شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن

ملتقى الإيمان

بسم الله الرحمن الرحيم


شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن

لفضيلة الشيخ أبي بكر الجزائري

بسم الله، والحمد لله، والصلاة على رسول الله ..
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهُ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
يقدم شرحها - بمناسبة شهر رمضان المبارك -: ... الجزائري.

وبعد فإن هذه الآية الكريمة من سورة البقرة من كتاب هذه الأمة القرآن الكريم لمن أعظم آي القرآن الكريم خيراً وبركة، وذلك لأنها أوجبت صوم شهر رمضان الذي هو شهر البركة والخير، ولأنها أشادت بفضل القرآن العظيم ونوّهت بما فيه من الهدى والفرقان، والقرآن كله بركة وخير، ولأنها قرّرت رخصة الإفطار للمريض والمسافر والرخصة يسر، واليسر بركة وخير، ولأنها أبانت عن مراد الله تعالى لأمة الإسلام، ذلك المراد الكريم وهو اليسر في كل أمور هذه الأمة وشؤونها, والبعد بها عن مواطن الحرج والعسر. وفي هذا المراد الإلهي الخير كله والبركة جميعها، ولأنها بشرت أمة القرآن بهداية الله تعالى لها وهيأتها لشكر نعم ربها عليها وفي ذلك من الخير والبركة ما لا يعلم مداه إلا الله.
ومن هنا كان شرح هذه الآية لقراء المجلة يتطلب بسطة في القول يضيق عنه نطاق المجلة المحدود.
وانطلاقاً من مبدأ: (ما لا يُدرك كله، لا يترك جله) فإنا نشرح هذه الآية الكريمة العظيمة شرحاً سنراعي فيه مستويات القراءة الثقافية العلمية المختلفة, وذلك عذرنا لذوي المستوى العلمي العالي؛ إذ هبطنا بالتعبير ليقرب من متناول ذوي العلم الضحل القليل، كما هو عذرنا لقليلي العلم والمعرفة إذا رفعنا العبارة إلى مستوى ما فوق السقوط والهبوط رَبْأً بالكلمات والمعاني من الإهمال والابتذال.
وتيسيراً للفهم، وإمتاعاً للعقل فإنا ننهج في شرح هذه الآية الكريمة نهج التحليل التقسيمي فنشرح ألفاظها أولاًّ، ثم جملها وتراكيبها ثانياً، ثم نسترج أحكامها الشرعية الحاوية لها، ثم نبرز مظاهر هدايتها الكامنة فيها، وبذلك يتم تحليل هذه الآية وشرحها المطلوب لها، والله المستعان، وعليه وحده التكلان ..

أ - ألفاظها ومفرداتها:
{شَهْرُ} الشهر: الوقت المعين أو المدة المحدودة من الزمن وهو تسعة وعشرون يوماً، أو ثلاثون ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو في السنن والصحاح.
وقيل في هذه الفترة من الزمن شهر، لشهرتها بين الناس، وذلك لتعلق مصالحهم الدينية والدنيوية بها، إذ العقول لا بد لها من آجال ترتبط بها، ولا تعرف إلا بها.
{رَمَضَانَ} اختلف في هذا اللفظ (رمضان) هل هو اسم جامد مرتجل، أو هو اسم مشتق؟ وإن كان مشتقاً فهل هو من الرمض الذي هو مطر ينزل أول الخريف، سمي به هذا الشهر، لأنه يغسل ذنوب أهله الصائمين له القائمين فيه المعظمين لحرمته؟ أو هو من الرمضاء التي هي شدة الحر المحرق, سمي بها هذا الشهر لأنه محرق ذنوب التائبين فيه ويطهرهم منها كما يطهر الجلد الدباغ؟.
وإن كان اسماً جامداً غير مشتق فهل هو اسم من أسماء الله تعالى لإضافة الشهر إليه في أكثر التعابير الشرعية, ومن ذلك هذه الآية {شَهْرُ رَمَضَانَ}.
ولو صح في هذا خبر عن سيد البشر لما جاز القول بغيره، ولكن لما لم يصح كان للناس أن يقولوا. والله أعلم بما هو الحق في ذلك.
{القُرْآنُ} القرآن اسم وضع وضع الأعلام على كتاب الله تعالى المنزل على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم, وهل هو اسم جامد كما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى؟ أو هو مشتق من قرأ يقرأ قراءة وقرآناً كما ذهب إليه جمهور العلماء والمفسرين ؟ وكونه مشتقاً من قرأ إذا جمع يقال: قرأ الماء في الحوض إذا جمعه، ولما كان القارئ للكتاب الكريم يجمع كلماته وتراكيبه عند النطق بها قيل له قارئ, والمقروء قرآن, فهو مصدر بمعنى المفعول, وضع علماً على كتاب الله تعالى ليعرف به بين سائر كتبه تعالى.
{هُدىً} الهدى مصدر هدى يهدي هدىً وهدياً وهداية إذا أرشد إلى طريقة خير، أو سبيل سعادة. وجعل الله تبارك وتعالى القرآن هدى للناس؛ لأنه متى آمنوا به وأخذوا بما فيه من الشرائع والأحكام هداهم إلى سبل السعادة والسلام، ودلّهم على ما فيه صلاحهم وفلاحهم في الدنيا والأخرى، وأرشدهم إلى الخير الذي جبلوا على حبه والرغبة فيه ما استقامت فطرهم وسلمت أرواحهم من الخبث والشر.
{وَالْفُرْقَانِ} هذا اللفظ مصدر فرق يفرق فرقاً وفرقاناً بين الشيئين والأشياء ميز بينها وفصل بعضها عن بعض.
أطلق على القرآن العظيم فصار علماً ثانياً له كالقران، لأنه يفرق بين الحق والباطل, والهدى والضلال, والكفر والإيمان، وبين كل الملتبسات والمتشابهات مما قد تضل فيه العقول ويلتبس عليها، وذلك لما فيه من أنواع الهدايات الإلهية العظيمة التي لا توجد في غيره من الكتب السماوية.
{شَهِدَ} شهد هنا هو بمعنى حضر الإعلان عن رؤية هلال رمضان سواء رآه بعينه مشاهداً له أو سمع الأخبار برؤيته، وهو حاضر غير مسافر, وصحيح غير مريض, فليصم على سبيل الوجوب إن كان بالغاً عاقلاً، وإن كانت امرأة اشترط في صومها أن تكون طاهرة من دَمَىِ الحيض والنفاس.
{فَلْيَصُمْهُ} الفاء واقعة في جواب الشرط الذي هو (مَنْ) في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ}, واللام للأمر الذي هو هنا للوجوب.
و(يَصُمْهُ) بمعنى يمسك عن المفطرات من طعام وشراب وغشيان النساء, والضمير عائد على شهر رمضان الذي تقدم في أول الآية، أي يمسك الشهر كله, فلا يفطر فيه إلا إذا مرض أو سافر, أو حاضت المرأة أو نفست.
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً} الواو للعطف أو الاستئناف، ومن كان مريضاً أي ومن قام به مرض, والمرض: هو انحراف الأمزجة المسبب لضعف القوة، وذهاب القدرة على تحمل مشقة التكليف الذي هو الصوم هنا.
{أَوْ عَلَى سَفَر} أو حرف عطف، وعلى حرف جر واستعلاء, والسفر مشتق من سفر إذا ظهر, فمن ظهر من البلد الذي يسكنه بحيث خرج منه وتجاوز دياره ولو حكماً جاز له أن يفطر، ودلّ حرف (على) في الآية على أنه لا بد من السفر الفعلي فلا يكفي مجرد النية أو مباشرة بعض أسباب السفر بل لا بد من التمكن من السفر، وذلك لا يتم حقيقة إلا إذا خرج من البلد وتجاوز دياره، وبذلك يكون فد تمكن المسافر من السفر تمكن الراكب من ظهر دابته, أو ما يركبه، وهذا هو السر في حرف (على) في الآية.
والسفر الذي تذكره الآية السفر الشرعي لا اللغوي فليس لمؤمن أن يظهر خارج قريته ويفطر بحجة أنه مسافر، وإنما يفطر في السفر المباح الهادف إلى خير ديني أو دنيوي يتحقق للمسلم، وأن يكون مسافة تحصل معها المشقة الملائمة للرخصة.
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} العدة بمعنى العدد، والأيام جمع يوم وهو هنا من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأخر جمع آخر أب غير التي أفطرتم فيها من سائر أيام السنة.
والفاء داخلة على محذوف والتقدير: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فأفطر فعليه صيام عدة أيام أخر بقدر ما أفطر فيه، ومن هنا كان القضاء واجباً حتمياً. ومن فرط في القضاء بلا عذر حتى دخل عليه رمضان آخر فقضى بعده فإن عليه أن يطعم مسكيناً كل يوم يقضيه كفارة لتفريطه بلا عذر قام به.
{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} إرادة الله تعالى هنا شرعية قدرية واليسر السهولة وهي ضد الشدة المسببة للمشقة, والجملة خبرية سيقت لتعليل حكم هذه الرخصة للمريض والمسافر, وهي مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية.
{وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} العسر: الشدة والمشقة وهو خلاف اليسر والسهولة, والجملة معطوفة على الجملة قبلها ذكرت تقريراً لإرادة الله تعالى اليسر بهذه الأمة المرحومة أمة الإسلام.
{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّة} الواو للعطف والاستئناف، واللام للتعليل, والإكمال: الإتمام، والعدة: مجموعة أيام الشهر، أي رخص الله تعالى في الإفطار للمريض والمسافر وأوجب القضاء عليهما من أجل أن يكمل لهما صوم شهر رمضان فيثابون عليه كله، وفي ذلك من العناية بهذه الأمة وحسن التشريع لها والرأفة بها وإردة الخير لها ما لا يقدر قدره, فالحمد لله تعالى على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة !!!
{وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ} الواو للعطف أو للاستئناف, واللام للتعليل, وتكبروا بمعنى تعظموا الله تعالى بلفظ الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد, وذلك ليلة عيد الفطر وعند الخروج إلى المصلى، وعند انتظار الصلاة به بين هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، أي شرع الله تعالى لنا الصوم والإفطار، فنصوم بأمره تعالى ونفطر بإذنه تعالى، وفي ذلك مظهر من مظاهر عظمة الرب تعالى وهنا يتعين التكبير لله والتعظيم، فتنطلق ألسنة المؤمنين لاهجة بأعظم لفظ: الله أكبر، الله أكبر, لا إله إلا الله الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد..
{عَلَى مَا هَدَاكُم} (على) هنا تعليلية بمعنى لأجل, أي تكبرون الله لأجل ما هداكم إليه من الصيام الذي هو من أعظم العبادات، والإفطار الذي هو من أكبر النعم على العباد حيث أباح لهم ربهم تعالى الأكل والشرب وما كان ممنوعاً بالصوم تعبداً لهم وتربية وتهذيباً، فله وحده الحمد والمنة.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} الواو للعطف.. (ولعل) هي الإعدادية كما قال بعض أهل الذوق القرآني أي تعد المؤمن للشكر .. و{تَشْكُرُون} بمعنى تظهرون نعمة الله عليكم بحمده تعالى المنعم بها، والثناء عليه مع طاعته بامتثال أمره واجتاب نهيه، فمن امتثل أمر الله فصام رمضان ثم أفطر يوم العيد ولبس صالح ثيابه وتصدق من طيب ماله، وخرج يلهج بذكر اسم ربه وصلى صلاة العيد فقد شكر الله، وأدّى بعض الواجب الذي خُلق لأجله الذي هو الذكر والشكر.

ب- جملها وتراكيبها:
قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ..
في هذا التركيب العظيم يخبر الله تعالى أنّ ما كتبه على عباده المؤمنين من صيام أيام معدودات بقوله أول السياق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}: هو أيام شهر رمضان المبارك الذي هو سيد الشهور وأفضلها بما خصه الله تعالى به من نزول القرآن سيد الكتب وأفضلها فيه ابتداءً، حيث نزل الروح الأمين بأول آية منه وهي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، في رمضان بلا خلاف، وانتهاء حيث نزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر من رمضان لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} وهي ليلة القدر ويشهد لذلك الاحتفال بها من قبل الملائكة في السماء والمؤمنين من الناس في الأرض كل ليلة قدر من رمضان {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}. كما أن الله تعالى قد أنزل في شأن صيام رمضان قرآناً، به وجب صومه وتحتم على المؤمنين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ }، وقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه} أي شهر رمضان.
فهذه المعاني الثلاثة أوردناها تندرج كلها تحت لفظ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.
وأما قوله تعالى: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} فإن هذا الجزء من القول أو التركيب هو حال من القرآن أي أنزله تعالى حال كونه هدىً للناس عامة، فكل إنسان يؤمن به ويقدمه بين يديه, نور هداية اهتدى به فأرشده إلى ما يكمل آدميته ويسعده في الدنيا ويؤهله لسعادة الدار الآخرة وبينات من الهدى والفرقان، حيث حوى من التشريع العاصم من الضلال والمنجي من الردى والهلاك، والموضح لسبل السعادة وطرق الكمال ما لا يوجد في غيره مما سبقه من كتب الله تعالى التي أنزلها على رسله عليهم السلام.قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
في هذا التركيب الكريم يأمر الله تعالى المؤمنين الذي أعلمهم بأنه كتب عليهم صيام شهر رمضان المعظم يأمرهم بأن كل من حضر دخول شهر رمضان؛ عليه أن يصومه أمراً لازماً وقضاءً محتوماً، اللهم إلا من كان مريضاً أو على سفر، فإنّ له أن يفطر دفعاً للمشقة التي قد تلحقه بالصيام، وإذا هو أفطر فإنّ عليه قضاء أيام أخر بعدد الأيام التي أفطرها من رمضان لمرضه أو سفره.
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر}.
إن هذا الجزء من التركيب في الآية قد سيق لغرض التعليل لرخصة الإفطار في رمضان بسبب المرض أو السفر، كما فيه بشرى تثلج لها صدور المؤمنين وتقرّ بها أعين المسلمين، إذ أخبرهم ربهم أن شأنه سبحانه وتعالى معهم دائماً إرادة اليسر بهم، ونفى العسر عنهم في كل ما يشرع لهم, ويدعوهم إليه ويهديهم إلى فعله والقيام به من سائر العبادات والقرب والطاعات.
وقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ..
تضمن هذا الجزء الأخير من الآية ثلاث تعليلات:
الأول: التعليل لقضاء ما أفطر فيه المريض والمسافر من رمضان، فإن العلة في القضاء هي أن يكمل المؤمن عدة صوم رمضان, فيصوم تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين، فيثاب ثواب من صام كل رمضان ولم يفطر فيه، وهذا خير عظيم وفضل كبير حيث أيام القضاء وهي قطعاً من غير شهر رمضان بانضمامها إلى عدة أيام رمضان تصبح ذات فضل وأجر كأنما هي من شهر رمضان.
والثاني: التعليل لهداية الله تعالى لهذه الأمة إلى أكمل الشرائع وأحسنها، وأجلها وأعظمها مع التوفيق للأخذ بها والعمل بما فيها، مما يبعث على تكبير الله تعالى وتعظيمه، فالقلوب تستشعر عظمة الله تعالى من عظمة علمه وتشريعه، والألسن تلهج بذكره وتكبيره: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر ولله الحمد.
والتعليل الثالث: فإنه مسوق لكل ما تقدم من الإنعامات الإلهية على هذه الأمة، فالله تعالى يَخْلُق ليذكر ويُنعِم ليُشكَر، وتلك الغاية التي من أجلها خلق الخلق، فإنه ما خلق ولا رزق ولا أكرم ولا أنعم إلا ليذكر بذلك ويشكر فيما أنعم تعالى على هذه الأمة المسلمة من جزيل النعم، وعظيم الامتنان أعدها لشكره, وهو الشكور الحليم.

ج- استخراج أحكامها:

إنّ هذه الآية الكريمة المباركة تعدّ من آيات الأحكام لاحتوائها على عدة أحكام شرعية منها:
1- وجوب صوم رمضان الدال عليه قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
2- وجوب ترائي هلال رمضان؛ إذ صيام رمضان يتوقف على رؤية هلاله، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
3- الرخصة في الإفطار لمن لا يطيق الصيام لمرض أو لكبر سنّ، ولمن تلحقه مشقة السفر، أو حمل أو إرضاع الدال عليه قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر}.
4- وجوب قضاء ما أفطر فيه صاحب الرخصة لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر}.
5- سقوط سائر التكاليف بالعجز الكامل الذي هو انعدام القدرة على أداء الواجب أو الانكفاف عن المحظور, دل على هذا الحكم قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وهو قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
6- وجوب تعظيم الرب تبارك وتعالى الدال عليه قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
7- وجوب شكر النعم بحمد الله تعالى والثناء عليه وذكره وطاعته الدال عليه قوله تعالى: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ}.
8- مشروعية التكبير ليلة العيد ويومه عند الذهاب إلى المصلى, وهو مظهر من مظاهر تعظيم الرب وشكره وذكره وحسن عبادته، وفي الحديث: "يا معاذ إني أحبك فلا تدعنّ أن تقول دبر كلا صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". اللهم أعنا على ذلك إنك قوي قدير.

د – ما في الآية من هداية:
إنّ في كل آية من كتاب الله تعالى هداية خاصة تحملها للمؤمنين، وللناس أجمعين إذ كل آية تدل باللزوم على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته وسائر نعوت الكمال له، كما تدل على نبوة محمد ورسالته - صلى الله عليه وسلم -، وأعظم بهذه الهداية من هداية للعالمين, كما تدل بدلالة الخطاب على هداية خاصة وقد تتعدد وجوه الهداية في الآية الواحدة كما في آيتنا المباركة هذه فتبلغ العدد الكثير وهذا طرف مما حملته هذه الآية من هداية لأمة الإسلام:-
1 – جمع قلوب المسلمين على تعظيم ما عظم الله تعالى من شهر رمضان والقرآن العظيم وفي هذا من الهداية والبركة والخير ما لا يقدر قدره، ولا يعرف مداه ولا يُطاق حصره.
2 – رفع قيمة أمة الإسلام، وإظهارها في مظاهر الوحدة والنظام مما يجعلها المثل الكامل بين شعوب العالم وأممه إذا التزمت ذلك.
3 – تحقيق مبدأ الإيجابية بين أفراد الأمة الإسلامية، والقضاء على مظاهر السلبية والتواكل, تلك المظاهر التي تزري بالأمم والشعوب، وتقودها إلى هاوية الهلاك والدمار.
4 – المحافظة على ينابيع الخير والجمال والكمال في أمة الإسلام، وذلك بقيامها بشكر الله تعالى بذكره وطاعته، والشكر يقيد النعم الواردة ويجلب النعم الشاردة، كما قيل وصح.
5 – تقرير مبدأ الخير والجمال وهما زينة حياة الأمم والشعوب وسرّ مجدها وعنصر بقائها حية قوية نامية صالحة تنفع وتضر، وتهدي الحيارى إلى سبل الخير والسلام.
وأخيراً نشير إلى مكامن هذه الهدايات الخمس من الآية الكريمة فنقول:
إنها في تعظيم رمضان والقرآن.
إنها في سرعة الامتثال والطاعة الصادقة.
إنها في جلال التشريع وجماله وسره وشموله.
إنها في الوفاء الكامل بالالتزام أي التزام كان مما هو شرع وطاعة لله ورسوله.
إنها في الذكر والشكر وهما علة الحياة وسر كل الوجود.


اسال الله ان يعيننا على صيامه وقيامه
0
538

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️