فن القُبلة

الملتقى العام

فن القُبلة
د. موسى بن عيسى العويس






لا أحد ينكر أن العناق أسلوب وعادة، تتلاقى بسببه القلوب، والمشاعر، والأحاسيس، والعواطف، بل إن الطب الحديث أثبت جدواه في تخفيض التوتر والانفعال وضغط الدم وغيرها من الأعراض التي قد يكون للعامل النفسي أثرٌ في إصابة الإنسان بها، ناهيك عن كون هذه السنة من الممارسات الإيجابية التي تعبر عن الود، والحنان، والثقة، والرغبة، لكنها للأسف قد تطورت إلى سلوك منبوذ من الذوق العام، إما لإيذاء، أوضرر، أو تجاوزٍ لحدود ما سنت لأجله، وشرعت له.

* والتقبيل كإحدى الممارسات الاجتماعية للشعوب قاطبة، قد يكون على الجبين كلون من ألوان الاحترام، و قد يكون على الخد صداقةً ومودةً، وعلى الأنف تقديراً وتبجيلاً، وعلى العين حناناً، وعلى اليد ولاءً وانقياداً، وعلى القدم مذلةً وخنوعاً، وقد يأخذ الإنسان شيئاً من ذقن (المُعانق) توقيراً له وتودداً واستعطافاً.

وعند سكان (الأسكيمو) يكون بضغط الأنف على الأنف ثواني معدودة، وقد تمتد إلى الدقيقة، حسب الموقف ودرجة الصلة، أو المرتبة الاجتماعية.

* بالتأكيد تختلف المجتمعات حيال الموقف من هذه الظاهرة، قبولاً، أورفضاً، وأطرفُ ما وقفت عليه أبيات ساخرة بعنوان (بوس اللحى)، يتناول بعض ممارسات العناق عندنا في الشرق الأوسط بالذات، وما يكون عليه حال بعض (المُعانقين)، المتمثل في عدم مراعاة مشاعر الآخرين، وأخذ الحيطة والحذر مما يأنفون منه ويشمئزون، يقول:

بوس اللحى عادةٌ ليست بلائقةٍ

ناهيك ما نشرت فينا من العللِ

لا سيما إن يكن من بُست مفترساً

حصاً من الثوم، أو رأساً من البصلِ

وقد تجاهل هنا أصنافاً من المأكولات أو المشروبات أشد بشاعةً في رائحتها مما أومأ إليه، ومع ذلك يأتي بمعانٍ في غاية اللطافة، وقمة الذكاء في النقد اللاذع الهادف، حين يرى أن التقبيل والمعانقة حقٌ للنساء دون غيرهن، نازعها الرجل عليها من ضمن ما نازعها، أوانتزع منها من حقوق حصرية، ليقول:

أضعتمُ بينكم منه الكثير فما

أبقيتمُ لذوات الأعين النجلِ

قد أهمل الرجل الأنثى لذاك فلا

تلامُ إن رفعت دعوىً على الرجلِ

* ومما يتصل بالموضوع ما ذكره بعض المؤرخين أنه نتيجة انتشار مرض (الطاعون) في لندن عام (1665م) تراجع الشعب عن هذه العادة، واستعاض عنها بالانحناء (رغم حرمته)، ورفع القبعة، والتلويح باليد، والمصافحة.

و(الصينيون) إلى وقتٍ قريب يرون في التقبيل ما ينافي الحشمة، ويجافي الأخلاق الرفيعة، إلا في حق الأطفال، وصغار السن، ممن يحسنُ مداعبتهم، وترويض سلوكهم مع الغير.

* من المعلوم أن الطريقة المُثلى في الإسلام هي السلام والمصافحة، ثم إن بعض الأئمة من رجال الدين كره العناق حتى في حق المسافر، رغم ما تواتر من أحاديث باستحسانه، إذن جديرٌ بنا أن نرفع ذائقتنا إلى المستوى الذي لا يؤذي الآخرين، أو يسبب لهم شيئاً من الحرج، ولا يعني تأصل هذه العادة وقدمها لدينا الاستمرار عليها.

* هنا نتذكرُ بمزيد من التقدير والإجلال، والإكبار والاحترام موقف (خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز) حين أدرك بثاقب نظرته أبعاد بعض العادات من منظور (ديني، واجتماعي) فلم يسمح بتقبيل (يده) الكريمة، ووجه الآخرين بتركها فزاده الله بذلك رفعة ومكانة، وعزّ من سلطته وسلطانه.
1
408

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️