قبل الدخول في القصة لا بدّ من بعض التنبيهات حتى لا يحصل لبس لدى بعض الإخوة..
كلامي _أنا_ باللون الأسود..
وكلام الشيخ محمد باللون الأحمر..
وكلام بطل القصة باللون الأزرق..
. .
حدّثنا بهذه القصة فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد العزيز الخضيري..
قال:
كنت في دولة تشاد عام 1416هـ لمتابعة بعض الأعمال الدعوية هناك..
وبينما أنا مع الإخوة التشاديين في السيارة..إذا بشاب على الطريق يشير إلينا..
فتوقّفنا..
وعرفه الإخوة فأركبوه معنا..
فسألته عن اسمه..
قال: أبو بكر..
من أين؟
قال: من السنغال..
فسألته عن سبب مجيئه هنا..
وهنا..
ننقل الكاميرا إلى الأخ أبي بكر ليستلم زمام الحديث..
قال:
خرجت أنا وابن خالتي (موسى) من السنغال قبل ست سنوات نريد الحجّ..
وكان أهلي يمانعون في ذلك..فلمّا رأوا إصرارنا أمدّنا والدي بشيء يسير قد يكفينا أيّاماً..
وكان عمري حينذاك 19 عاماً..وعمر ابن خالتي قريبٌ من عمري..
فيممنا وجوهنا شطر دولة غينيا كوناكري..
ودخلنا العاصمة نريد العمل؛ وذلك أنّ مؤونتنا نفدت..
فتعرّفنا على رجل سنغالي..
فاستضافنا وسألنا عن حالنا فأخبرناه بمقصدنا..
فسألنا عن عملنا يوم أن كنّا في بلدنا..
فأخبرناه أنّنا كنّا ندرّس القرآن..
. .
عندها..
أشار علينا بافتتاح حلقة ندرّس فيها القرآن في المنطقة التي يسكنها..
طبعاً..
لم نمانع ووافقنا على ذلك..بل فرحنا بهذا الاقتراح..
افتتحت الحلقة..
ودرّسنا فيها ما يقارب السنتين والنصف إلى ثلاث سنوات..
وكانت أجرة مدرّس القرآن في تلك البلدان تعتمد على بعض الأطعمة وما يتيسر..يأتي بها كل طالب للأستاذ..
قال:
وبعد تلك المدة التي أمضيناها في تدريس القرآن
حرّكتنا قلوبنا لتذكّرنا بالهدف الذي خرجنا من بلادنا لتحقيقه وتركنا أهلنا لأجله..
نحن خرجنا من السنغال لنحجّ.
. .
ذهبنا إلى الرجل الذي استضافنا وطلبنا منه الإذن بالرحيل..
فلم يأذن لنا..وأصرّ على جلوسنا..
فلم نجد بدّاً من الفرار ..
وخرجنا من غينيا كوناكري إلى ساحل العاج..ومنها إلى بوركينافاسو..ومنها إلى مالي فالنيجر.
. .
دخلنا النيجر..
وطفقنا نبحث من عمل نقيم به أصلابنا..
فوجدنا مجموعة سنغاليين كانوا يغسلون ملابس الناس ويكوونها لهم بأجرة..
وقد عزموا على الرحيل..
فطلبنا منهم أنّ نحلّ محلّهم فلم يمانعوا..
فاستلمنا العمل مكانهم..بعد أن باعوا علينا الأدوات التي كانوا يستخدومنها في عملهم..
وبقينا على هذا العمل ستة أشهر..حتى اجتمع عندنا ما يقارب الـ 400 ريال سعودي..
وعزمنا على مواصلة طريقنا إلى الحج..
ولكن..
جاءنا رجل سنغالي.. وقال لنا: إنّه قدم ببضاعة يريد الدخول بها إلى تشاد..لكن بالتهريب..
وأنّه يريد مبلغ 400 ريال ليصل إلى الحدود ويأتي بالبضاعة..ومن ثمّ يعيد لنا المبلغ..
يقول:
فنظرت إلى ابن خالتي أستشيره..فوافقنا على إسلافه المبلغ..
ومضى على ذهابه يوم.. ويومين.. وثلاثة..أسبوع..أسبوعان..شهر..
لم نر له أثراً !!
لقد خدعنا!
ضاقت بنا الأرض على سعتها..ضاع منّا تعب ستة أشهر..
عملنا أيّاماً ثم بعنا أجهزتنا ورحلنا..
وولّينا وجوهنا نحو نيجيريا..ومنها إلى تشاد تهريباً..
اتجهنا إلى عاصمة تشاد..نبحث عن عمل..
وعملنا بالتحميل والتنزيل..
ولكنّه شقّ علينا وأنهكنا..
فقلت لابن خالتي: نحن أهل بحر..فلم لا نذهب إلى بحيرة تشاد نصيد السمك ونبيعه على الناس؟!
فائدة: بحيرة تشاد هي ثاني أكبر بحيرة في العالم..
قال:
فوافقني الرأي..
ودخلنا في البحيرة..وبينما نحن على القارب..إذا بحيوان قد فتح فمه الواسع تجاهنا..
فسألنا أهل القارب عنه..
فقالوا: هذا فرس النهر..وهو يؤذي الصيادين وقد يغرق المراكب..
فقلنا لبعض:
لا..لا نريد أن نموت قبل أن نحج..
فخرجنا إلى الساحل..
فوجدنا رجلاً يملك مزرعة عند البحيرة..
فسألني عن رغبتي في العمل معه في مزرعته..
فوافقت..على أنّ الثمرة بيني وبينه نصفين..
. .
وعندما اقترب وقت الحصاد..جاءني رجل وسألني عن قراءتي للقرآن فأخبرته أنّني أجيد ذلك..
فاقترح علي أن أدرّس عندهم..
قلت: أين؟
قال:
في جزيرة باكستان..
وهذه الجزيرة داخل بحيرة تشاد..سمّيت بهذا الاسم لقدوم أناس من باكستان عليها وتسميتهم لها بهذا الاسم..
يقول:
فوافقت..
وطلبت من ابن خالتي أن يجلس مكاني عند صاحب المزرعة حتى يأخذ حقّي من الحصاد..
فدرّست عندهم فترة ثم أصابني الملل..فرجعت إلى الساحل.
. .
وبينما كنت أقرأ القرآن في أحد المساجد سمع أحدهم قراءتي..فعرف من قراءتي أنّ لغتي العربية جيّدة..
وأعجبت الإمامَ قراءتي..فقالوا لي:
ما رأيك أن نفتتح حلقة في هذا المسجد تدرّس فيها صبياننا؟
فوافقت على ذلك..
ودرّست عندهم ما يزيد على العام..
فأعجبوا بي وزوّجوني..
ومع كلّ هذا لم يزل الحجّ هو هدفنا وهاجسنا الأول..
. .
وبعد زواجه بسنة تقريباً التقى أبو بكر الشيخ محمد الخضيري في السيارة..
وكان هذا عام 1416 هـ كما أسلفت..
· قبل أن أكمل أحبّ أن أنبّه إلى أنّ دولة السنغال تقع في أقصى غرب أفريقيا، فهي مطلّة على المحيط الأطلسي.
· · · بعد أن رجع الشيخ محمد الخضيري من تشاد عام 1416هـ..
مرّت الأيام..والشهور..والسنون..
حتى عام 1424هـ..
يقول الشيخ محمد:
كنت أحدّث جماعة مسجدي في العشر الأوسط من رمضان عام 1424هـ..
وأحثّهم على اغتنام فرص الخير..وأذكّرهم النعمة التي يتقلبون على فراشها..
ثم ذكرت لهم هذه القصة _قصة الشابّين السنغاليين_ لتحفز هممهم..
وبعد أن أنهيت القصة..
اعتدل أحدهم في جلسته..ثم قال:
ولمَ لم تحجّجهم يا شيخ؟
فقلت: لم أجعلهما هدفاً حين مجيئي إلى تشاد..ثمّ إنّ نفقة حجّهما تكلّفني..ولا أستطيعها..
نفقة الحاجّ الواحد منهم كاملة تكلّف قرابة الثمانية آلاف ريال سعودي..
فقال هذا الرجل:
أنا أحجّجهما على حسابي..
قلت: تتكفّل بجميع مصاريفهما؟
قال: نعم..
فأخرجت جوّالي واتصلت على الشيخ محمد نهار ( من المسؤولين عن الدعوة في تشاد)..
فلما أجاب قلت له:
هل تذكر الشابّ السنغالي الذي ركب معنا في السيارة يوم أن جئتكم في دياركم؟
فقال: ما اسمه؟
قلت: قد نسيت اسمه للأسف...
فقال: لا..لا أذكره..
فقلت له: يا شيخ محمد..الشاب السنغالي الذي جاء هو وابن خالته من السنغال وعمل معكم في الدعوة..
قال: لم أذكره..
فقلت: إذا ذكرته ورأيته فبشّره وابن خالته أنّهما سيحجّان هذه السنة..
فقال: سأفعل ذلك..
. .
وبعد أن أغلقت سماعة الهاتف من الشيخ محمد نهار بلحظات..
اتّصل بي الشيخ محمد فأجبته..
فقال: سبحان الله!
ما إن أغلقت السماعة منك حتى دخل عليّ الشاب السنغالي..فلما رأيته ذكرته..
وقلت له: أبا بكر!
قال: ما الأمر؟
قلت له: أبشر!
اتّصل بي الشيخ محمد الخضيري وقال: بشّر الشاب السنغالي أنّه سيحج هو وابن خالته هذه السنة..
فطار أبو بكر من الفرح..وكاد أن لا يصدّق..
وقال: أنا أحجّ؟! _قالها متعجّباً_..
. .
فرتّبنا لهما المجيء مع البعثة التشاديّة..
ولمّا بدأت وفود الحجيج تتقاطر على مكّة كنت قد قدمت مع حملة الشيخ سليمان الراجحي..
وذلك يوم الرابع من شهر ذي الحجّة تقريباً..
وكانت البعثة التشاديّة قد جاءت في أواخر شهر ذي القعدة..
. .
وفي اليوم الخامس من شهر ذي الحجّة ألقيت على المسؤولين في الحملة كلمة تذكيرية..
وذكرت لهم قصة السنغاليين..
فقال لي الأستاذ متعب الراجحي: نريدك _يا شيخ محمد_ أن تعيد هذه الكلمة يوم غد
على العاملين في المخيّمات الأربع التي تتبع الشيخ سليمان الراجحي..
فقلت: لا مانع..
وذلك قبل مجيء الحجاج الذين يتبعون حملة الراجحي..
ففكّرت في أمر هذه الكلمة..صباح اليوم السادس..
وقلت: لا بدّ أن آتي بشيء جديد يحفز همم العاملين في المخيّمات حتى لا يفتروا عن خدمة الحجاج..
فخطر السنغاليان على بالي..
فقلت: هما بغيتي..
. .
فانطلقت لمقرّ البعثة التشاديّة..وسألت عن الشابّين السنغاليين..
فقال لي المسؤول: إنّ المسؤول عن الأسماء ذهب إلى جدّة..وسيرجع غداً..
فذهبت إلى مشرف الدّعاة في الحملة _وهو الشيخ محمد عيسى_..(وأنا أعرفه قبل ذلك)..
فسألته عن الشابّين السنغاليين..
فقال: نعم..هما معنا..
فقلت: أريد أن أراهما اليوم..
فقال: وكيف لنا أن نجيء بهما من بين أحد عشر عمارة؟!
ولا سيّما أنّك تريدهما اليوم..
هذا صعب جدّاً..
فلمّا نزلنا من الدرج توقّف الشيخ محمد عيسى يفتي الناس..
ومضيت أنتظره عند السيّارة..
. .
وبينما أنا في انتظار الشيخ محمد عيسى أقبل شاب من بعيد تبدو عليه علامات الفرح..
فوقع في نفسي أنّه الشاب الذي أبحث عنه..
ولكن لم أجزم بهذا..لأنّي قد نسيت ملامحه مع السنين ومع قصر المدة التي اتقيته بها..
فلمّا اقترب سلمت عليه وحيّيته..
ثم قلت: من أين أنت؟
قال: أنا من تشاد..
فخاب ظنّي..
ثمّ ذهب هذا الشابّ إلى الشيخ محمد عيسى وهو يفتي الناس..
فلمّا وقف عنده ورآه الشيخ محمد عيسى قال: أبو بكر! ثم أمسك بيده..
فلمّا انتهى من إفتاء الناس قال له أبو بكر: هل عندك رقم شيخ خضيري؟
فقال الشيخ محمد عيسى: هو ذاك الواقف..
فأقبل إليّ ثم قال:
أنت شيخ خضيري؟
فقلت: وأنت السنغالي؟
قال: نعم..
فكان لقاءً عجيباً
ثم قلت له: سألتك قبل قليل..فقلت أنا من تشاد!
قال: نعم..لأني جئت مع البعثة التشادية..
فقلت له: أين صاحبك؟
قال: هناك..
فجاء به..
فقلت لهما: أريدكما أن تذهبا معي الآن..
فلم يمانعا..
فلمّا ركبنا السيارة قلت لهما:
أريدكما أن تقصّا قصّتكما على الناس..
فرحّبا..
فلمّا كان بعد العصر قدّمتهما للحاضرين..ثم أبحرا بالناس في قصتهما..
فكان تأثير حديثهما ظاهراً على الحضور..
. .
فطلب مني الأستاذ متعب الراجحي أن آتي بهما يوم الحادي عشر ليقصّا قصّتهما على الحجّاج..
فأتيا يوم الحادي عشر..وكان ضمن الحضور الشيخ سليمان الراجحي..فأيقظا همم الناس..
فلمّا أتمّا حديثهما استشرناهما في الدراسة في معهد كلكتا في السودان مدة أربع سنوات..
فرحبّا بذلك..وأبديا استعدادهما..
وتكفّل الشيخ سليمان الراجحي بمصاريف دراستهما..
ولا زالا يدرسان في السودان..
. .
أيّ همّة هذه؟
همّة تكسّر الصخر..
لم يريا بلادهما التي احتضنتهما منذ نعومة أظفارهما لم يرياها منذ ستـ 16ــة عشر عاماً..
أمّا نحن فـ (كيف الحال)
. .
نقطة النهاية:
يحدّث أبو بكر عن نفسه أنّه لم يهنأ بنوم منذ أن بشّره الشيخ محمد نهار بالحج..من شدّة الفرح..
ذكر الكاتب (صقر الجزيرة- الفتى الوديع)
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️