كيف ينبُتُ النفاق في القلب ؟
قال ابن قيّم الجوزية رحمه الله تعالى من كتاب إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان:
قال ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه ( الغناء يُنْبِت النفاق في القلب؛كما يُنْبِت الماءُ الزرعَ )وهو صحيح عن ابن مسعود من قوله. وقد روى عن ابن مسعود مرفوعا ؛ رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "ذم الملاهي".
فإن قيل : فما وجه إنباتِه للنفاق في القلب من بين سائر المعاصي؟!
قيل : هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباءُ القلوب ، دون المنْحَرفين عن طريقتهم ، الذين داوَوْا أمراض القلوب بأعظم أدوائها ، فكانوا كالمداوي من السّقم بالسُّم القاتل ...
فاعلم أن للغناء خواصَّ لها تأثير في صَبغ القلب بالنفاق ، ونباتِه فيه كنبات الزرع بالماء.
فمن خواصِّه : أنه يُلهي القلبَ ويَصُدُّه عن فَهم القرآن وتَدَبُّرِه ، والعمل بما فيه ؛ فإن القرآن والغناء لايجتمعان في القلب أبداً ؛ لما بينهما من التضادّ ؛ فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى ،ويأمر بالعِفَّة ، ومُجانبةِ شهوات النفوس ، وأسبابِ الغَيِّ ، وينهَى عن اتباع خُطُوات الشيطان ، والغناء يأمر بضد ذلك كلِّه ، ويُحَسِّنه ويُهيِّج النفوس إلى شهوات الغيِّ ، فيُثير كامِنَها ، ويُزْعج قاطنها ، ويُحركها إلى كلِّ قبيح ، ويسُوقُها إلى وصْل كل مليحة ومَليح ، فهو والخمرُ رَضيعا لِبانٍ ، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رِهان ، فإنه صِنْوُ الخمر ورَضيِعُه ، ونائبه وحليفه ، وخَدينُه وصديقه ، عَقَدَالشيطانُ بينهما عَقْدَ الإخاءِ الذي لا يُفْسخ ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لاتُنسخ ، وهو جاسوس القلب ، وسارق المروءة ، وسُوس العقل ، يتغلغل في مَكامِن القلوب ،ويطّلع على سرائر الأفئدة ، ويّدِبُّ إلى محل التخيل، فيُثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرّقاعة ، والرّعونة والحماقة! فبينا ترى الرجلَ وعليه سِمَة الوَقارِ وبَهاء العقل، وبَهجة الإيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن ، فإذا استمع الغناء ومال إليه ؛ نقص عقلُه ، وقلّ حياؤه ، وذهبت مروءته، وفارقه بَهاؤه ، وتخلّى عنه وَقاره ، وفرح به شيطانه ، وشكا إلى الله - تعالى – إيمانُه ، وثَقُل عليه قرآنه، وقال : يا رب! لا تجمع بيني وبين قرآنِ عدوِّك في صدرٍ واحد، فاستحْسنَ ما كان قبل السَّماعِ يَستقبِحه، وأبدَى من سِرِّه ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهةِ والفرقعة بالأصَابع ، فيميل برأسه ، ويَهُزُّمنكبيه، ويضرب الأرض برجليه ، ويدق على أُمِّ رأسه بيديه ، ويَثِبُ وَثَباتِ الذِّباب ، ويدور دوران الحمار حول الدّولاب ، ويُصَفِّق بيديه تصفيق النسوان ، ويخُورمن الوَجْد ولا كخُوار الثيران، وتارةً يتأوّه تأوّه الحزين ، وتارةً يَزْعَقُ زَعَقات المجانين ، ولقد صدق الخبيرُ به من أهله حيث يقولُ :
أتذْكُرُليلَةً وقدِ اجتمعـنا .... على طيب السَّماعِ إلى الصَّباحِ
ودارتْ بيننا كأسُ الأغـاني ... فأسْكَرَتِ النُّفوسَ بغـيرِرَاحِ
فلم تَـرَ فيهِمُ إلاَّ نَشَـاوى ... سُرُوراً والسُّرورُ هُناكَ صَاحيِ
إذا نادَى أخُو اللَّذاتِ فـيهِ ... أجابَ اللَّهو: حَيَّ على السَّماحِ
ولم نَمْلِك سِوىَ الْمُهجَاتِ شيئاً ... أرَقنَـاهَا لأَلْحـاظٍ مِلاحِ
وقال بعض العارفين : السماع يورث النفاق في قومٍ ، والعنادَ في قومٍ ، والكذب في قومٍ ، والفجورَ في قومٍ، والرعونة في قوم . وأكثرُ ما يُورث : عشقُ الصور،واستحسانُ الفواحش ، وإدمانُه يثقِّل القرآن على القلب، ويُكَرِّهه إلى سماعه بالخاصية ، وإن لم يكن هذا نفاقاً ؛ فما للنفاق حقيقة! وسِرُّ المسألة : أنه قرآن الشيطان،فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبداً. وأيضا ؛ فإن أساس النفاق : أن يخالف الظاهرُ الباطنَ، وصاحبُ الغناء بين أمرين : إما أن يتهتّكَ فيكون فاجراً ، أو يُظهرَالنُّسك فيكون منافقاً، فإنه يُظهر الرغبة في الله والدار الآخرة؛ وقلبه يغْلي بالشهوات، ومحبةِ ما يكرهه الله ورسوله - من أصوات المعازف، وآلات اللَّهو، ومايدعو إليه الغناء ويُهَيِّجُه -، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبُّه الله ورسوله وكراهةِ ما يكرهه قَفر، وهذا محض النفاق . وأيضاً ؛ فإن الإيمان قول وعمل : قولٌ بالحق، وعمل بالطاعة، وهذا ينْبُتُ على الذكر، وتلاوة القرآن ، والنفاقُ : قولُ الباطل ، وعملُ البغيِّ ، وهذا ينبُتُ على الغناء وأيضاً ؛ فمن علامات النفاق : قِلّةُ ذِكر الله، والكسلُ عند القيام إلى الصلاة، ونقرُ الصلاة، وقلّما أن تجدَ مفتوناً بالغناء إلا وهذا وصفُه.
بنت أدم @bnt_adm_7
عضوة جديدة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
وجعله الله في ميزان حسناتك