بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد..
فإن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه.
يقول ابن عباس : ولو أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد أن يتكلم بكلام رب العالمين والدليل "ولقد يسرنا القرآن للذكر"
معجزة الرسول الخالدة "مامن نبي إلا أعطي مامثله آمن عليه البشر وإنما الذي أوتيت وحياً اوحاه الله إلي فارجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة"
إن هذا القرآن محفوظ "وإنا له لحافظون " حتى جاء في وصف هذه الأمة أناجليهم في صدورهم .
وهو المخرج من الفتن " فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم "
لا يشبع منه العلماء و لا يخلق مع كثرة الرد لا تنقضي عجائبه .
من حفظه رفعه الله روي أن عمر بن الخطاب سأل نافع بن الحارث فقال: من استعملت على الوادي فقال : ابن ابزى قال عمر : ومن ابن ابزى , قال نافع: مولى من موالي المسلمين. قال عمر: أتستعمل مولى من موالي المسلمين !! قال نافع: إنه يحفظ كتاب الله وعنده علم بالفرائض. قال عمر: لقد صدق رسول الله"إن الله يرفع بهذا القرآن أقواما ويضع به آخرين"
فهو رفعة في الدنيا ورفعة في درجات الجنة.
فالواجب تلاوته فهو حياة القلوب أقلها أن يختم في شهر و أحسن سبع وأحسن 3 ليال. (وخيركم من تعلم القرآن وعلمه )(يقال لصاحب القرآن إقرأ و ارتق و رتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها ) ( ومن قرأالقرآن وهو ماهر به فهو مع السفرة الكرام البررة ومن قرأه وهو عليه شاق فله أجران ) .( أقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه تتقدمه البقرة و آل عمران تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة)
لكن لا يكفي قراءته بل لابد من تدبره.
التدبر لغة:- وهو مأخوذ من مادة (دَ بَ رَ ) وهو آخر الشيء وخَلفُهُ خِلافَ قُبُلِهِ .
اصطلاحا :- النظر في عواقب الأمور وهو قريب من التفكر.
و المراد هنا تدبر القرآن :- فهو تحديق ناظِرِ القلب إلى معانيه و جَمْعُ الفِكرِ على تدبره. وهو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر.
والناس عند سماع القرآن أنواع:-
قال تعالى في آياته المشهودة " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" (ق/ 36-37).
قال ابن القيم رحمه الله :- الناس ثلاثة : رجلٌ قلبه ميت فذلك الذي لا قلب له , فهذا ليست الآية ذكرى في حقه .
الثاني:- رجل له قلب حيٌ مستعدٌّ , لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر الله بها عن الآيات المشهودة, إما لعدم ورودها , أو لوصولها إليه و قلبه مشغول عنها بغيرها فهو غائب القلب ليس حاضراً فهذا أيضا لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه.
الثالث :- رجل حيٌ القلب مستعد , تليت عليه الآيات فأصغى لها بسمعه , وألقى السمع و أحضر قلبه ولم يشغله بغير فهم ما يسمعُهُ , وهو شاهد القلب ,ملقي السمع , فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المذكورة و المشهودة .
فالأول بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر.
والثاني بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه فكلاهما لا يراه.
والثالث بمنزلة البصير الذي قد حَدَّق إلى جهة المنظور, و أتبعه بصره , وقابله على توسط من البعد والقرب , فهذا الذي يراه .
الآيات التي وردت في الحث على التدبر :-
قال تعالى :" كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكرَ أولو الألباب "
وقال سبحانه "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"
وقال تعالى "أفلم يدبروا القول"
وقال تعالى:" إنا جعلناه قرءانا عربياً لعلكم تعقلون "
وقال الحسن :" نزل القرآن ليُتدبر ويعمل به , فاتخذوا تلاوته عملا "
كيف كان تدبر النبي صلى الله عليه وسلم :-
قصة عائشة بأعجب ما رأيت من رسول الله و بكاؤه.
وعن حذيفة قال صليت مع النبي ذات ليلة فأفتح بالبقرة , فقلت : يركع عند المائة , ثم مضى , فقلت يصلي بها في ركعةٍ فمضى فقلت : يركع بها ,ثم أفتتح النساء فقرأها , ثم أفتتح آل عمران فقرأها , يقرأ مترسلا إذا مرَّ بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبح وإذا مرَّ بسؤال سأل وإذا مرَّ بتعوذٍ تعوذ. رواه مسلم.
وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم "اقرأ عليّ " قلت : أقرأُ عليك وعليك أُنزل؟ قال : فإني أُحِبُ أن أسمعه من غيري " فقرأت من سورة النساء , حتى بلغت "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا" قال : " أمسك " فإذا عيناه تذرفان " رواه البخاري.
-وعن ابن عباس رضي الله عنهما "ركعتان مقتصدتان في تفكر خيرٌ من قيام ليلةٍ بلا قلب "
وعن ابن عمر أنه كان إذا تلا هذه الآية "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق " قال : بلى يا رب , بلى يا رب "
وعن محمد بن كعب القرظي قال :" لأن أقرأ في ليلتي حتى أُصبح ب إذا زلزلت و القارعة , لا أزيد عليهما , وأتردد فيهما , وأتفكرُ أحبُّ إليّ من أن أهذ القرآن ليلتي هذَّا , أو قال أنثُرُهُ نثرا "
موقف السلف من تدبر القرآن :- 1- قصة أبو بكر رضي الله عنه مع مسطح " ولا يأتل أولو الفضل ....."
-وكان عمر بن الخطاب يعيش القرآن في كل حركاته و سكناته – مر رضي الله عنه بدير راهب فأشرف , فجعل عمر ينظر إليه ويبكي , فقيل له : يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا قال ذكرت قوله عزّ وجلّ في كتابه " عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية " فذاك الذي أبكاني .
- أما أحمد بن حنبل عندما كثر بكاؤه في ليلة فسئل عن ذلك فقال مرت بي آية في الدرس " وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفى وأصلح فأجره على الله) فتذكرت ضرب المعتصم اياي..فسجدت و أحللته من ضربي .
العمل به :-
ولا يكفي منا أن نتعلم القرآن و أن نتلوه و أن نتدبره بل لابد من العمل به بمعنى أن نحل حلاله و نحرم حرامه ونتقيد بأوامره و نتجنب ما نهانا عنه , وهذا هو المقصود من تعلمه وتلاوته وتدبره . قال سبحانه " إن الذين يتلون كتاب الله و أقاموا الصلاة و أنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور .ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور " فاطر 29-30 فهذه الآية دلت على أنهم لم يقتصروا على التلاوة بل أقاموا الصلاة بعد أن قاموا بتلاوة القرآن و أنفقوا .
- و عن عثمان وابن مسعود و أُبي : أن رسول الله كان يُقرئهم العشر فلا يتجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل , فعلمنا القرآن والعمل جميعا .
- وفي موطأ مالك : أنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثمان سنين يتعلمها .
وقال عبد الله بن مسعود : إنا قوم صَعُبَ علينا حفظ ألفاظ القرآن و سهُل علينا العمل به , وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن و يصعب عليهم العمل به .
- وقال معاذ بن جبل : اعلموا ما سئتم أن تعلموا فلن يأجركم الله بعلمه حتى تعملوا .
( الجامع لأحكام القرآن ج1 أمثلة أبو بكر مع مسطح و معاوية بن أبي سفيان)
وذلك لأنك إذا عملت به صار حجة لك عند الله وإذا عطلت العمل به صار حجة عليك قال صلى الله عليه وسلم " والقرآن حجة لك أو عليك "
فمن اقتصر على تعلم القرآن وتلاوة القرآن وتدبره ولم يعمل به فهذا أقام الحجة على نفسه ولهذا يقول السلف : رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه , قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : يقرأ قول الله سبحانه " فنجعل لعنة الله على الكاذبين " وهو يكذب ويقرأ قوله سبحانه "ألا لعنة الله على الظالمين" وهو يظلم.
ثم إن العمل بكتاب الله أعظم وسيلة لتعلم كتاب الله وحفظه قال تعالى "و اتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم " و قال صلى الله عليه وسلم " من عَمِلَ بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم "
ثمار تدبر القرآن :-
ولاشك أن لتدبر القرآن والعمل به فوائد جمة عظيمة فعن قتادة رضي الله عنه قال : ما جالس القرآن أحد وقام عنه إلا بزيادة أو نقصان ثم قرأ " وننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا .
وقال ابن القيم " فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن , وإطالة التأمل فيه وجمع الفكر على معاني آياته "
أن تدبر القرآن والعمل به يحيي القلوب ويزيل القسوة من القلوب, فقد وصف الله هذا القرآن بأنه روح ومن معاني الروح ما تحيا به القلوب وتحصل به الحياة المعنوية كالجسم إذا كان فيه روح يكون حياً و إذا خرجت منه الروح يكون ميتاً قال سبحانه "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا" الشورى /52 .
أما إذا خلت القلوب من القرآن فإنها تموت كما أن الجسم إذا خلى من الروح فإنه يموت فهناك موتان وحياتان أما الموتان فهما موت الجسم و القلب و أما الحياتان فهما حياة الجسم والقلب لأن حياة الجسم تحصل للمؤمن والكافر والمتقي و الفاسق بل تحصل للإنسان والحيوان وليس لها ميزة , إنما الميزة في حياة القلب وهي لا تحصل إلا لعباد الله المؤمنين المتقين . قال القرطبي : ولولا أنه سبحانه قد جعل في القلوب من القوة لقراءته وتدبره وفهم معانيه لتضعضعت و اندكت و أنى تطيق كيف لا ؟؟؟وهو القائل سبحانه " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً "
أن تدبر القرآن يكسب الإنسان الحكمة ويجعله يميز بين الحق والباطل و الطيب والخبيث, لأن الله سمى هذا القرآن نور والنور هو الذي يضيء الطريق أمام الإنسان و يبصر به ما أمامه من الحفر و الأشواك ليتجنبها و يبصره بالطريق السليم فيمشي معه أما فاقد النور فيكون في ظلمة فلا يرى الحفر ولا الأشواك و لا الأخطار فلا يبصرها . ونحن نعرف النور الحسي مثل نور الشمس و نور السراج و نور المصباح نعرف به كيف نسير في الطرقات وما يحتاج إلى تجنب و احتياط . لكن نور القرآن نور معنوي تبصر به ما ينفعك في دينك و دنياك يبين لك الحق من الباطل ويصف لك الطريق إلى الجنة(ومثال على ذلك قصة أبو بكر الصديق عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم" وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم......." فأنت تسير فيه على نور من الله قال سبحانه " ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم و أنزلنا إليكم نوراً مبينا . فأما الذين آمنوا بالله و اعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما " ( ارجع إلى الحكمة في نظرة النعيم )
رجل مر على راهب عنده مقبرة ومزبلة فقال عندك كنزين من كنوز الدنيا لك بهما معتبر كنز الرجال وكنز الأعمال
إن في تدبر القرآن و التفكر فيه انشراح للصدر وسكينة للقلب أما الاعراض عن التدبر ففيه الحياة الضنكة و الضيق "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى "
قصة ابن تيمية: سجن رحمه الله في سجن انفرادي وليس معه أحد فقال : ما يصنع أعدائي بي أنا جنتي و بستاني في صدري أنى ذهبت فهي معي إن سجني خلوة و قتلي شهادة و إخراجي من بلدي سياحة .فختم القرآن إثنا و ثمانين مرة حتى توفاه الله وهو يقرأ (إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر )
والدليل على أن هذا القرآن سبب لإنشراح الصدر وجلاء الهم و الغم أن الله وصفه بأنه شفاء "ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين " يونس 57
فهو شفاء من الأمراض الحسية إذا قرئ على الإنسان المريض (ذلك الرجل الذي قرأ الفاتحة سبعا ...) و شفاء من الأمراض المعنوية من أمراض الشكوك و الشبهات والغم والهم لذلك تجدين في دعاء الهم " أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري و جلاء همي و حزني ".
وأمراض القلوب أشد من أمراض الأبدان لأن أمراض الأبدان غاية ما تنتهي إلى الموت و الموت حاصل لا محالة " كل نفس ذائقة الموت " العنكبوت 57 , لكن مرض القلب هو الخطير لأنه إذا استمر به فإنه يموت بمعنى أنه يفسد نهائيا ويصبح صاحبه من الكافرين أو من الزائغين أو من الفاسقين ولا شفاء له إلا بالقرآن قال تعالى "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا "
يورث الخشية والخوف من الله , فكلما أكثر الإنسان من تدبر القرآن فإنه يزيد إيمانه ويزيد يقينه و يخشع قلبه ويخاف خالقه قال تعالى "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون "
حال الناس في خوفهم من اليهود و النصارى يعالجها القرآن بقوله سبحانه " لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون " "ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله" "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"
. عن القاسم قال:كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها فأسلم عليها فغدوت يوما فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ"فمنّ الله علينا ووقانا غذاب السموم"الطور (27) وتدعو وتبكي وترددها فقمت حتى مللت القيام فذهبت إلى السوق لحاجتي ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي رضي الله عنها.
هذا و أسال الله أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته وأن يرزقنا تلاوته أناء الليل و أطراف النهار ويرزقنا تدبره والعمل به إنه جواد كريم و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع
*نظرة النعيم .
*تدبر القرآن للشيخ صالح الفوزان.
*يا حملة القرآن.
الداعية لطيفة
حفظها الله
um Abdul-Aziz @um_abdul_aziz
عضوة شرف في عالم حواء
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
جزاك الله كل خير ووفقك لما يحبه ويرضاه
والله يجعله في ميزان حسناتك انت والاخت لطيفه
والله ينفع فيكم الاسلام والمسلمين..
:26: