هذه فرصتنا نحن الذين بلغنا رمضان، فلعله يكون آخر عهدنا بالدنيا ولعله يكون آخر ما نشهده من رمضان، فلا يجب أن
ينسلخ رمضان ولما ندخل إلى قائمة المغفور لهم، ونحن مقبلون على
ليلة اختصها الله عز وجل من بين الليالي لينزل فيها قرآنه، ليلة مباركة، فيها يفرق كل أمر حكيم، يكتب الله تعالى فيها
الآجال والأرزاق خلال العام، هي خير الليالي، فضل العبادة فيها خير من عبادة ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر: ( خَيْر
ٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، تنزل الملائكة فيها إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة والمغفرة، ليلة سلام وخير على أولياء الله وأهل
طاعته المؤمنين، تكثر فيها الطاعة وأعمال الخير والبر، وتكثر فيها السلامة من العذاب، ولا يخلص الشيطان فيها إلى ما
كان يخلص في غيرها.
سماها الله تعالى ليلة القدر لعظم قدرها وجلال مكانتها عند الله، ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها، هي ليلة
المغفرة كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً
واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وقيام ليلة القدر يحصل بالصلاة فيها سواء كان عدد الركعات قليلاً أو كثيرًا، وإطالة الصلاة بالقراءة أفضل من تكثير
السجود مع تقليل القراءة، ومن يسّر الله له أن يدعو بدعوة في ليلتها كان ذلك علامة الإجابة، فكم من أناس سعدوا من
حصول مطالبهم التي دعوا الله بها في هذه الليلة، ولاشك أن ليلة القدر هي ليلة قبول الدعاء، والسعيد من يطهر نفسه
من الأحقاد ويخلص في الإقبال على الله تعالى صلاة وتلاوة للقرآن وذكرا ودعاء واستغفارا، فعن أنس رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذ كان ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل
عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى).
وليلة القدر هي من نفحات الله تعالى التي ينفح بها عباده المؤمنين: (إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها)
، والتعرض للنفحات يكون بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى وكثرة الذكر والدعاء، وأفضل ما يقال في
ليلة القدر من الدعاء: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني، يردده ويكثر منه داخل الصلاة وبين تسليمات القيام، وفي
سائر ليلها ونهارها، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتَ إن وفقت ليلة القدر، ما
أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (أعوذ برضاك من
سخطك، وعفوك من عقوبتك)، وكان أكثر دعاء النبي في رمضان وغيره: (ربّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة
حسنةً وقنا عذاب النار).
رؤية ليلة القدر
ويستحب تحري ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان كما في حديث عائشة، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحروّا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)، وفي أوتار العشر آكد، لحديث عائشة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، وليلة القدر في السبع الأواخر
أَرجَى)، ولذلك جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأوا ليلة القدر في
المنام، في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن
كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) رواه البخاري، ولمسلم: (التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو
عجز فلا يُغلبن على السبع البواقي)، وهي في ليلة سبع وعشرين أرجى ما تكون، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه
وسلم من حديث ابن عمر عند أحمد ومن حديث معاوية عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلة القدر ليلة
سبع وعشرين)، وكونها ليلة سبع وعشرين هو مذهب أكثر الصحابة وجمهور العلماء، حتى أبي بن كعب رضي الله عنه
كان يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، قال زر ابن حبيش: فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال:
بالعلامة، (أو بالآية) التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها)، رواه مسلم.
علامات دالة
وقال ابن حجر في الفتح بعد أن أورد الأقوال الواردة في ليلة القدر: (وأرجحها كلها، أنها في وتر من العشر الأخيرة،
وأنها تنتقل كما يفهم من أحاديث هذا الباب، وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية، ليلة إحدى
وعشرين، أو ثلاث وعشرين، على ما في حديث أبي سعيد وعبد الله بن أنس، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين.
وقال العلماء إن الحكمة في إخفاء ليلة القدر، ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها).
ومن اجتهد في العشر كلها في الصلاة والقرآن والدعاء وغير ذلك من وجوه الخير أدرك ليلة القدر بلا شك، وفاز بما وعد
الله به من قامها إذا فعل ذلك إيمانا واحتسابا، ولا يمنع عدم رؤيتها حصول فضلها لمن قامها إيمانا واحتسابا، فالمسلم
ينبغي له أن يجتهد في تحريّها في العشر الأواخر من رمضان كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم طلبا للأجر والثواب،
فإذا صادف قيامه إيمانا واحتسابا هذه الليلة نال أجرها وإن لم يعلمها.
وفي بيان العلامات الدالة على ليلة القدر لدينا ثلاثة أحاديث صحيحة، فعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم أخبر أن من علاماتها أن الشمس تطلع صبيحتها لا شُعاع لها، وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (ليلة القدر ليلة طلقة، لا حارة ولا باردة، تُصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة)، وعن واثلة بن
الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلة القدر ليلة بلجة (أي مضيئة)، لا حارة ولا باردة، لا يرمى
فيها بنجم (أي لا ترسل فيها الشهب).
ومن أكثر ما يشعر به القائم في ليلة القدر أن للقيام والذكر لذة أكثر مما في غيرها من الليالي، ويغمره شعور عميق
وعامر بالطمأنينة، ويجد فيها راحة وانشراح صدرٍ أكثر مما يجده في بقية الليالي، طمأنينة تعم القلب وراحة تملأ عليه
كيانه، وانشراح صدر لا يعاينه في غيرها من الليالي..
منقول للامانة
وردة ولاكل الورود @ord_olakl_alorod
كبيرة محررات
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
بارك الله فيك وبلغك اياها