وجدتُ نفسي في قطار جميل فيه كل أسباب الراحة، وخاصة الحمّامات النظيفة والمصلَّيات ذات الروائح الطيبة، وكان يعجّ بالصبايا القريبات سناً مني، شعرت بالألفة والأمن لأننا كلنا نرتدي ملابس متشابهة وننتعل أحذية متشابهة، نغطّي رؤوسنا باستمرار مع أني لم أصادف رجلاً في القطار، ما يُشعرني براحة أكبر لأن شعري صعب جداً.
المشرفات علينا يعلِّمننا كل شيء وينصحننا بكل شيء ويغضبن إذا خالفناهن، ومن كانت لديها جرأة على المخالفة كانت تفعل ذلك بعيداً عن الأعين.
• • • •
إلى أين نحن ذاهبات؟ لماذا نطيع المشرفات طاعة عمياء، حتى صار إرضاؤهن همّنا الأكبر؟
هل يحق لنا أن نتوقف في بعض المحطات ونتحدث إلى ناس آخرين؟ الأسئلة كثيرة، لكن لا أحد يسأل، فسكتُّ.
رغماً عني صرتُ أنظر من النوافذ، نمرّ بمشاهد تثير الفضول: مشاهد جميلة، وأخرى أليمة حزينة، ولا أعرف أين نمضي، وكلما اشتهيت المغادرة؛ شعرتُ أن فراق صديقاتي اللواتي اعتدت عليهن كثيراً، ليس بالأمر السهل، ومهما انزعجت من معاملة المشرفات فإنهن يعلِّمنني كثيراً، وتشغلني برامجهنّ عن نفسي وعن مظهري وعن كل الأفكار التي تعكِّر تركيزي على حفظ القرآن والدراسة.
• • • •
لكني بمرور السنين زادت أسئلتي وسمَّينني المزعجة والفضولية والمغرورة (لعل قراءة الكتب المهرَّبة هي السبب) لم أعد أستطيع أن أقول «حاضر» لكل شيء وكل أمر.
وفي يومٍ من الأيام سألتُ موجِّهتي: هل لهذا القطار بوصلة آنسة؟ قالت: وما الحاجة للبوصلة؟ نحن على سكة حديد! بعد إلحاح مؤدَّب مني قالت: البوصلة بالطبع في القاطرة الأولى التي تجرّنا جميعاً..مع المشرفة الأم، وغير مسموح لأحد بالنظر إليها.
شعرتُ بالخوف وفهمتُ أشياء كثيرة: هل أنا مختطفة؟ هل يحدث شيء هنالك في الخارج يحمونني منه أو يمنعونني من معرفته: ماذا وكيف ولماذا؟
جازفتُ بفتح الموضوع مع صديقتي التي أجدها الأقرب، ضحكتْ، بل قهقهتْ وقالت: الآن انتبهتِ؟ قلت بفزع: ماذا؟ قالت: نعم، نحن مختطفات برضا أهلنا، بل برضانا.. لأن العالم الخارجي غابة مخيفة، ألسنا هنا في أمان وراحة؟ ماذا ينقصك؟ قلتُ: لا أدري..
خطرتْ لي فجأة المرأة الشاحبة التي تنظِّف المدرسة كل يوم، لا تكلم أحداً، وقَلّما يهتم بها أحد، سألتها: هل تعرفين إلى أين نحن ذاهبات؟ قالت: لا يهمني، ليس لي أحد في الخارج يؤويني أو ينفق عليّ، وأنا هنا أجد عملاً وحماية ولا أريد أكثر...
سأذهب إلى قيِّمة المكتبة، فقد تساعدني بثقافتها...ولأول مرة أنتبه إلى أنّ الصُّفرة تغلب على لون ورق الكتب، وأن الكتب متشابهة جداً، مكررة جداً.. قالت لي: السؤال لا يفيد بعد أن ركبتِ معنا، ألست تثقين بالمشرفة الأم؟ قلت فوراً: طبعاً طبعاً..
وتذكرت ذلك اليوم الذي دخلتُ فيه مقصورة المشرفة الأم الواسعة، النظيفة جداً، العَبِقة بروائح مذهلة..تخلع البنات أحذيتهن خارجها، ويجلسن كلُّهن مُطرقات بين يديها، بل عند قدميها، قدمتني لها موجِّهتي: البنت المطيعة المهذبة الحافظة المتفوقة في الدراسة... قبّلتْ باطن كفي فشعرتُ بحرج شديد.. كنتُ طفلة رغم بلوغي الرابعة عشرة..تفرّسَتْ فيَّ بعينين واسعتين نفاذتين: أنت فلانة بنت فلان؟
جلستُ مع الجالسات، وبعد كلمة وعظية قاسية من الآنسة الكبيرة، أُطفئت الأنوار وبقي ضوء أخضر..وفهمتُ أن الذِّكر ابتدأ.. وسمعتُ نشيجاً وزفرات وتنهُّدات، لكني لم أبكِ ولم أشعر أني أذكر الله.. كنتُ أفكر في غرابة هذا المكان، وفيما يحدث خارج النوافذ التي لا سبيل لفتحها، ولا أجد جواباً لأي سؤال.
إلى من أذهب يا رب؟!
رفيقتنا شذا الحسناء، الأكبر قليلاً منا، المترفة الأنيقة الكريمة، التي أعطاها الله كل ما تشتهيه امرأة، قالت لي: ولماذا نعرف إلى أين نحن ذاهبات؟ هل تفكرين في المغادرة؟ لم أُجب.قالت: ولِمَ نتركهن؟ أنا شخصياً لن أجد هذا التبجيل والاحترام في أي مكان آخر..فأنا محجبة لا تنسَي هذا.. في الخارج لن يقبلك أحد كما يقبلونك هنا، فانظري إلى نصف الكأس الملآن.
قلتُ ببساطة: لكنا هنا لا نفكر!! ضحكتْ بقوة: التفكير له ناسُه.. ونفخت برقة: لا تُتعبي نفسك..قد تنالين ترقية كبيرة تغيِّر حياتك، سُمعتك طيِّبة هناك، وأشارت بطرف عينها إلى مقدمة القطار...
• • • •
وجاء ذلك اليوم: نظرتُ من النافذة.. كان وقت الغروب، يا إلهي ما هذا؟ ألوف الناس تتجمهر، ترفع لافتات مطالبة بالحرية والكرامة، فيُضرَبون بعصيٍّ غليظة، ثم يطلق عليهم رصاص، من رجال مخيفين بملابس سود..يتفرقون هرباً بأرواحهم، يسقط جرحى... النساء كأنهن يزغردن! أريد أن أنزل، أريد أن أنضم إليهم..لكن القطار يُسرع ويُسرع..حتى غابوا عن نظري وأنا أبكي من كلِّ قلبي.
حين انتبهت، رأيتُ بضع فتيات يبكين معي... التقتْ نظراتُنا ولم نتبادل كلمة.
هرعنا للموجِّهة الاجتماعية: حكينا لها.. دمعت عيناها وأجابت برقّة: يا حبيباتي.. توضأن بسرعة، عطّرن ملابس الصلاة والسجادات، توجهن للقِبلة بقلبٍ واحد..واجلسن ادعينَ لهم.. هيا! نريد تلاوة ختمة خلال نصف ساعة..هيا لا تضيِّعن الوقت! هرعتْ البنات للتنفيذ وشعرتُ بأني أتجمد، لكني شاركتهن.
في اليوم التالي.. في الوقت نفسه.. مع غروب الشمس، تكرر المشهد، والدماء تصبغ الساحة التي خلتْ من الناس بعد إطلاق الرصاص.. ولكن، كيف؟ هل كل بلد نمرّ بها ثائرة؟
من فوق كتفي قالت صديقتي بسخرية: أما لاحظت ذلك المبنى هناك؟ ألا تعرفينه؟
يا إلهي!! القطار يدور، لا يتقدم.. يا إلهي السكة مستديرة... ولن نصل إلى مكان...
• • • •
عرفتُ ماذا أريد، أريد ما يريد هؤلاء الشجعان الذين قالوا أمام الرصاص ما لم أجرؤ على قوله هنا: أن يرسموا حياتهم كما يشاؤون.. يجب أن أغادر هذا القطار.. في أول فرصة.. أريد أن أتخلص من الشعور بالخوف والذنب والتقصير كلَّ لحظة، لمجرد أني مسلمة.. أريد أن أعبد الله دون أن أفكر في رضا أحد غيرِ الله... أريد أن أعبد الله مع هؤلاء الناس الحقيقيين، حتى نحقق معاً ما أراده الله تعالى من خلقنا: ألم يخلقنا ربُّنا لإقامة شرعه؟ أليس هذا ما خُلق أبونا آدم من أجله؟ ولماذا نحفظ القرآن كله، ونحن لا نطبق منه إلا تلك الشؤون السهلة بل الممتعة، التي لا تحدِّيَ فيها ولا مواجهة؟
• • • •
عند أول منعطف، وحين خفّف القطار سرعته، كنت أقف بين مقطورتين...وقفزت..
كانت المفاجأة الأجمل، بعد نجاتي، أنْ أجد كثيرات وكثيرين، يهنئونني، ويحكون لي قصصاً تشبه قصتي.سنتحدى الباطل هنا معاً، ونعمر الأرض معاً.
• • • •
مع الشكر لمن ألهمنني وقدَّمْنَ من خبراتهن.
تُنشر بالتعاون مع مجلة (منبر الداعيات)
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Social/1032/39336/#ixzz1pfw3YKgF
هذا الموضوع مغلق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️