بين الدين والطائفية
الدكتور مصطفى السباعي
12تموز 1954
من أبرز مظاهر الحياةالاجتماعية في تاريخ الإنسان؛تدينه العميق الذي يجعله خاضعاً لإله قدير؛يرجو رحمته ويخاف عذابه؛ومن أبرز خصائص الديانات:أثرها الكبيرفي توجيه الأفراد والجماعات،وسلطانها على مشاعرهم واتجاهاتهم.ومن هنا لعبت الديانات دوراَ كبيراً في قيام الحضارات ونشوء الأمم واندثارها،ولاتكاد تجد ديناَ خلامن النزعة الإنسانية الرحيمةً.فكل الأديان تأمربالرفق،وتحث على الحب وتنهى عن الخصام،وتمقت القسوة والأذى،وهي بذلك عامل من أكبر العوامل في نشر السلام بين الناس ،وقيام الثقة والتعاون بينهم في شؤون معاشهم ومعاملاتهم.
وأدياننا الكبرى في الشرق العربي والإسلامي تلتقي عند هذا الغرض في كثير من آدابها وشرائعها ..وحسبك من المسيحية قول المسيح عليه السلام :((أحبواأعدائكم باركوا لاعنيكم)).وما كان المسيح من عطف على الفقراء والبائسين وصفح عن المسيئين.ولقد عاش ما عاش من حياته بين الناس وهو مثلهم الأعلى في الحب والرحمة والتواضع والبر بالناس أجمعين.
اما الإسلام فلا تكاد تحصي آيات القرآن في الحب والصفح والرحمة وعمل الخير للناس،ولا تكاد تحصي الأحاديث التي تحث على ذلك وترغب فيه ،وحسبك من الإسلام قول الله في وصف عباده المؤمنين :(وعباد الرحمن الذين يمشون في الأرض هوناًوإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً)وقول الرسول عليه الصلاة والسلام (الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله)
وهكذا نتعاون دياناتنا على نشر الوئام بين الناس،وترغيبهم في العيش معاً أخوة متحابين ،لا يعتدي بعضهم على بعض ، ولا يسفك بعضهم دم بعض،ولايحول اختلاف دياناتهم دون اطمئنانهم جميعاَعلى حرياتهم وأموالهم وأعراضهم وكفاءاتهم. بل إن القرآن لينص على أن اختلاف الديانات والحكم بينها فيه،يجب أن يوكل أمره إلى الله وحده،والله وحده هو الذي يحكم يوم القيامة بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون.ويقول الله تبارك وتعالى:(وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لايعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ).
بل إن الإسلام ليقرر أن اختلاف الناس في دياناتهم وعقائدهم أمر طبيعي من ضرورات الحياة،وفي ذلك يقول تعالى (ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين .إلامن رحم ربك ولذلك خلقهم)
بهذه الروح اتسعت تاريخ الديانات عندنا لتسجيل أروع الصفحات في تاريخ التعاون على الخير بين أبنائها تعاوناَ أدى إلى خير الإنسانية وتقدمها،وهل ننسى ما كان لتعاون الإسلام والمسيحية في العصر العباسي من آثار عظيمة في العلم والثقافة؟وهل ننسى كيف كان يجتمع المسلم والمسيحي والمجوسي في حلقة الخلفاء ينثر كل منهم ما في كنانته من علم وأدب ،والخلفاء يضفون عليهم جميعاَ ظلا ظليلاَ من الرعاية والإكرام ؟
في تلك العصور كان من ابرز أخلاقنا الاجتماعية :تعاوننا على بآساء الحياة وضرائها مع اختلاف أدياننا وعقائدنا ،حتى اشتركنا في كثير من الحروب جنباَإلى جنب نقاوم الغزاة ونطرد المعتدين ...ولست أرى في التاريخ أروع من موقف يخ الإسلام ابن تيمية حين جاء إلى أمير التتار يطلب إليه إطلاق سراح الأسرى ، فأجابه الأمير التتاري إلى إطلاق سراح الأسرى المسلمين وحدهم دون المسيحين واليهود،فابى شيخ الإسلام رحمه الله وقال :لابد من إطلاق سراح هؤلاءأيضاَ،فإنهم أهل ذمتنا لهم ذمة لله ورسوله ،فأطلق الأمير سراحهم جميعاَ...هذا مثل من أمثلة السمو في أخلاقنا الاجتماعية يومئذ تعلم منها أننا فهمنا الدين أداة خير وعنوان الشهامة والنجدة والوفاء بالعهد .وهذا هو التدين ..وهذه هي روح الدين في حقيقته الإلهية الخالدة .
ويوم ينقلب الدين مفهوماَضيقاَ يتميز بالحقد والعداء ،ويبعث على النزاع والشحناء وينتهي إلى الفتن وسفك الدماء ..يومئذ يكون الدين قد تحول إلى طائفية ذميمة تنذر بشر العواقب وأوخم النتائج.
في اوائل القرن الثامن الهجري شهدت مصر اعواماً سوداء ذهبت بعشرات المعابد ،وأودت بعشرات النفوس ،وملأت القلوب حقداًوفساداً...فقد أساء بعض الموظفين من أهل الذمة معاملة المسلمين،وأذاقوهم ألواناً من الذل والمهانة،فقابلهم جهَلة المسلمين بإحراق بعض الكنائس ،فرد عليهم بعض المتعصبين من الكهان والرهبان بإحراق بعض المساجد ..وكادت تتحول القاهرة إلى أتون مستعر لولا أن حزم السلطان أمره،وعاقب مسببي الفتنة من الجانبين بما أطفأ نارها ...وتلك هي الطائفية السوداء .إن إساءة الموظف المسيحي لمواطنيه المسلمين أمر لاتدفعه إليه مسيحيته وإنما تدفعه إليه طائفيته الجاهلة بسماحة المسيحية وأخلاقها.وإن إحراق الكاهن المتعصب لبعض المساجد أمر لا يدفعه إليه المسيح،وإنما يدفعه إليه جهله بروح المسيح وآدابه واخلاقه ...وهكذا تنبعث الطائفية من الجهل ،ثم تنمو وتترعرع في تربة الحقد والاستغلال.
وإذا كان في تاريخنا بعض المآسي ،فليس مردها إلا إلى الطائفية المنبعثة من الجهل ،وإذا كان في تاريخنا بعض الحروب الدينية ،فليس مردها إلا إلى الطائفية المستثمرة من العدو...وهل ننسى حوادث الستين ،وكيف كانت الدول الاستعمارية الكبرى هي التي تؤجج نيرانها،كل دولة تؤيد طائفة ..حتى دمرت الطوائف بيوتها بأيديها،وشوهت جمال أرضها بجهل عامتها واستغلال زعمائها؟.
وإن من الحق أن نجهر بأننا لانزال نعيش في أجواء الطائفية في كثير من الأحيان ..بل إن في بعض البلاد الغالية من أرض الوطن العربي موجة من الطائفية البغيضة التي ترمي إلى استعباد طائفة لطائفة ،وطرد طائفة لطائفة من جميع دواوين الدولة وأراضيها...وفي بعض البلاد النائية من الوطن الإسلامي تتحكم الأكثرية في الأقلية تحكماَلابد أن ينتهي إلى الإبادة أو الردة أو التشرد..فما علة هذا؟وما سببه؟ومن الذي يستفيد منه ؟وما طريق القضاء عليه؟
أما أنه ما من شك في أن العلة هي الجهل بالدين ،وأن السبب ما توارثناه عن آبائنا من خلق اجتماعي ذميم،وأن الذي يستفيد منه هم أعداء الأمة من المستعمرين والطغاة والظالمين،وأن العلاج الوحيد أن يذكر الناس جميعاَ بالمبادىء الإنسانية العالية في كل دين.
إن كثيرين يظنون أن علاج هذه الطائفية المدمرة هي دعوة الناس إلى ترك أديانهم ،وليس أبعد في الوهم والخطأ والضلال من هذا الظن ...فما كانت الأديان يوماَوسيلة ولا أداة خراب،ولاباعثة شقاء وفناء..وها هي تعاليم الأديان في كتبها المقدسة ،أين يجد الناس فيها ما يدعو المؤمنين بها إلى أن يحتقروا مخالفيهم ويعتدوا عليهم ويسلبوا أموالهم وأعراضهم وهناءتهم ،بل متى ابتليت أمتنا بهذه الطائفية ؟أفي عصور الخير والمجد؟أم في عصور الضعف والإنحطاط ؟أفي عهود الدين الأولى؟أم في أيامه الأخيرة؟..أيوم كان الناس مستمسكين بتعاليمه ؟أم يوم انحرفوا عنه ولم يتقيدوا بأوامره وزواجره؟..إن الجواب عن هذا لايختلف فيه اثنان ممن يقرأ التاريخ ..فالمؤمنون الأولون الصاقون كانوا أوسع الناس صدوراً وأحسنهم أخلاقاً،وأكرمهم معاملة ،وأكثرهم وفاءً...فهل ذلك إلا لأن دينهم يأمرهم به ولو أمرهم بغيره لفعلوا؟وألا تكون الطائفية الحاقدة وليدة الجهل بالدين لا العمل به لا الوقوف عند حدوده؟
ثم ألا تكون الدعوة إلى ترك الدين كعلاج للطائفية ،غفلة فاتلة لا تقع فيها أمة واعية؟.
إن الفرق بين الدين والطائفية هو الفرق بين العلم والجهل،والحق والباطل،والخير والشر،والإيمان والعصيان.
الدين إخاء وتعارف ولقاء...والطائفية عداء و تقاطع وجفاء.
الدين حب ورحمة وسلام..والطائفية كره وقسوة وخصام.
الدين وفاء وحسن خلق وطيب نفس وسماحة يد ...والطائفية غدر وسوء خلق وخبث نفس وقذارة يد .
الدين شرعة الله ورسالته ... والطائفية شرعة الشياطين ووسوستهم.
الدين هداية الرسل إلى الله وطريق الناس إلى الجنة..والطائفية قيادة الأشرار إلى الدمار والطريق المستقيم إلى النار.
هذا هو الفرق بين الدين والطائفية ،وهو فرق عميت أنباؤه على كثير من الزعماء ورجال الأحزاب ودعاة الإصلاح،فحاربوا الدين وهم يظنون أنهم يحاربون الطائفية ..وما دروا أنهم بذلك يجردون الأمة من أقوى أسلحتها للقضاء على الطائفية وما تجر وراءها من بلاء وشقاء.
ولئن جاز لأحد أن يبرر الدعوة إلى ترك الدين لأنه أسيء استعماله،فقد جاز لكل إنسان أن يدعو إلى ترك الطب لأنه أسيء استعماله،وإلى ترك الأدب لأنه وضع في غير موضعه،وإلى إغلاق معاهد العلم لأنها انحرفت بكثير من طلابهاعن طريق الهدى والرشاد.
إن الانحراف بالحق لايبرر المطالبة بإلغائه،ومامن حق في الدنيا إلاوقدشابه من الأغراض ما شوه جماله..أفترى نظامنا النيابي وما أصابه من تعثر خطواته يبرر لأحد ممن يؤمن بحرية الفكر وحق الشعب وكرامة الفرد،بأن يطالب بإلغائه ليقوم مقامه نظام استبدادي يجعل الحياة ظلمات بعضها فوق بعض ؟إن على الذين يحاربون دعوة الدين على وجهه الصحيح لئلا تؤدي إلى عصبية طائفية شوهاء أن يقدروا كم تتعرض الأمة من الأخطار المادية والخلقية والفكرية حين تجرد من دينها،فلا يحجز بعضها عن بعض وازع ولا رقيب؟..وكم تطفىء في قلوب الناس من جذوة مشتعلة تبعث على التضحية و الفداء حين تحتاج الأمة إلى البذل والفداء..إن الدين يعوض الشهيد عن حياته الدنيا جنة عرضها السموات والأرض،فبماذا تعوض الدعوة إلى ترك الدين الشهيد عن أولاده وحياته ولذته ونعمته؟..إنني لا أتصور انتحاراًجماعياً أشد في قبحه وشناعته من ترك الأمة لدينهاوإعراضها عن الله..ولست أتصورخلقاً اجتماعياً كريماً يمكن أن تتخلق به الأمة بعدأن تطرح دينها وراءها ظهريّاً،فإلى هاوية تنحدر إليها بجهلها التفرقة بين الدين والطائفية؟!
أيها الناس !ارجعوا إلى دينكم ..واطرحوا طائفيتكم.
أيدوا دعوة الدين ..وحاربوا الطائفية.
كونوا متدينين ..وحذروا أن تكونوا طائفيين.
******************************
لا تيأس @la_tyas
عضوة نشيطة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
بنت الفلسفه
•
جزاك الله خير أختي بس حبيت انبهج تصلحين الايه وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا
الصفحة الأخيرة