الهدوء

ملتقى الإيمان

"أَهْدأُ ما يكون البحر عميقاً"

"العربة الفارغة أكثر جلبة من العربة الملأى"

الأمثلة الإنسانية تحفل بإبراز الهدوء على أنه فضيلة؛ وهو كذلك.

فالعقل يؤدي دوره حين يكون الجو صحواً، أما إذا حامت حوله سحب الغضب؛ فإنه ينكسف ويضعف، ويصبح تابعاً ذليلاً للعاطفة العاصفة!

ولا يجد خصمك ما يهزمك به أكثر من أن يجعلك في حالة استفزاز؛ فأنت حين تبتسم تفقد عدوك لذة الانتصار.

يقول ربنا سبحانه: "وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ".

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ تَتَوَقَّدُ".رواه أحمد وهو عند الترمذي والبيهقي

وحين حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيْ عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ". فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ". فَنَزَلَتْ "مَا كَانَ لِلنَّبِيِِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ".

الموقف صعب، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أحب أبا طالب، وقدّر مواقفه النبيلة إلى جانبه، وهو في النزع؛ فهي الفرصة الأخيرة ولن تتكرر، والموضوع هو أخطر الموضوعات على الإطلاق، هو موضوع الإيمان بالله ورسله وعبادته وتوحيده ولا يتطلب الموقف من أبي طالب أكثر من النطق بالشهادتين، وهو كان يقول:

ولقد علمت بأن دين محمد.....من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذاري سبة.....لوجدتني سمحاً بذاك مبين

وبررتني وعلمت أنك ناصحي.....ولقد صدقت وكنت قبل أميناً

ويقول:

لَقد عَلموا أَنَّ اِبننا لا مكذَّبٌ.....لَدَيهم وَلا يُعنى بِقَولِ الأَباطلِ

فوالله لولا أن أجيء بسبة.....تجر على أشياخنا في المحافلِ

لكنا اتبعناه على كل حالة.....من الدهر جداً غير قول التهازلِ

ولقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم بفطرته أن الانفعال في هذا الموقف لا يزيد الأمر إلا تعقيداً، فقال بكل هدوء، ولطف:

يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاجّ لك بها عند الله.

ويعيدها عليه.

ولم يشأ صلى الله عليه وسلم أن يدخل في عراك مع قطّاع الطريق ممن حول عمه، وكانوا يثبتونه على الشرك ويقولون:

أترغب عن ملة عبد المطلب؛ فيذكرونه بأجداده ودينهم، ويحذرونه من خلافهم "وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ"، وهذا يذكّر بموقف نوح عليه السلام، وهو منهمك بتقرير الأصل الأكبر: الإيمان والتوحيد "رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا" .

هل يجوز أن نسوّغ لأنفسنا حين تغضب وتثور أننا على الحق، أَوَ َليس الحق دافعاً إلى الهدوء والصبر وسعة الصدر؟!

أليس الغضب عاصفة تشوش على وسائل الاتصال والتلقي وتمنع التركيز؟

حين تقرأ لوحة جميلة تقول لك "الحلم سيد الأخلاق" وتتأملها تجد أن الحلم حين الاختلاف والاتفاق والقبول والرفض؛ وسام يتزين من اختاره الله لذلك، ليزيد في فضائله ويخفف من رذائله، حتى الظالم حين يكون حليماً يختلف الناس حوله، ويلتمس قوم له المعاذير.

ما سر الاحتدام والروح الغضبيّة التي تطبع كثيراً من العرب اليوم بميسمها؛ حتى ليبدو أن معيار الغيرة والقوة والشجاعة هو الغضب؛ بينما يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" .

لن يبلغ المجدَ أقوامٌ وإن عظموا.....حتّى يذلّوا وإن عزّوا لأقوام

ويُشتَموا فترى الألوان مُسفِرةً.....لا صفحَ ذُلّ ولكن صفحَ أحلام

الأمر لا يتطلب إلغاء الطبيعة الإنسانية أو تجاوزها، أو إقصاء الغضب أبداً ، فهذه مهانة لا تتفق وعزة المرء وكرامته، بيد أن مقدار الغضب والجاهزية له لدى شعب أو أمة تحتاج إلى معايرة وضبط، ولا يجوز أن نعتبر الانسياق مع طبيعتنا هو مقتضى الديانة، فالدين جاء للتهذيب والتزكية والتربية، وفي مكة تربى المسلمون على تحمل ألوان العنت والتعذيب دون أن ينتصروا لأنفسهم، حتى صفت فطرهم وزكت طبائعهم وتجردوا من حظوظ نفوسهم ثم أذن لهم بعد ذلك في الانتصار، بعدما تخلصوا من حمية الجاهلية.

أن يكون الغضب هو الأصل في حياتنا وعلاقاتنا وخطبنا ومواقفنا ولغتنا؛ فهو منذر بفقدان السيطرة على النفس والاحتكام إلى العقل والمصلحة.




د سلمان العودة
1
278

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

عواطف تركي
عواطف تركي
بارك الله فيك على نقل المقال

جزاك الله خير