبث بالحبل ، ويبكي .
قال ابن عباس ، وهو يبكي ، حينما قرأ سورة يوسف : هدأت الحيتان في البحر من التسبيح ، ولم يهدأ يوسف ، عليه السلام ، من التسبيح.
فلما نزل في قعر البئر ، قطعوا الحبل ، فبقي في حفظ الله ، وفي رعاية الله .
وإذا العناية لاحظتك عيونهــا *** نم فالحوادث كلهن أمان
قطعوا الحبل ، وتركوه في البئر ، وهو يلهج بذكر الله في الصحراء ، وحيدا ليس معه إلا الله .
الذئاب حوله ، والجو مكفهر ، لا خبز ولا ماء ولا طعام ، ولا أهل ولا جيران ولا أحبة ولا مؤنس يؤنس ، وإنما الذئب يعوي في صحراء مدوية.
عوى الذئب استأنست بالذئب إذ عوى *** وصوت إنسان فكدت أطير
وإخوته بفعلهم هذا قد أخطأوا في ثلاث مواطن:
الأول : أنهم نفذوا جريمتهم في أول يوم يذهب فيه معهم ،وهذا دليل على شدة تعجلهم بالانتقام منه ، وإزالته من أمام أعينهم .
ولو أعادوه ليطمئن أبوهم لما شك فيهم ، ولكنها حكمة الله التي فضحتهم .
الثاني : أنهم خلعوا قميصه ،ولم يمزقوه ، وقالوا : أكله الذئب .
وهذه غفلة منهم ؛ لأن الذئب إذا أراد الأكل لا يخلع القميص بل يمزقه !!
الثالث : أنهم عندما عادوا لأبيهم وأخبروه قالوا: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا}(يوسف: من الآية17 ) أي : بمصدق.
وهذا كقولهم في المثل : ( كاد المريب أن يقول خذوني ).
فأوحى الله إلى يوسف {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي: ستمر الأيام وتخبرهم بهذا الصنيع منهم بعد سنين طويلة .
فعاد الإخوة إلى أبيهم في العشاء يبكون .
ولماذا العشاء ؟
لماذا لم يعودوا في العصر ؟
قيل : لئلا يرى أبوهم الدم بوضوح ،فيكتشف انه ليس بدم آدمي.
وقيل : ليتوهم أنهم تأخروا في مطاردة الذئب !
فسألهم : ما الخبر ؟
ما هذه الدموع الساخنة ؟ ( دموع التماسيح!).
فسألهم : ما الخبر ؟
ما هذه الدموع الساخنة ؟ ( دموع التماسيح!).
فقالوا : (إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ) أي : نتسابق ونجري (وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا) لكي لا يصل أو يبعد عن أعيننا (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) أي : جاء الذئب وأكله ونحن لاهون في مسابقتنا ولعبنا .
ثم قالوا : حتما لن تصدقنا {أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} لكن انظر إلى الدليل : أخرجوا له القميص وجعلوه قريبا منه ليلمح آثار الدم عليه . لكنه ، عليه السلام ، علم المكيدة من اللمحات والنظرات والريبة ، و القميص الذي لم يمسسه مزق واحد ، فقال : {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أنفسكُمْ أَمْراً} لقد كدتم مكيدة {جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} .
قال ابن تيمية ، رحمه الله : الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه .
والصبر الجميل : هو الذي لا تظهر فيه الفقر والمسكنة إلا لله .
والصبر الجميل : أن تتجمل أمام خلق الله .
قيل لأحد العباد : ما هو الصبر الجميل ؟
قال : أن يقطع جسمك قطعة قطعة ، وأنت تبتسم.
وقال آخر : الصبر الجميل أن تبتلى ، وقلبك يقول : الحمد لله .
ثم تولى يبكي حتى ابيضت عيناه.
وبالفعل صبر يوسف ، عليه السلام ، حتى أرسل الله ، عز وجل ، برحمة منه قافلة تمر من ذلك المكان ،وبالقرب من البئر ، فذهب و أردهم وأدلى دلوه في البئر يستقي الماء ، فتعلق يوسف ، عليه السلام ، بالدلو ، فلما سحب الرجل الدلو رأى غلاما جميلا قد أوتي شطر الحسن ، فقال لأصحابه : {يَا بُشْرَى} فانتبهوا ، فقال : {هَذَا غُلامٌ} أي : خادم وعبد لي ، سوف أبيعه .
ثم يقول عز من قائل : {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} قيل : أخفاه بعضهم عن بعض وجعلوه بضاعة .
وقيل : أخفوه من الناس ، خوفا أن يجدوا أباه أو أقاربه ، وما علموا أن إخوانه هم الذين تركوه وهم الذين طرحوه وهم الذين هجروه و أبعدوه .
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فالله يتابع سيرة هذا النبي ، وقصة هذا الرسول الكريم ، عليه الصلاة والسلام .
وذهبوا به {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} وشرى هنا : بمعنى باع .
{بِثَمَنٍ بَخْسٍ} لأن الدنيا وما فيها لو دفعت في مثل يوسف عليه لإسلام ، لكانت بخسا ، ولكانت غبنا ، ولكانت خسارة .
{دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} ولم يقل موزونة ، لأن المعدود دائما اقل من الموزون ، {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} أي : لا يرغبون فيه ، ولا يريدون أن يكون معهم .
{الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} ولم يسمه الله باسمه .
قيل : لأن القصة ليوسف ، عليه السلام ، فما كان لأحد أن يزاحمه فيها .
وقيل : لأن كلمة العزيز لا يستحقها العزيز ؛ لأن العزيز من اعزه الله بطاعته ،والشريف من دخل في عبودية الله.
ومما زادني شرفا وفخـــرا *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيرت أحمد لي نبيا
فقال لامرأته : {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} وهذا مبالغة في الإكرام ، أي : أحسني طعامه وشرابه وكسوته ومنامه ، {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} فيخدمنا في أغراضنا ، ويقضي لنا بعض حوائجنا ، (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) لأن العزيز كان حصورا لا يأتي النساء ، وكانت امرأته عقيما.
فأراد أن يتخذ هذا الغلام ولدا يترعرع في بيتهم ، يهدؤون ويرتاحون إليه ، وهم لا يشعرون انه لن يكون لهم ولدا ، بل سوف يكون نبيا من الأنبياء ، ورسولا يحمل رسالة السماء إلى الأرض ، وداعية إصلاح يحرر الشعوب ويقود الأجيال إلى الله .
ومكث ، عليه السلام ، في قصر العزيز تقيا عابدا متألها متعلقا بالحي القيوم .
وتمر الأيام ، ويزداد حسنا إلى حسنه ،وجمالا إلى جماله .
فتراوده المرأة التي عاش معها تلك السنين الطويلة.
فيا للفتنة!
ويا للمحنة!
شاب أعزب فيه الشهوة ، وليس له أهل يعود إليهم ، وغريب لا خشى على نفسه من السمعة القبيحة ، كما يخشى صاحب الوطن ، {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} تعرضت له كثيرا ، وتجملت له دائما ؛ لأنها ذات منصب وذات جمال ، فهي كملكة في قصر ملك .
ولكن الله معه يحفظه ويسدده .
وفي يوم من الأيام عملت على إغلاق الأبواب كما قال تعالى : {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} وكانت سبعة أبواب ، فغلقت كل باب ، ولم يقل سبحانه : أغلقت ، وإنما {وَغَلَّقَتِ} زيادة في المبنى ليزيد المعنى .
فخلت معه ولكن الله سبحانه وتعالى يراهما {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)} .
{هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} .. فخلا بالمعصية ، لكن ما خلا عن عين الله .
وإذا خلوت بريبة في ظلمــة *** والنفس داعية إلى الطغيان
استحيي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني
{وَهَمَّ بِهَا} أي : هاجت الشهوة في قلبه ، عليه السلام ، {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ}.
فما هو برهان ربه يا ترى ؟
تلك أقوال المفسرين ، أعرضها عليكم ، ثم نخرج بالراجح ، إن شاء الله :
1- قال ابن عباس ، رضي الله عنه : لما هم يوسف بها سمع هاتفاً يهتف يقول : يا يوسف ، إنني كتبتك في ديوان الأنبياء ن فلا تفعل فعل السفهاء.
2- وقال السدي : سمع هاتفا يهتف ويقول : يا يوسف ، اتق الله ، فانك كالطائر الذي يزينه ريشه ، فإذا فعلت الفاحشة فقد نتفت ريشك.
3- وقال بعض المفسرين : رأى لوحة في القصر مكتوب عليها {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً }
4- وقال غيرهم : رأى كفا مكتوبا عليه {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} أي : إننا نحفظ تصرفاتكم وحركاتكم وسكناتكم.
5- وقيل : بل رأى يعقوب أباه في طرف الدار قد عض على إصبعه وهو يقول : يا يوسف ، اتق الله ، أورده ابن جرير وابن كثير .
6- وقال بعض أهل العلم من المفسرين أيضا : لما همت به وهم بها قالت : انتظر ، فقامت إلى صنم في طرف البيت فسترته بجلباب على وجهه .
قال : ما لك ؟
قالت : هذا الهي استحي أن يراني.
فدمعت عينا يوسف ، وقال : أتستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر ، ولا يملك ضرا ولا نفعا ، ولا حياة ولا نشورا ، ولا أستحي من الله الذي بيده مقاليد الأمور .
7- ويرى ابن تيمية ، شيخ الإسلام ، وغيره من أهل العلم : أن برهان ربه الذي رآه ، هو : واعظ الله في قلب كل مؤمن ، فقد تحرك واعظ الله ، والحياء من الله ، والخجل من الحي القيوم في قلب يوسف ، عليه السلام ، فارتدع عن المعصية وعاد منيبا إلى الله {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} فتذكر الوقوف بين يدي الله فتراجع.
فهل آن لشباب الإسلام أن يتحرك واعظ الله في قلوبهم ؟
وهل آن للمسلمين أن يجعلوا من يوسف ، عليه السلام ، قدوة لهم ؟
فيا من يتطلع على عورات المسلمين ، أليس لك في يوسف ، عليه السلام ، قدوة ؟
يا من يعامل ربه بالمعاصي ! ويرتكب الجرائم ! ويحرص على الزنا! أما رأيت يوسف؟؟ وقد خلا بامرأة جميلة ذات منصب ، فتذكر واعظ الله في قلبه ؟
ويا من دعا إلى التبرج والسفور !! أما رأيت ما صنعت الخلطة بالنبي المعصوم الذي كان أن يزل وان يهلك ؟ وأنت تنادي المرأة أن تتبرج وتسفر عن وجهها وتخالط الرجال !!.
يقول صلى الله عليه وسلم : (( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما))(25) .
ويقول صلى الله عليه وسلم : (( لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة ))(26).
ثم قال الله له : {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} لنعمر مستقبله باليقين ، ولنجعله من ورثة جنة رب العالمين مع المؤمنين الخالدين {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} ، وإذا اخلص العبد لله حماه الله من الفتن ، ووقاه المحن ، وجنبه الشرور .
يقول سعيد بن المسيب ، رحمه الله : إن الناس في كنف الله وستره ، فإذا أراد أن يفضح بعضهم رفع ستره ، سبحانه وتعالى ، عنهم ثم قال الله عز وجل : {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} هو يهرب من الفاحشة وهي تلاحقه .
يهرب إلى الله ، ويفر إلى الحي القيوم وهي تلاحقه (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) شقت قميصه وهي تلاحقه وتدعوه إلى نفسها ، وهو يلتجئ إلى الله ويصيح بأعلى صوته ، وصوته يدوي في القصر {مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ }قال بعض المفسرين : يعني بذلك زوجها الذي أحسن مثواه ، وهو يسمي (ربا) عندهم أي : سيدا ، كقولنا : ( رب الناقة ) أي : سيدها.
وقال السدي وغيره : إنه الهي الحي القيوم ،اجتباني ورباني وعلمني وحفظني وحماني وكفاني وآواني فكيف أخونه في أرضه ؟
يا من أراد أن يتجاوز المحرمات ويتعدى الحرمات تذكر معروف الله .
{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}إن هذه القصة مذهلة ومدهشة ، فكلها مفاجآت وبغتات.
فبينما هي تلاحقه ، وإذ بسيدها أو بزوجها عند الباب .
ولكن انظر إلى كيد النساء ومكرهن ، فهي قد سبقت يوسف بالكلام ، واتهمته بأنه يريدها عن نفسها! ثم أصدرت الحكم عليه وقالت : {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أراد بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
قال ابن عباس : يضرب بالسياط.
فقال يوسف بلسان الصادق الناصح الأمين التقي الورع الزاهد العابد : {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} وصدق لعمر الله ، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أهلها} قيل : من أبناء عمها ، وقيل : رجل من الخدم .
والصحيح الذي عليه الجمهور : انه طفل صغير ، كان بالغرفة لا يتكلم أنطقه الله الذي أنطق كل شيء .
ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (( أربعة تكلموا في المهد : ماشطة امرأة فرعون ، والغلام الذي مع جريج ، وعيسى عليه السلام ، والغلام الذي شهد ليوسف عليه السلام ))(27) وسنده جيد.
وقال لهم : انظروا إن كان القميص قد شق من خلفه فهي الكاذبة ، وهو الصادق ؛ لأنها هي التي مزقته ، فهي التي تجري خلفه .
وإن كان قد شق من الإمام فهو الكاذب – وحاشاه – وهي الصادقة ، لأنه سيكون هو الذي هاجمها .
فوجدوا انه هو الصادق ، عليه السلام ، فنصحه زوجها بأن لا يخبر أحدا ، ولا يشيع الخبر في الناس ، فقال : {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} .
وأما المرأة فنصحها برفق ولين ، على الرغم من جريمتها!!
فقال : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) فقط استغفري وتوبي !
فأنقذه ، سبحانه وتعالى ، من البئر عندما كاد له أخوته ، وأنقذه ، سبحانه وتعالى ، من الفتنة عندما كادت له امرأة العزيز .
ولكن بقيت محنته القادمة التي سيتعرض لها في السجن ، ولعلها تأتي في موضع آخر .
* فوائد من قصة يوسف :
ولكن نستفيد من هذين المقطعين من قصة يوسف ، عليه السلام ، امورا عظيمة ، تهم حياتنا في البيت أو في المجتمع .
أولا: أن هذا القران معجز وبليغ ، وقد تحدى به الله العرب الفصحاء فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله .
قال سبحانه : {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } .
ثانيا : أن الرؤيا منها ما يكون حقا ، ومنها ما يكون باطلا ، فإذا كانت من الرجل الصالح ، ولم تكن بأمر مستحيل ، فهي صادقة ، بإذن الله .
ثالثا : أن على المسلم إذا رأى رؤيا أن لا يخبر بها إلا من يحب ، ولا يخبر بها كل الناس.
أما الرؤيا السيئة ، فلا يخبر بها أحدا ؛ لأنها لن تضره ، بإذن الله .
رابعا : أن الناس قد فطر كثير من منهم على الحسد.
قال الحسن : ما خلا جسد من حسد ، ولكن الكريم يخفيه ، واللئيم يبديه .
وهو من أعظم الذنوب ؛ لأنه يأكل الحسنات ، كما تأكل النار الحطب.
وهو يذهب بالتقوى ، ويغضب الرب سبحانه ، قال سبحانه : {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وهو أول أمر عصي به الله ، وذلك عندما حسد إبليس آدم.
والواجب على الحاسد : أن يتقي الله ، وان يعلم أن الأمور بيد الله ، والفضل له يعطيه من شاء ، فانك إذا حسدت أحدا فقد اعترضت على قضاء الله وحكمته .
يقول الشاعر:
ألا قل لمن ظل لي حاســـدا *** أتدري على من أسأت الأدب
أسات على الله سبحانــــه *** لأنك لم تر لي ما وهــب
وواجب الحاسد : أن يستغفر ويتوب ، ويدعو لأخيه بخير ، وأن لا ينافسه إلا على أمور الآخرة المقربة عند الله ، أما الدنيا فإنها تأتي وتذهب.
خامسا : عدم تفضيل بعض الأبناء على بعض ، كما سبق ؛ لأن هذا يورث الحسد والبغضاء بينهم ، وعدم إعطاء أحدهم شيئا دون الآخر .
ولذلك لما أتى النعمان بن بشير يشهد الرسول صلى الله عليه وسلم على عطيته لأحد أبنائه ، قال له صلى الله عليه وسلم : (( أأعطيت كل أبنائك مثله ؟)).
قال : لا
قال : (( لا تشهدني على جور ))(28).
سادسا : أن الحافظ ، هو : الله سبحانه دون غيره ، فالجأ إليه في الضوائق والشدائد ليحفظك سبحانه ، ومن عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة.
سابعا: وجوب الصبر عند الفتنة ، خاصة فتنة النساء ، والالتجاء إلى الله ليصرفها عنك ، وخير ما يصرفها كما قال سبحانه هو التقوى والإخلاص.
هذه أبرز الفوائد من هذين المقطعين من هذه السورة العظيمة.
*****************************************
من كتاب شخيصات من القرآن الكريم للشخ عائض القرني
*ريفان* @ryfan_3
عضوة جديدة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️