شكر الله تعالى وأثره في حياة المسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه
أما بعد :
إن من الآداب الحميدة والشيم العظيمة التي ينبغي للمسلم والمسلمة التحلي بها هي شكر الله على ما أفاض علينا من النعم العظيمة والخيرات الجليلة في جديننا ودنيانا قال تعالى :{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا }
تعريف الشكر :
لما كان الشكر له منزلة في حياة المسلم فقد عرفه العلماء بتعريفات متقاربة
قال العلامة ابن القيم رحمه الله وهو يعرف الشكر :" قيل : حده :الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع .
وقيل : الثناء على المحسن بذكر إحسانه .
وقيل : هو عكوف القلب على محبة المنعم والجوارح على طاعته وجريان اللسان بذكره والثناء عليه.
وقيل : هو مشاهدة المنة وحفظ الحرمة .
وما ألطف ما قال حمدون القصار : شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا.
وقال أبو عثمان : الشكر معرفة العجز عن الشكر.
وقيل : الشكر إضافة النعم إلى موليها بنعت الاستكانة له.
الأدلة من الكتاب والسنة على الشكر:
لقد ورد لفظ الشكر في الكتاب والسنة في مواطن عديدة منها
1- الأدلة من الكتاب :
قال تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (لقمان:12)
قال ابن كثير:
" أَنْ اُشْكُرْ لِلَّهِ " أَيْ أَمَرْنَاهُ أَنْ يَشْكُر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا أَتَاهُ اللَّه وَمَنَحَهُ وَوَهَبَهُ مِنْ الْفَضْل الَّذِي خَصَّصَهُ بِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ مِنْ أَبْنَاء جِنْسه وَأَهْل زَمَانه ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " وَمَنْ يَشْكُر فَإِنَّمَا يَشْكُر لِنَفْسِهِ " أَيْ إِنَّمَا يَعُود نَفْع ذَلِكَ وَثَوَابه عَلَى الشَّاكِرِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى " وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( تفسيرابن كثير)
وقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان:14)
قال ابن كثير:
وَإِنَّمَا يَذْكُر تَعَالَى تَرْبِيَة الْوَالِدَة وَتَعَبهَا وَمَشَقَّتهَا فِي سَهَرهَا لَيْلًا وَنَهَارًا لِيُذَكِّر الْوَلَد بِإِحْسَانِهَا الْمُتَقَدِّم إِلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَقُلْ رَبّ اِرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا " وَلِهَذَا قَالَ " أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك إِلَيَّ الْمَصِير " أَيْ فَإِنِّي سَأَجْزِيك عَلَى ذَلِكَ أَوْفَر جَزَاء قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا زُرْعَة حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي شَيْبَة وَمَحْمُود بْن غَيْلَان قَالَا حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيل عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ سَعِيد بْن وَهْب قَالَ : قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذ بْن جَبَل وَكَانَ بَعَثَهُ النَّبِيّ فَقَامَ وَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : إِنِّي رَسُول رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تُطِيعُونِي لَا آلُوكُمْ خَيْرًا وَإِنَّ الْمَصِير إِلَى اللَّه إِلَى الْجَنَّة أَوْ إِلَى النَّار إِقَامَة فَلَا ظَعْن وَخُلُود فَلَا مَوْت .
وقال تعالى( يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سـبأ:13)
قال ابن كثير
وَقَوْله تَعَالَى : (اِعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا " أَيْ وَقُلْنَا لَهُمْ اِعْمَلُوا شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين وَالدُّنْيَا وَشُكْرًا مَصْدَر مِنْ غَيْر الْفِعْل أَوْ أَنَّهُ مَفْعُول لَهُ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فِيهِ دَلَالَة عَلَى أَنَّ الشُّكْر يَكُون بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُون بِالْقَوْلِ وَالنِّيَّة كَمَا قَالَ الشَّاعِر : أَفَادَتْكُمْ النَّعْمَاء مِنِّي ثَلَاثَة يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِير الْمُحَجَّبَا قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ الصَّلَاة شُكْر وَالصِّيَام شُكْر وَكُلّ خَيْر تَعْمَلهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شُكْر وَأَفْضَل الشُّكْر الْحَمْد رَوَاهُ اِبْن جَرِير وَرَوَى هُوَ وَابْن أَبِي حَاتِم عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ قَالَ الشُّكْر تَقْوَى اللَّه تَعَالَى وَالْعَمَل الصَّالِح وَهَذَا يُقَال لِمَنْ هُوَ مُتَلَبِّس بِالْفِعْلِ . وَقَدْ كَانَ آلُ دَاوُدَ عَلَيْهِمْ السَّلَام كَذَلِكَ قَائِمِينَ بِشُكْرِ اللَّه تَعَالَى قَوْلًا وَعَمَلًا قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر حَدَّثَنَا جَعْفَر يَعْنِي اِبْن سُلَيْمَان عَنْ ثَابِت الْبُنَانِيّ قَالَ كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَام قَدْ جَزَّأَ عَلَى أَهْله وَوَلَده وَنِسَائِهِ الصَّلَاة فَكَانَ لَا تَأْتِي عَلَيْهِمْ سَاعَة مِنْ اللَّيْل وَالنَّهَار إِلَّا وَإِنْسَان مِنْ آلِ دَاوُدَ قَائِم يُصَلِّي فَغَمَرَتْهُمْ هَذِهِ الْآيَة " اِعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيل مِنْ عِبَادِي الشَّكُور " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ أَحَبَّ الصَّلَاة إِلَى اللَّه تَعَالَى صَلَاة دَاوُدَ كَانَ يَنَام نِصْف اللَّيْل وَيَقُوم ثُلُثه وَيَنَام سُدُسه وَأَحَبّ الصِّيَام إِلَى اللَّه تَعَالَى صِيَام دَاوُدَ كَانَ يَصُوم يَوْمًا وَيُفْطِر يَوْمًا وَلَا يَفِرّ إِذَا لَاقَى وَقَدْ رَوَى أَبُو عَبْد اللَّه بْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث سَعِيد بْن دَاوُدَ حَدَّثَنَا يُوسُف بْن مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَتْ أُمّ سُلَيْمَان بْن دَاوُدَ عَلَيْهِمْ السَّلَام لِسُلَيْمَان يَا بُنَيّ لَا تُكْثِر النَّوْم بِاللَّيْلِ فَإِنَّ كَثْرَة النَّوْم بِاللَّيْلِ تَتْرُك الرَّجُل فَقِيرًا يَوْم الْقِيَامَة وَرَوَى اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام هَهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا مُطَوَّلًا جِدًّا وَقَالَ أَيْضًا حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عِمْرَان بْن مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو زَيْد قَبِيصَة بْن إِسْحَاق الرَّقِّيّ قَالَ : قَالَ فُضَيْل فِي قَوْله تَعَالَى : " اِعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا " قَالَ دَاوُدُ يَا رَبّ كَيْف أَشْكُرك وَالشُّكْر نِعْمَة مِنْك ؟ قَالَ الْآن شَكَرْتنِي حِين قُلْت إِنَّ النِّعْمَة مِنِّي وَقَوْله تَعَالَى : " وَقَلِيل مِنْ عِبَادِي الشَّكُور " إِخْبَار عَنْ الْوَاقِع .
وقال تعالى: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40)
2- الأدلة من السنة :
أما لفظ الشكر في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فروى البخاري(ج 1 ص 75)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش فأخذ الرجل خفه فجعل يغرف له به حتى أرواه فشكر الله له فأدخله الجنة
وعن أبي هريرة كذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له ثم قال الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله وقال لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا
وروى مسلم في صحيحه (ج 4 ص 1761) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له. قالوا يا رسول الله وإن لنا في هذه البهائم لأجرا ؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر.
وعنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له وقال الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله عز وجل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك فأخذه فشكر الله له فغفر له ) رواه البخاري)
وعن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد أو على هذا المنبر من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب
قال فقال أبو أمامة الباهلي عليكم بالسواد الأعظم قال فقال رجل ما السواد الأعظم فنادى أبو أمامة هذه الآية التي في سورة النور { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ }
أنواع الشكر:
ذكر الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله أنواع الشكر فقال :
1- الشكر بالقلب:
والشكر لله سبحانه على نعمة التوحيد وغيرها من النعم من أعظم الواجبات وأفضل القربات ، وهو يكون بقلبك محبة لله وتعظيما له ومحبة فيه وموالاة فيه . . . شوقا إلى لقائه وجناته ، فهو سبحانه العالي فوق خلقه والمستوي على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته ، وليس المعنى استولى كما تقول المبتدعة من الجهمية وغيرهم ،
ومن الشكر بالقلب لله أيضا محبة المؤمنين والمرسلين وتصديقهم فيما جاءوا به ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ، كما قال سبحانه : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }ومن الشكر بالقلب أيضا أن تعتقد جازما أن العبادة حق لله وحده ولا يستحقها أحد سواه .
ومن الشكر لله بالقلب الخوف من الله ورجاؤه ومحبته حبا يحملك على أداء حقه وترك معصيته وأن تدعو إلى سبيله وتستقيم على ذلك .
ومن ذلك الإخلاص له والإكثار من التسبيح والتحميد والتكبير .
ومن الشكر بالقلب الإخلاص لله ومحبته والخوف منه ورجاؤه كما تقدم والشكر لله سبب للمزيد من النعم كما قال سبحانه : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ومعنى تأذن : يعني أعلم عباده بذلك وأخبرهم أنهم إن شكروا زادهم وإن كفروا فعذابه شديد ، ومن عذابه أن يسلبهم النعمة ، ويعاجلهم بالعقوبة فيجعل بعد الصحة المرض وبعد الخصب الجدب وبعد الأمن الخوف وبعد الإسلام الكفر بالله عز وجل وبعد الطاعة المعصية .
2- ومن الشكر أيضا الثناء باللسان وتكرار النطق بنعم الله والتحدث بها والثناء على الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الشكر يكون باللسان والقلب والعمل. وهكذا شكر ما شرع الله من الأقوال يكون باللسان .
3- وهناك نوع ثالث وهو الشكر بالعمل . . . بعمل الجوارح والقلب؛ ومن عمل الجوارح أداء الفرائض والمحافظة عليها كالصلاة والصيام والزكاة وحج بيت الله الحرام والجهاد في سبيل الله بالنفس والمال كما قال تعالى: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } الآية .
فمن شكر الله عز وجل أن تستقيم على أمره وتحافظ على شكره حتى يزيدك من نعمه ، فإذا أبيت إلا كفران نعمه ومعصية أمره فإنك تتعرض بذلك لعذابه وغضبه ، وعذابه أنواع؛ بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة . اهـ كلام الشيخ رحمه الله
عقاب من ترك شكره تعالى :
قال الشيخ ابن باز رحمه الله :
ومن عذابه في الدنيا : سلب النعم كما قال تعالى { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وتسليط الأعداء وعذاب الآخرة أشد وأعظم كما قال سبحانه : {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } وقال تعالى : {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } فأخبر سبحانه أن الشاكرين قليلون وأكثر الناس لا يشكرون .
من أحوال الناس في الشكر :
قال الشيخ ابن باز رحمه الله
فأكثر الناس يتمتع بنعم الله ويتقلب فيها ولكنهم لا يشكرونها بل هم ساهون لاهون غافلون كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ } فلا يتم الشكرإلا باللسان واليد والقلب جميعا. وبهذا المعنى يقول الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
والمؤمن من شأنه أن يكون صبورا شكورا كما قال تعالى { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } فالمؤمن صبور على المصائب شكور على النعم ، صبور مع أخذه بالأسباب وتعاطيه الأسباب ، فإن الصبر لا يمنع الأسباب ، فلا يجزع من المرض ولكن لا مانع من الدواء .
فلا يجزع من قلة المزرعة أو ما يصيبها ولكن يعالج المزرعة بما يزيل من أمراضها ، فالصبر لازم وواجب ، ولكن لا يمنع العلاج والأخذ بالأسباب .
فالمؤمن يصبر على ما أصابه ويعلم أنه بقدر الله وله فيه الحكمة البالغة ويعلم أن الذنوب شرها عظيم وعواقبها وخيمة فيبادر بالتوبة من الذنوب والمعاصي .
قواعد الشكر:
قال ابن القيم في مدارج السالكين الجزء 2، ص244:
و الشكر مبني على خمس قواعد :
خضوع الشاكر للمشكور
وحبه له
واعترافه بنعمته
وثناؤه عليه بها
وأن لا يستعملها فيما يكره.
فهذه الخمس : هي أساس الشكر وبناؤه عليها
حكمها :
قال ابن القيم رحمه الله بعد ذكره للقواعد الخمس
فمتى عدم منها واحدة : اختل من قواعد الشكر قاعدة.
أهمية تلك القواعد :
قال ابن القيم رحمه الله
وكل من تكلم في الشكر وحده فكلامه إليها يرجع وعليها يدور.
فصل : وتكلم الناس في الفرق بين الحمد و الشكر أيهما أعلى وأفضل
الفرق بينهما : أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه وأخص من جهة متعلقاته و الحمد أعم من جهة المتعلقات وأخص من جهة الأسباب
ومعنى هذا : أن الشكر يكون : بالقلب خضوعا واستكانة وباللسان ثناء واعترافا وبالجوارح طاعة وانقيادا ومتعلقه : النعم دون الأوصاف الذاتية فلا يقال : شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه وهو المحمود عليها كما هو محمود على إحسانه وعدله والشكر يكون على الإحسان والنعم فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس فإن الشكر يقع بالجوارح والحمد يقع بالقلب واللسان
كتاب مدارج السالكين، الجزء 2، صفحة 246.
مقام الشكر :
ومقام الشكر جامع لجميع مقامات الإيمان ولذلك كان أرفعها وأعلاها وهو فوق الرضا وهو يتضمن الصبر من غير عكس ويتضمن التوكل والإنابة والحب والإخبات والخشوع والرجاء فجميع المقامات مندرجة فيه لا يستحق صاحبه اسمه على الإطلاق إلا باستجماع المقامات له ولهذا كان الإيمان نصفين نصف صبر ونصف شكر والصبر داخل في الشكر فرجع الإيمان كله شكرا والشاكرون هم أقل العباد كما قال تعالى وقليل من عبادي الشكور
كتاب مدارج السالكين، الجزء 1، صفحة 137.
فصل: قال صاحب المنازل : الشكر : اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى
معرفة المنعم ولهذا سمى الله تعالى الإسلام والإيمان في القرآن : شكرا
فمعرفة النعمة : ركن من أركان الشكر لا أنها جملة الشكر كما تقدم : أنه الاعتراف بها والثناء عليه بها والخضوع له ومحبته والعمل بما يرضيه فيها لكن لما كان معرفتها ركن الشكر الأعظم الذي يستحيل وجود الشكر بدونه : جعل أحدهما اسما للآخر قوله : لأنه السبيل إلى معرفة المنعم يعني أنه إذا عرف النعمة توصل بمعرفتها إلى معرفة المنعم بها وهذا من جهة معرفة كونها نعمة لا من أي جهة عرفها بها ومتى عرف المنعم أحبه وجد في طلبه فإن من عرف الله أحبه لا محالة ومن عرف الدنيا أبغضها لا محالة
وعلى هذا : يكون قوله : الشكر اسم لمعرفة النعمة مستلزما لمعرفة المنعم ومعرفته تستلزم محبته ومحبته تستلزم شكره فيكون قد ذكر بعض أقسام الشكر باللفظ ونبه على سائرها باللزوم وهذا من أحسن اختصاره وكمال معرفته وتصوره قدس الله روحه قال : ومعاني الشكر ثلاثة أشياء : معرفة النعمة ثم قبول النعمة ثم الثناء بها وهو أيضا من سبل العامة أما معرفتها : فهو إحضارها في الذهن ومشاهدتها وتمييزها فمعرفتها : تحصيلها ذهنا كما حصلت له خارجا إذ كثير من الناس تحسن إليه وهو لا يدري فلا يصح من هذا الشكر قوله : ثم قبول النعمة
كتاب مدارج السالكين، الجزء 2، صفحة 247.
درجات الشكر :
فصل قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : الشكر على المحاب
وهذا شكر تشاركت فيه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس ومن سعة رحمة الباري سبحانه : أن عده شكرا ووعد عليه الزيادة وأوجب فيه المثوبة إذا علمت حقيقة الشكر وأن جزء حقيقته : الاستعانة بنعم المنعم على طاعته ومرضاته : علمت اختصاص أهل الإسلام بهذه الدرجة وأن حقيقة الشكر على المحاب ليست لغيرهم
نعم لغيرهم منها بعض أركانها وأجزائها كالاعتراف بالنعمة والثناء على المنعم بها فإن جميع الخلق في نعم الله وكل من أقر بالله ربا وتفرده بالخلق والإحسان فإنه يضيف نعمته إليه لكن الشأن في تمام حقيقة الشكر وهو الاستعانة بها على مرضاته وقد كتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية رضي الله عنه إن أقل ما يجب للمنعم على من أنعم عليه : أن لا يجعل ما أنعم عليه سبيلا إلى معصيته .
وقد عرف مراد الشيخ وهو أن هذا الشكر مشترك وهو الاعتراف بنعمه سبحانه والثناء عليه بها والإحسان إلى خلقه منها وهذا بلا شك يوجب حفظها عليهم والمزيد منها فهذا الجزء من الشكر مشترك وقد تكون ثمرته في الدنيا بعاجل الثواب وفي الآخرة : بتخفيف العقاب فإن النار دركات في العقوبة مختلفة
كتاب مدارج السالكين، الجزء 2، صفحة 253.
فصل قال : الدرجة الثانية : الشكر في المكاره وهذا ممن تستوى عنده
الحالات : إظهارا للرضى وممن يميز بين الأحوال : لكظم الغيظ وستر الشكوى ورعاية الأدب وسلوك مسلك العلم وهذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة
يعني أن الشكر على المكاره : أشد وأصعب من الشكر على المحاب ولهذا كان فوقه في الدرجة ولا يكون إلا من أحد رجلين : إما رجل لا يميز بين الحالات بل يستوي عنده المكروه والمحبوب فشكر هذا : إظهار منه للرضى بما نزل به وهذا مقام الرضى
الرجل الثانى : من يميز بين الأحوال فهو لا يحب المكروه ولا يرضى بنزوله به فإذا نزل به مكروه شكر الله تعالى عليه فكان شكره كظما للغيظ الذي أصابه وسترا للشكوى ورعاية منه للأدب وسلوكا لمسلك العلم فإن العلم والأدب يأمران بشكر الله على السراء والضراء فهو يسلك بهذا الشكر مسلك العلم لأنه شاكر لله شكر من رضي بقضائه كحال الذي قبله فالذي قبله أرفع منه
وإنما كان هذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة : لأنه قابل المكاره التي يقابلها أكثر الناس بالجزع والسخط وأوساطهم بالصبر وخاصتهم بالرضى فقابلها هو بأعلى من ذلك كله وهو الشكر فكان أسبقهم دخولا إلى الجنة وأول من يدعى منهم إليها
وقسم أهل هذه الدرجة إلى قسمين : سابقين ومقربين بحسب انقسامهم إلى من يستوي عنده الحالات من المكروه والمحبوب فلا يؤثر أحدهما على الآخر بل قد فني بإيثاره ما يرضى له به ربه عما يرضاه هو لنفسه وإلى من يؤثر المحبوب ولكن إذا نزل به المكروه قابله بالشكر
( كتاب مدارج السالكين، الجزء 2، صفحة 254)
فصل قال : الدرجة الثالثة : أن لا يشهد العبد إلا المنعم فإذا شهد
المنعم عبودية : استعظم منه النعمة وإذا شهده حبا : استحلى منه الشدة وإذا شهده تفريدا لم يشهد منه نعمة ولا شدة
هذه الدرجة يستغرق صاحبها بشهود المنعم عن النعمة فلا يتسع شهوده للمنعم ولغيره
( كتاب مدارج السالكين، الجزء 2، صفحة 255 ).
المراجع
1- كتاب مدارج السالكين .
2- مجموع فتاوى ومقالات_الجزء الخامس
__________________
"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك".
فوز & لوز @foz_amp_loz
عضوة فعالة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
جزاك الله خيرا وجعله في موازين أعمالك