بين المحاضر الشاب والبروفسور المليء
دعيت مرة إلى إحدى الجامعات لإلقاء محاضرة عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وكنت آنذاك مهتما به وباحثا فيه
فسألت المنسق عن نوعية الحضور فأخبرني أنهم طلاب المستويات الأولى وأوصاني بإدخال شيء من الطرائف لاستمالة قلوبهم والعروض لجذب انتباههم ، وفعلا فعلت فأعددت من الصور أغربها ومن القصص أطرفها وحفظت بعضا من قرآن مسيلمة الكذاب لأستشهد به عليه ولأجعل محور الطرفة إليه
وفي اليوم المحدد حضرت فاستقبلني المنسق مرحبا بي وهامسا في أذني ببشارة أطفأت جذوة حماسي قائلا أبشرك اليوم سيحضر عميد الكلية وبعض أصدقائه
فقلت ما شاء الله (وفي نفسي قلت لا بشر الله بالخير من تكره)
ثم قال وأزيدك تشريفا فالبروفسور باحث متخصص في الإعجاز وقد انتهى من طباعة كتابه عن الإعجاز قبل ثلاثة أيام وقد اشتمل على ثلاث مئة صفحة فهنيئا لنا وهنيئا لك ( وأخذ يهز يدي مباركا و يربت على كتفي محفزا ) في وقت حزمت فيه الثقة حقيبتها وسجد الإعداد والتحضير سجود السهو عن الخطأ غير المتعمد واختبأ الإبداع خلف كثبان التوتر والارتباك
دخلت القاعة الخالية وأخذت أعد أمري وأحزم رأيي وما هي إلا لحظات حتى حضر البروفسور سابقا الجميع ثم تتابع الحضور من بعده
فسلم علّي ورحب بي وأهداني كتابه بعد أن صدّر الإهداء عليه في صفحته الأولى
فأخذته وكان أثقل علّي من جبل أحد وأمر علّي من العلقم
شكرته ورحبت به ثم شرعت في تشغيل الحاسوب والذي وضعت فيه العرض المشوق كما كنت أزعم ... اشتغل الحاسوب ولكنه لم يتوافق مع البروجكتر فاحتجبت الصورة حاولت وحاول غيري دون فائدة فأحضرنا حاسوبا آخر ولكنه لم يعمل ثم أحضر أحدهم حاسوبا ثالثاً ولكنه أيضا لم يعمل ( ولك أن تتخيل موقفي والحضور يرمقونني ثم يرمقون ساعاتهم ...... تهتز أرجلهم وتهتز معها مشاعري فإن وقفت أرجلهم عن الهز لم تتوقف أفواههم عن التثاؤب )
انتظرنا لحظات حتى وصل الحاسوب الرابع... والحمد لله على كل حال لم يعمل كذلك
فحاولنا المحاولة الأخيرة بحاسوب خامس وهذه المرة اشتغل الحاسوب وخرجت الصورة ولكن للأسف .... الجهاز جديد لا توجد به جل البرامج اللازمة لتشغيل العرض
وتقطعت الحبال بالفتى العشريني ( كنت أيامها في الخامسة والعشرين من عمري ) إلا بحبل بينه وبين خالقه
بدا لي صوت داخلي يخذلني ويقول بضاعتك مزجاة ، وإعدادك كان لطلاب ، وعرضك لم يعمل ، واعتمادك كان على الصور والطرف ومسيلمة الكذاب ، والبروفسور حطت رحاله بصحراء علمك القاحلة ، والناس تنتظر .... فماذا يمكن أن تفعل .....؟!
بدا الصوت خفيفاً في إيقاعه قوياً في وقعه .... أحسست أني منقاد إليه وتقازمت نفسي أمام عظمة الظروف وهيبة البروفسور ورهبة الموقف
ولكني استعذت بالله وأوقفت ذلك الصوت ونهرته ثم بدأت أحارب العدو بالسلاح نفسه ... سلاح الأفكار ولا شيء سوى الأفكار أحسنت الظن بالله وتوقعت الأفضل ودعوت الله ألا يكلني لنفسي طرفة عين .... تنفست بعمق
ثم أخذت أردد ( يا ياسر لا أحد أقل من أن يفيد ولا أكبر من أن يستفيد ) أرددها وأكررها وأستشعرها حتى توازنت نفسي واستقر بين أذنيّ فكري وانطلقت مستعينا بالله في إلقاء المحاضرة وعندما تتكلم عن موضوع كالقرآن فأي أذن منصفة لا تطرب لك وتصغي إليك
..... انتهت المحاضرة بحمد الله وتوفيقه بعد أن ركزت فيها على من حضرت لأجلهم وتناسيت وجود ذلك العالم الفاضل
ختمت المحاضرة بشكر الله ثم بشكر الحضور ثم بشكر البروفسور على حضوره واستأذنته بإلقاء كلمة
فقام وألقى كلمة بدأ فيها بحمد الله ثم بشكري على ما قدمت ثم قال كلمة ( وضعتها درسا لي في كل لحظة تراجع ودرعا واقية لي استتر به عند كل موقف مشابه )
قال ( اليوم كتبت عشرين فائدة كنت أبحث عنها منذ خمس عشرة سنة ....! ) يالله ...!
فعلا ( لا أحد أقل من أن يفيد ولا أكبر من أن يستفيد ) فشكرا لله جل جلاله
ثم شكرا لتلك الظروف التي علمتني أن العلم لا يمكن أن يحاط به
وشكرا لذلك العالم الفاضل الذي علمنا التواضع و تجرد من كل حظوظ النفس ليقول أنه استفاد من شاب بمثابة أحد أبنائه ......
وتعلمت أنه قد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر ... وأن الأمة في حاجة لي ولك فلا تحقرن من المعروف شيئاً فما السيل إلا اجتماع القطر ....
جرح الأقصى @grh_alaks
عضوة نشيطة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
( الْلَّهُم اجْعَل كِتَابِي فِي عَلَيْن وَكَف لِّسَانِي عَن الْعَالَمِيْن )