لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إن الله (عز وجل)، بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، كتب النصر والغلبة لأهل الحق من أولـيـائــه الصالحين والمـصلحين، وكتب المهانة والذلة على أعدائه من الكافرين والمنافقين، وهذه سـنـــة لا تـتـخـلـف إلا إذا تخلفت أسبابها، حيث يديل الله (سبحانه) أعداءه الكفرة على عباده المؤمنين، ويـسـلـطـهــم عليهم ويظهرهم، فتظهر من ذلك الشرور والمصائب كما هو الحاصل في واقعنا المعاصر حـيــث الاسـتـضـعـاف والذلة لجل المسلمين، والغلبة والقهر للكافرين، وما كان لسنة الله (سبحانه) أن تـتــبــدل ولا أن تتحول، ((فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)) ولـكـــن أسباب تحقيق سنة الله (سبحانه) في نصر عباده المؤمنين قد تخلفت؛ فحقت علينا سنة الله (سبحانه) في الـتـغـيـيــر ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) وسـنـة الله (سبحانه) لا تحابي أحـــداً. ومع وضوح هذه السنة وجلائها من القرآن، وبمقتضى العقل والحس، إلا أننا نجد من هو في غفلة عنها وعن مقتضى أسمائه (سبحانه) وصفاته العلا؛ حيث أدت هذه الغفلة عـنــد بعضنا إلى شيء من اليأس والإحباط، أو إلى شيء من العجلة والتسرع أمام ضغط الواقع، وتسلط الأعداء، وعند انتشار الظلم والفساد.
ولن يكون الكلام هنا عن تلك السنة، وإنما سينصب الاهتمام على سنة عظيمة تنبثق عنها السنة السابقة، والله (سبحانه) يبينها لنا من خلال أسمائه الحسنى وصفاته العلا، حيث إن الجهل بها أو الغفلة عـنـهـــــا بعد معرفتها يسهم أيضاً في مزيد من اليأس والقنوط، أو الجزع والتسخط، أو الاندفاع والـعـجـلــة والـتـهــور، وهذه وقفات مع قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) .
هذه الآية توجيه رباني في إحسان الظن بالله (عز وجل)، والثقــة بحكمته ورحمته، وأنه (سبحانه) لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير ((يُرِيدُ اللَّهُ بـِكـُــمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ)) وهذا بدوره يبث الأمل في النفوس إزاء المصائب، ويبث الأمل في الأمة بأن المستقبل لهذا الدين مهما تسلط أعداؤه عليه، وكادوا له كيداً ((إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)) ، وهو ضروري كذلك لإدراك أن رحمة الله (عز وجل) سبقت غضبه في كل ما يقدره على عباده المؤمنين ((كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)) وما أجمل ما قاله الإمـــام ابن القيم (رحمه الله تعالى) حول هذا المعنى، ومما ذكره: قد شهدت الفطر والعقول بأن للـعــالـم ربّــــاً قادراً، حليماً، عليماً، رحيماً، كاملاً في ذاته وصفاته، لا يكون إلا مريداً للخير لعباده، مجـــرياً لهم على الـشـريـعـة والسنة الفاضلة العائدة باستصلاحهم، الموافقة لما ركب في عقولهم من استحسان الحسن، واستقباح القبيح (1).
وسيأتي ـ إن شاء الله ـ فـي ثـنـايــا البحث من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمواقف العملية التي تظهر لنا منـهـا ثمار هذه السنة الكريمة، وبخاصة في واقعنا المعاصر المليء بالشبهات، والشهوات، والمتناقضات، والمكائد، والمؤامرات.. ما يزيد الموضوع بياناً.
أهمية الموضوع:
تتضح أهمية الموضوع في الأمور التالية:
أولاً: علاقة هذه السنة بالعقيدة قوة وضعفاً؛ فكلما قوي الإيمان بالله (سبحانه) في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته: كلما قوي الفهم لهذه السنة، وأثمرت في القلب ثمارها الطيبة. والإيمان بهذه السنة والاصطباغ بها هو مقتضى الرضا بالله ربّاً ومعبوداً، ومقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلا؛ حيث إن هذه السنة من ثمرات أسمائه (سبحانه) الحسنى، التي منها: الحكيم، والعليم، والكريم، واللطيف، والبر الرحيم.. وغيرها من الأسماء والصفات التي يجب التعبد لله (سبحانه) بها. كما يظهر الارتباط بين هذه السنة وبين التوحيد في: أثرها على صدق التوكل على الله (عز وجل)، وتفويض الأمور إليه، واليقين والثقة بوعده، وإحـســــان الـظــــن بــــه (جل وعلا)، وأنه (سبحانه) لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير والإصلاح، فمهما ظهر مـــن الشرور والمصائب، فله (سبحانه) الحكمة البالغة((وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) وأما ارتباطها بالأصل الخامس من أصول الإيمان ـ ألا وهو الإيمان باليوم الآخر ـ فهذا واضح؛ لأن اليقين باليوم الآخر ورجاء الأجر من الله (عز وجل) يقويان الارتباط بهذه السنة في أن الآخرة خير وأبقى، مهما فات من هذه الدنيا. وأما علاقتها بالأصل الـســادس من أصول الإيمان ـ وهو الإيمان بالقدر خيره وشره ـ فهذا ظاهر لا يحتاج إلى تعليق.
ثانياً: ما نراه اليوم في واقعنا المعاصر من الضغوط الشديدة والحرب الشرسة من أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى والمنافقين والمفسدين، وما يكيدون به لهذا الدين وأهله من المكر والتشويه والابتلاء؛ مما أدى ويؤدي إلى ظهور حالات اليأس والإحباط من تغير الحال، أو الشـعـور بالهزيمة النفسية والهوان والاستكانة، فكان لابد من التذكير بهذه السنة العظيمة التي تـقــــوي اليقين بوعد الله (سبحانه)، والثقة بنصره، والاطمئنان إلى قضائه وتدبيره، وأنه (سـبـحـانه) الحكيم العليم فيما يقضي ويقدر، ولابد أن يأتي الخير بعد الشر عندما يأذن الله (سبحانه) في ذلك وفق علمه الشامل، وحكمته البالغة، وسننه التي لا تتبدل ولا تتحول.
ثالثاً: الـجـهـــل الحاصل عند بعض المسلمين بسنن الله (سبحانه) في التغيير، أو التغافل عنها بعد معرفتها، لا سيما وأن في فهم قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) خير معين لتفهم سنن الله (عز وجل) الأخرى: كما في قوله (تعالى): ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) وفي هذه المعرفة فتح باب للمنهج الصحيح في الدعوة إلى الله (سـبـحـانــه)، كـمــا أن فـيـهــــا وقاية من التخبط والاضطراب في المنهاج والاجتهادات، كما أن في دراسة هذه السنة وربط الأحداث والوقائع بها أكبر ضمانة للعقل المسلم من أن يتأثر بالتصورات الجاهلية، والـتـفـسـيــرات المادية للتاريخ والأحداث التي سيطرت اليوم على كثير من عقول المسلمين المتأثرين بوســائــل الإعلام المادية وبالثقافات التي لا تؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، ولا بالقدر خيره وشره.
رابعاً: التنبيه إلى طلب الخِيَرة من الله (سبحانه) في كل الأمور، وتفويض الأمور إلى حسن تدبـيـره (عـز وجل) واختياره؛ لأنه (سبحانه) يعلم ولا نعلم، ويقدر ولا نقدر، وهو علام الـغـيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون، ويعلم أين يكون الخير، وأين يكمن الشر؛ ولذلك جاء التوجيه إلى دعاء الاستخارة في الأمور كلها.
خامساً: كـثـرة المشاكل والمصائب في زماننا هذا، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، التي أدت إلـى ظهور كثير من الأمراض النفسية المعقدة: كالقلق، والاكتئاب، والفصام.. وغيرها، حـتـى أصـبـحـت سمة لواقعنا المعاصر، ومعرفة الله (سبحانه) بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته التي تـــزرع في القلب الاطمئنان والرضا، وتفويض الأمور إليه (سبحانه)، وحسن الظن به (عــز وجــل)، وأن اختيار الله لعبده أحسن من اختيار العبد لنفسه، ولو ظهر ما يكرهه العبد ويؤذيـــه: إن في تفـهم قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) أحسن علاج لهذه الأمراض وغيرها.
سادساً: إن في هذه السنة وفهمها طريقاً موصلاً إلى الفقه بقاعدة الشرع العظيمة، التي بنيت عليها أحكام الشرع؛ ألا وهـي: الـيـسـر ورفع الحرج والمشقة، وأن الله (عز وجل) لا يريد بعباده إلا اليسر والرحمة، سواء أكان فـي أحكامه الكونية القدرية، أو الدينية الشرعية.
من ثمرات هذه السنة:
إن لـتَـفَهّم هذه السنة الكريمة وتذكرها دائماً أثراً كبيراً في القلب، يظهر جليّاً في المواقف، وبالذات في مواقف الشدة والبلاء؛ فكان لزاماً على المسلم، وبخاصة الداعية المجاهد، ألا يغفل عن هذه الثمرات المنبثقة من قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ))، وثمار الإيمان بهذه السنة واليقين بها كثيرة، أذكر منها ما يلي:
1- تحقيق العبودية لله (عز وجل) بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا:
إن الله (عـز وجـــــل) لم يعرفنا على أسمائه وصفاته لنحفظها ونعدها فقط، وإنما المقصود الأسنى من معرفة أسمـائــــه (عز وجل) وصفاته: أن ندعوه بها، وأن نتعبد له (سبحانه) بها؛ قال الله (تعالى): ((وَلِلَّــهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا))
إن في كل اسم من أسمائه (سبحانه) عـبـوديـة عـلـى العبد، يجب أن تظهر آثارها في القلب، وعلى الجوارح، وفي المواقف.
فمن الأسماء الحسنى التي يتعبد لله (عز وجل) بها من خلال معرفة هذه السنة: الحكيم، العليم، البر، الرحيم، الودود، اللطيف.. وغيرها. فعندما يؤمن العبد المسلم بهذه الأسماء فإنها تثمر الإيمان بحكمة الله (عز وجل) في كل أحكامه الكونية والشرعية، وتضفي على القلب الأنس، وإحسان الظن بالله (عز وجـــل)، والرضا بقضائه، وأنه بر رحيم، لا يريد بعباده إلا الخير والتيسير والرحمة، وأن من لطفه (سبحانه) أن يأتي بالخير لعبده المؤمن من حيث يظن أنه شر ومكروه، وهذا من معاني اسمه سبحانه (اللطيف).
يقول الشيخ السعدي (رحمه الله): (ومن معاني اللطيف: أنّه الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر من حيث لا يحتسب، ويرقّيه إلى أعلى المراتب، بأسباب لا تكون من العبد على بال، حتى إنّه يذيقه المكاره، ليوصله إلى المحاب الجليلة، والمطالب النبيلة)(2).
إن اليقين بلطف الله (تعالى) ينفي الشعور بالـيــــأس والقنوط من مجــيء فرج الله ونصره، وينشيء مكانه الأمل والثقة بوعد الله ونصره، كـمـا أنه ينشيء في الـقـلب الافتقار إلى الله (عز وجل) وتفويض الأمور إليه، وسؤاله (عز وجل) دائماً حُسْنَ العاقبة والاختيار.
وبقيت كلمة أخيرة في هذه الثمرة أنصح بها نفسي وإخــوانــــي طــلاب العلم؛ وذلك بأن نحرص أشد الحرص ـ ونحن ندْرس أو نُدَرّس أبواب التوحيد الـمختلفة ـ على ألا نكتفي بالدراسة العلمية الذهنية المجردة فقط، وإنما نسعى جاهدين فـي ربطها بأعمال القلوب، وما تثمره فيها من أنواع العبوديات المختلفة التي يجب أن يظهر أثرها في المواقف والسلوك وجميع التصرفات، والله المستعان.
2- الصبر على البلايا والمصائب وقوة الاحتمال:
وهذه الثمرة لها علاقة بما قبلها؛ فعندما يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته ويتعبده بها، فإنها تثمر في القلب ثباتاً، ورباطة جأش، وصبراً أمام الابتلاءات والمصائب؛ فلا يضعف ولايـخـــور وهو يعلم أن ربه الرحيم الحكيم، اللطيف الخبير، الودود الغفور: هو الذي قدرها عليه، وأنه لم يقدرها ليعذبه ويشقيه، ولكن ليرحمه ويرده إليه.. عند ذلك يفوض أمره إلى ربـــــه، ويرضى بما يختار له مولاه (سبحانه)، ويعلم أنه هو الذي يمده بالقوة والعزيمة، والـصـبــر وحسن العاقبة. إن هذا الشعور يملأ القلب قوة وصبراً واحتمالاً أمام الشدائد؛ لقوة الرجاء في الله (عز وجل)، واليقين بفرجه ونصره، واليقين بحسن العاقبة من الله (عز وجل) فيما أعده للصابرين؛ قال (تعالى):((إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)) .
وإن مما يقوي الصبر على الشدائد يقين العبد أن ما أصابه إما أن يكون تكفيراً لذنوبه، أو سبباً لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه.
فإذا أيقن العبد المبتلى أن العاقبة الحميدة من النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة لا يوصل إليهما إلا على جسر التعب والمشقة: فإنه بذلك يقوى صبره، واحتماله، وبذله وتضحيته في سبيل الله (عز وجل)، مع تفقد النفس من الذنوب، وتنقية الصف من المنافقين، فذلك من أسباب النصر.
3- سعادة القلب وطمأنينته وسكينته:
عـنـدما يعلم العبد المؤمن أن كل ما يقضيه الله (عز وجل) هو عين الحكمة والرحـمـــــة، والخيـر، ســـواء في العاجل أو الآجل، فإن هذه المعرفة تضفي على القلب شعوراً بالأنس والسعادة والطـمـأنـيـنـة والسكينة، مهما اشتدت المصائب، وتوالت المحن؛ وبذلك يسلم صاحب هذا القلب من تلك الأمراض والوساوس التي تفتك بكثير من الناس الذين حرموا مثل هذه المعرفة العظـيـمــــة بربهم، نعم سوف لا يخيم على نفسه ما يخيم على النفوس اليائسة، من الشعور بالقلق والاكتئاب وانكساف البال، تلك الأشياء التي تجر وراءها من مصائب الدنيا والدين ما لا يعلمه إلا الله (عز وجل). وسوف يريحه هذا الشعور من الأفكار المتعبة التي تنشأ من كثرة الاختيارات والترددات، التي هي منشأ القلق والهم والغم.
إن التسخط وعدم الرضى بما قضاه الله (عز وجل) باب إلى الهم، والغم، والحزن، وشتات القلب، وسوء الحال، والـظــــن بالله ظن السوء، ولا يدفع ذلك كله إلا معرفة الرب (عز وجل) بأسمائه الحسنى، وصـفـاتــه العلا، والتعبد له (سبحانه) بها، والعمل بمقتضاها، والذي يولد في النفس الرضى بما يخـتــــاره الله (عز وجل)، وأنه أرحم بعبده من نفسه ((وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) .
4- سلامة القلب:
عندما يمتلئ القلب بتوحيد الله (عز وجل) ومعرفته (سبحانه) بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، ويمتلئ باليقين بوعده، والثقة بحكمته، وانتظار رحمته؛ فإن كل ذلك يضفي على القلب صفاءً ونوراً وطهارة تُسل بها من القلب أمراض كثيرة؛ فيصبح القلب بعدها سليماً صحيحاً، وينعم به صاحبه في الدنيا والآخرة؛ قال (تعالى) في وصف إمام الحنفاء (عليه الصلاة والسلام): ((إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) وقال (تعالى) حكاية لدعاء إبراهيم (عليه الصلاة والسلام): ((وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) .
ومن أهم مظاهر سلامة القلب التي تحصل بهذه المعرفة ما يلي:
أ- السلامة من أمراض الحقد والحسد والشحناء:
وذلك لأن الذي يوقـــن بحكمة الله (عز وجل) ورحمته في كل ما يقضيه من أقضية كونية وشرعية: يعلم علم اليـقـين أن لله (عز وجل) الحكمة البالغة في إعطاء من يشاء، ومنع من يشاء، وإعزاز من يشاء، وإذلال مـــن يشاء. وهذا العلم لابد أن يثمر الرضى بما يقدره الله (عز وجل) ويقضيه على الناس؛ وبذلك تزول الشحناء والأحقاد المتولدة عن الحسد المتولد أصلاً من معارضة أقدار الله (عز وجل) والتسخط لها.
ب- السلامة من أمراض الخوف والطمع:
إن المؤمن الراضي بربه والموقن بحـكـمـتــه وبره ولطفه لا تجده إلا قانعاً بما آتاه الله (عز وجل)، مطمئناً إلى اختيار الله (سبحانه) لــــه؛ لأنه (عز وجل) أعلم بما يصلح للعبد من نفسه، وهذه الثمرة تقضي على هذا الداء الخـطـيـــر (داء الطمع والحرص والتهالك على الدنيا وزينتها)؛ لأن القلب الراضي المفوض أمره إلى الله (عز وجل) قد امتلأ غنى وقناعة ومحبة وتوكلاً على الله (سبحانه)؛ فحري بقلب هذه صفته ألا يكون فيه محل لمحبة غير الله، وهذه الثمرة يتولد عنها ثمار طيبة، منها: عدم الأسى على ما فات، وعدم الفرح بما هو آت؛ قال (تعالى): ((مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِـي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَاًسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)) ، والـعـبــد المؤمن لا يدري أين يكون الخير، أهو في الفائت أم الآتي؟ ولكن الله وحده هو الذي يعلم، وهو علام الغيوب.
كما أنها تثمر أيضاً: الزهد في الدنيا، والحذر منها، فكم فرح بالدنيا أناس فكانت سبب هلاكهم وشقوتهم؛ قال (تعالى): ((وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)) .
وكيف يسكن الخوف والهلع في قلب من اطمأن إلى حكم ربه، وأحـســـن الظن به، وفوض أموره إليه. إن الخوف والهلع سواءً أكان على الرزق أو الأجل لا يكونـــان إلا عند من لم يعرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أما لو عرف ربه (عز وجل)، وأنــه رحـيـــم ودود، وأنّه حكيم عليم، وأنه لطيف خبير.. معرفة حقيقية يتعبد لربه بها: فإن الاطمئنان والسكينة تعمران القلب، وتنفيان كل دواعي الخوف والوجل من المخاليق الضعفاء الذين لا يمـلـكـون لأنفسـهم نفعاً ولا ضرّاً فضلاً عن أن يملكوا شيئاً من ذلك لغيرهم. ويبقى صاحب هذا القـلـب مطمئناً إلى حسن اختيار الله له، يستشرف رحمة ربه وخيره في كل ما يقضيه الله عليه؛ ولو ظـهــر في هذا المقضي من الشر والألم ما ظهر، فمن يدري؟! فلعل في طيات المحنة منحة ونعمة.
ج- السلامة من أمراض الكبر والخيلاء:
إن القـلــب لا يصدق عليه أن يوصف بكونه سليماً صحيحاً حتى ينضم إلى ما ذكر سابقاً سلامته من أمراض الكبر والفخر والخيلاء؛ فإن العبد المؤمن متى ما عرف ربه (عز وجل) وتعبد له بأسمائه وصفاته فإن المسكنة والمحبة لله (عز وجل) سوف تملأ القلب؛ وينتج عن ذلك: التواضع للحق وإيثاره، والتواضع للخلق، وعدم غمطهم وظلمهم، بل لا ترى مَن هذه صفــته إلا محبّاً للخير والإحسان للناس، ولا تراه إلا محقراً لنفسه، منشغلاً بعيوبها عن عيوب الناس؛ لأنه يشهد حكمة الله (عز وجل) في ابتلائه لعبده بالخير والشر. ولأن أسباب الكبر والتعالي على الناس لا تخرج عن كونها اغتراراً بنعمة دينية أو دنيوية، وأنه إذا أيقن الـعـبـــــد الـمؤمن أن هذه النعم إنما أعطاها الله لعبده ليبلوه أيشكر أم يكفر؛ فإن الخوف على النفس مـن هــــذا الابتلاء سيشغله عن التعالي على الناس، أو الفخر عليهم، وكيف يكون ذلك وهو لا يدري أيــن يكـمن الخير أو الشر؟! ولعل هذه النعمة التي يفتخر بها فتنة له ومتاع إلى حين، أو أن الذي يـفـخــر عليه ممن هو دونه يكون في خير ورحمة مفتوحة من الله (عز وجل) عليه، والناس يحسبون أنه في ضيق وشر!.
5- محاسبة النفوس والانتباه إلى خطر المعاصي وشؤمها على الفرد والمجتمع:
إن من ثمار هذه السنة الكريمة أن ينتبه العبد الـمـؤمــن إلى نفسه ويحاسبها على تفريطها وذنوبها. وهذا بعض الخير الذي يجعله الله فيما يراه الــنــــاس شرّاً ومصيبة؛ حيث إن المصائب والشرور المقدرة على العبد المؤمن غالباً ما تكون تكـفـيــراً للذنوب، وإيقاظاً له من الغفلة، ومجالاً لتطهير النفس من أدران المعاصي والسيئات. ومتـى ما حصلت هذه الثمرة العظيمة في القلب فإن المصيبة والنقمة تصبح في حقيقة الأمر خيراً ونعمة لصاحبها؛ وصدق الله العظيم: ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)).
أمـا إذا حصـل العكـس مـن ذلك ـ والعياذ بالله ـ وذلك بأن كانت المصيبة سبباً في مزيد من الـغـفـلــــة أو التسخط على أقدار الله (تعالى)؛ فإن المصيبة والحالة هذه لا تعتبر خيراً لمن وقعت عليه، لكنها قد تكون خيراً لغيره عندما يحصل الاتعاظ والعبرة بحال من وقعت له المصيبة.
6- التعرف على سنن الله (عز وجل) في التغيير، والسير على هداها:
إن إدراك معاني أسماء الله (عز وجل) وآثارها ومقتضياتها يفتح في قلب المؤمن منافذ عديدة على سـنـنـه (عـــز وجل) التي لا تتبدل ولا تتحول، وبخاصة إدراك آثار حكمة الله (عز وجل) ورحمته ولطفه وإحسانه، ولقد مرّ بنا كيف أن فقه قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)) يطبع في القلب شعوراً برحمة الله (عز وجل) وخيره وبره، وأن كل ما يقضيه (عز وجل) هو عين الخير والمصلحة والحكمة، وهذا الشعور يؤدي بدوره إلى فتح القلب والفكر على سـنــن الله (عز وجل) التي تنبثق من هذه المعرفة، وعندما تحصل هذه المعرفة لسنن الله (عز وجـــل) في التغيير: فإن الفكر البشري ينضبط ويستقيم ولا تتقاذفه الثقافات المادية ذات اليمين وذات الشمال، وبذلك يسلم من التفسيرات المادية للأحداث، والتي تربط كل المتغيرات بأسباب مادية بحتة؛ كتلك التي تربط النصر والهزيمة بأسباب مادية، أو تلك التي تفسر العـقــوبـــات الربانية كالزلازل والأعاصير بكونها ظواهر فلكية بحتة، متجاهلين قدر الله وحكمته.
كـمــــا أن هذه الـمعرفة تثمر أيضاً: معرفة الموازين المنضبطة الثابتة التي توزن بها الأمور والأحــــوال والأشـيــــاء، وحُقّ لها أن تكون بهذه المثابة؛ لأنها من عند الله (عز وجل) الحكيم، العليم، الرحـيـم، الـــــودود، الذي يعلم ما كان وما سيكون، والذي له الكمال المطلق، وهو الغني الحميد. وهو (سـبـحانه) يقول الحق، ويقصّ على عبيده ـ رحمة منه وفضلاً ـ جانباً من أسرار سنته وقدره ليأخذ الناس حذرهم وليعتبروا ويتعظوا، وليدركوا الرحمة والخير والحكمة الكامنة وراء هذه السنن الربانية والموازين الإلهية، والتي بدورها تؤدي إلى معرفة المنهج الصحيح للـتـغـيـيــر، كما تؤدي إلى المنهج الصحيح لتقويم الأمور ووزنها بالميزان الحق.
ولـقـــــد مر بنا في الثمرات السابقة بعض السنن الربانية التي يهتدي إليها القلب العامر بمعرفة الله (عز وجل) وتوحيده، ولكن نخص هنا بعض السنن بشيء من التفصيل، وذلك فيما يلي:
أ- العاقــبــة للمتقين: إن وعد الله (عز وجل) لا يتخلف، وكلمته لا تتبدل، ولقد قال ـ وقوله الحـــق ـ: ((وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ (171) إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ (172) وَإنَّ جُندَنَا لـَـهُــمُ الغَالِبُونَ)) هذا وعد الله (سبحانه)، ولو تأخر وأبطأ على عباده فإن من وراء ذلك التأخير حكمة وخير.
ب- ويتعلق بـهــــذه السنة سنة أخرى في معناها، وهي قوله (تعالى): ((وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)) يقول ابن القيم (رحمه الله تعالى) في معنى الآية: (قيل: بالحجة والبرهان، فإن حجتهم داحضة عند ربهم، وقيل: هذا في الآخرة وأما في الدنيا فقد يتسلطون عليهم بالضرر لهم والأذى، وقيل: لا يجعل لهم عليهم سبيلاً مستقرة، بل وإن نـصـــروا عليهم في وقت فإن الدائرة تكون عليهم، ويستقر النصر لأتباع الرسول.
وقيل: بل الآية على ظاهرها وعمومها، لا إشكال فيها ـ بحمد الله ـ؛ فإن الله (سبحانه) ضمن أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، فحيث كانت لهم سبيلٌ ما عليهم فهم الذين جعلوها بتسببهم ترك بعض ما أقروا به، أو ارتكاب بعض ما نُهوا عنه؛ فهم جعلوا لهم السبيل عليهم بخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما أوجب تسلط عدوهم عليهم في هذه الثغرة التي أدخلوها، كما أخلى الصحابة يوم أُحد الثغرة التي أمرهم رسول الله بلزومها وحفظها؛ فوجد العدو منها طريقاً إليهم، فدخلوا منها)(3).
والحاصل مما سبق: أن معرفة السنة السابقة لا تفهم حق الفهم إلا بمعرفة الله (عز وجل) وتوحيده؛ فإنه (سبحانه) لا يريد بعباده إلا الخير والرحمة، ولو تسلط الأعداء في وقت ما فإن عاقبة هذا التسلط هي الخير والتمكين؛ وذلك أن المؤمنين عندما يتسلط عليهم أعداؤهم وينالونهم بالأذى يدركون من واقع قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)) أن مــــا أصابهم إنما هو بذنوبهم؛ فيكون الخير في تسلط الأعداء هو تغيير ما بالنفوس من خلل، وإحداث التوبة والاستغفار، وترك ما أوجب حلول المصيبة، وهذا خير في حد ذاته لم يكن لـيـظـهــــر لو استمر النصر والتمكين مع وجود المعاصي، وضعف الإيمان؛ لأنه ـ والحالة هذه ـ يستمر الفساد بدون إصلاح.
وهذا هو معنى السنة الثابتة التي لا تتغير، ألا وهي قوله (تعالى):
ج- ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) .
ومثلها قـولــه (تعالـى): ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) . والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّاً.
د- قـولـــه (تعالى): ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ)) .
هذه الآية ترسم ميزاناً قويماً ثابتاً في أن إغداق النعم على العبد ليس علامة على كرامة الله له ومحبته إياه، ولا يدل على أنه في خير وسعادة، بل الغالب أن وراء الإملاء والنعم شرّاً وعذاباً، وفـي هــــــذا الميزان توجـيه للناس إلى حقيقة الابتلاء بالخير والشر، وألا تكون موازينهم في السعادة والـتـعـاسـة هي النظر إلى كثرة النعم أو قلتها؛ فكم كان الرخاء سبباً للعذاب ـ دنياً وأخرى ـ، وكم من أنــاس صـالـحـيــن حرموا في هذه الدنيا من نعمة المال والأولاد، ولكنهـم فـي خيـر وسـعـادة ـ دنياً وأخــــرى ـ. وهذه المعاني العظيمة لا يمكن إدراكها إلا في ضوء التوحيد وأنواره، وصدق الله العظيم: ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً، أذكر منها قوله (تعالى): ((فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)) .
7- التؤدة والأناة وعدم الاستعجال:
وهذه هي الثمرة السابعة من ثمار قوله (تعالى): ((لا تَـحْـسَـبُــوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)) فإذا كان العبد لا يعلم أين يكون الخير والشر فيما يقضيه الله (سـبـحـانــه) إلا في ضوء ما أعلمه الله (عز وجل) عباده من السنن والثواب، فإنه ـ والحالة هذه ـ لا يـنـبـغــي له أن يتعجل الأمور أو يحلل المواقف والأحداث قبل دراستها والبحث في جوانبها، متجرداً في ذلك لله (عز وجل)، مهتدياً بالموازين والسنن الثابتة التي ذكرها الله (سبحانه) في كتابه، وعلى لسـان رسوله، وإذا وُفّق العبد إلى هذا الفضل: فإنه في الغالب يصدر عن الحـــــق، وينطــق بالحق، وتنشأ عنده صفتا (الحلم) و(الأناة) اللتان يحبهما الله (عز وجل).. وكم رأينا من أناس تعجلوا أمورهم قبل أوانها فكانت نتيجتها وبالاً وشرّاً، وكم سئم أناس من نعمة أنعــم الله بها عليهم فتقالّوها وملّوها وأرادوا غيرها، فلما جاءهم ما أرادوه وتعجلوه أصابهم منه ضررٌ ونكدٌ وندمٌ.
ومن صور الاستعجال التي يمـكـن مـعالجتها بهذه السنة: ما نراه من تعجل بعض الطيبين من الغيورين على هذا الدين في قطف ثـمـــرة جهدهم، وتعريض أنفسهم للابتلاء، وتمنيهم لمواجهة الأعـــــداء... وينسون أو يغفلون عــــن قوله: (لا تمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا)(4). لأن الـمــــرء لا يدري مـــا تؤول إلـيـه الحال عند مواجهة العدو، ومشاهدة الأهوال. وقد يتمنى العبد حالة معينة ويسـتـعجلها بتصرفه الجاهل بعواقب الأمور، ولكن الله (عز وجل) برحمته يحول بينه وبين هذا الأمــــر لما يعلمه (سبحانه) من الشر والفتنة على عبده من هذا الأمر؛ فكم من أناس استعجلوا الـبـــلاء قبل أوانه، فلما أصبحوا تحت وطأته: ضعفوا وانتكسوا ـ والعياذ بالله ـ فحريّ بالمسلم أن يـســأل ربه الدلالة على ما فيه الخير والصلاح، وعلى ما فيه مرضاته (عز وجل) ورحمته.
مما سبق يتبين لنا فـضـــل التؤدة والأناة، وأنها من ثمرة العلم بــالله (عز وجل) وتوحيده وأسمائه وصفاته، وأنه (عــز وجـل) يقدر الوقت المناسب لنصر أولـيــائه بعد أن يكونوا قد أخذوا بأسباب النصر وأعدوا عـدتــه، وأنــــه (سبحانه) هو العليم الحكـيـم والبر الرحيم بعباده، فلا يؤخر عنهم شيئاً، ولا يقضي عليهم أمراً إلا وفيه الخير والرحمة، ولكن العبد القاصر والجاهل بعواقب الأمور يستعجل أمر ربه الرحيم.
وصدق الله العظيم في وصفه للإنسان: ((خُلِقَ الإنـسَــــانُ مــِــنْ عَـجَـــلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)) فطبيعته العجل والتسرع، إلا مَن منّ الله عـلـيـه بـتـوحـيــده ومـحـبـتـــه والتـسـلـيـم لــــه، مــع فعله للأسباب الممكنة، فإنه يسلم من الأفكار المتعبة، والاندفاعات المتهورة، لأنه يفقه قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) وصدق الرسول: (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة)(5).
--------------------------------------------------------------------------------
في هذا المبحث سأتعرض ـ إن شاء الله (تعالى) ـ لبعض المواقف من السيرة المطهرة وغيرها، والتي ظهرت فيها حكمة الله (عز وجل) ورحمته، وأن ما اختاره الله (عز وجل) لعباده خير مما اختاروه لأنفسهم.
من السيرة المطهرة:
الموقف الأول: غزوة بدر الكبرى: وهي أشهر من أن تذكر؛ فلقد كانـت فـرقــاناً بين الحق والباطل، ولكن المراد من الاستشهاد بها هنا: هو ما ظهر في هذه الغزوة العظيمة من الفرق بين ما أراده المسلمون قبل الغزوة، وكراهيتهم للقاء عدوهم، ورغبتهم في أن تكون في العير، وبين ما اختاره الله لهم من أن تكون في النفير وفي ذات الشوكة؛ يقول الله (عز وجل): ((وَإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطـِـلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ)) .
فأين الخير الذي علمه الله (عز وجل) وغاب عن المسلمين آنذاك فأرادوا غيره؟ إن الجواب في الآية نفسها؛ يعلق الأستاذ سيد قطب (رحمه الله تعالى) على هذه الآية فيـقــول: (لقد أراد الله ـ ولـــه الفضل والمنة ـ أن تكون ملحمة لا غنيمة، وأن تكون موقعة بين الحــــق والباطل؛ لـيـحــــق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه، وأراد أن يقطع دابر الكافرين؛ فيُقتل منهم من يقتل، ويُؤسر منهم من يؤسر، وتذل كبرياؤهم، وتخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام وتعلو مــعـهـا كلمة الله، ويمكّن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض، وتحطيم طاغوت الطواغيت، وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عــــن جــــزاف ـ تعالى الله عن الجزاف ـ وبالجهد والجهاد، وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال..
... وينظر الناظر اليوم، وبعد اليوم، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها، بين ما حسبته خيراً لها وما قدره الله لها من الخير.. ينظر فيرى الآماد المتطاولة؛ ويعلم كم يخطئ الناس حين يتضررون مما يريده الله لهم، مما قد يعرضهم لبعض الخطر، أو يصيبهم بشيء من الأذى، بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال، ولا بخيال!.
فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها؟ لقد كانت تمضي ـ لو كانت لهم غير ذات الشوكة ـ قصة غنيمة، قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة، قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل، قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح، المزودين بكل زاد، والحق في قلة من العدد وضعف في الزاد والراحلة)(6).
الموقف الثاني: غزوة أحد: وهذه الغزوة أيضاً من أشهر غزوات الرسول، ومن أشدها على المسلمين؛ حيث استشهد سبعون صحابيّاً، وشُجّ وجه النبي الكريم، ومع ذلك كان فيها خير للمسلمين ورحمة؛ يدل على ذلك قوله (تعالى): ((وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمََ المُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)) .
ولقد أحسن الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) في ذكره لبعض الحِكَم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد، أقتطف منها قوله:
1- فمنها: تعريفهم سوء عاقبة المعصية، والفشل، والتنازع، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك؛ كما قال (تعالى): ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ)) .
فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم وتنازعهم وفشلهم: كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظة وتحرزاً من أسباب الخذلان.
2- ومنها: أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب؛ فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت: دخل معهم في الإسلام ـ ظاهراً ـ من ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حكمة الله (عز وجل) أن سبّب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وعاد تلويحهم تصريحاً، وانقسم الناس إلى كافر، ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم؛ قال الله (تعالى): ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَلكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ)) . أي: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه، وهو (سبحانه) يريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً، فيقع معلومه الذي هو غيب شهادةً.
3- ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء، وفيما يحبون وما يكرهون، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقّاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية.
4- ومنها: أنه (سبحانه) لو نصرهم دائماً؛ لطغت نفوسهم، وشمخت، وارتفعت؛ فلو بسط لهم النصر والظفر، لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء، والشدة والرخاء، والقبض والبسط.
5- ومنها: أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته: قيّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواءً لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه، ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.
6- ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، وهو (سبحانه) يحب أن يتخذ من عباده شهداء تُراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويؤثرون رضاه ومحابه على أنفسهم. ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.
7- ومنها: أن الله (سبحانه) إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم: بغيهم، وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم؛ فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم. وقد ذكر (سبحانه وتعالى) ذلك في قوله: ((وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ)) (7).
مواقف من السلف:
1- الموقف الأول: محنة الإمام أحمد ابن حنبل (رحمه الله تعالى):
وما أظن أحداً من المسلمين يجهل المحنة التي تعرض لها أبو عبد الله أحمد بن حنبل (رحمه الله تعالى)؛ وذلك فيما يعرف بفتنة القول بخلق القرآن، وقد تعرض هذا الإمام الجليل لمحنة وبلاء عظيم؛ تلك المحنة كانت مؤذية له (رحمه الله)، ومؤذية للمسلمين معه، ولكن الله (عز وجل) ثبّته في هذه المحنة العظيمة، وحمى به عقيدة أهل السنة من الانحراف أو الاندثار، ولقد كانت هذه البليَّة لإمام السنة خيراً له فيما بعد؛ فما كان لينال هذا الخير لولا هذا الابتلاء وما من الله به عليه من الثبات والتضحية.
2- شيخ الإسلام ابن تيمية وسجنه:
وكذلك لا أظن أحداً من أهل العلم يجهل هذا الرجل العظيم، وما ضحى به في سبيل الله (عز وجل) بعلمه وجهاده وصبره وما لاقى في ذلك من السجن والإبعاد، ولكن كان في ذلك الابتلاء خير له ورفعة، كما يقول ذلك هو عن نفسه عندما ورد المرسوم السلطاني بسجنه في قلعة دمشق: (أنا كنت منتظراً ذلك، وهذا فيه خير عظيم)(8).
وقال: (لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة).
كما كان في الابتلاء الذي تعرض له خير للمسلمين في عصره وما تلاه من العصور؛ وذلك بانتشار دعوته وعلمه؛ يقول (رحمه الله): (ومن سنة الله: أنه إذا أراد إظهار دينه أقام من يعارضه، فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق...)(9).
احتراس وتنبيه:
وفي هذا المبحث أود التنبيه على قضية يُخشى أن تنشأ من خلال الحديث عن الرضا بقدر الله (عز وجل) وتفويض الأمور إليه؛ ألا وهي الانحراف بهذا الأمر إلى المفهوم الخاطئ لمسألة الرضا والتسليم لقضاء الله (عز وجل)، والذي قد يؤدي إلى التواكل، والعجز، والرضا بالفساد، والذلة، والمهانة، وترك الأخذ بالأسباب والدعوة والجهاد؛ فنكون قد عالجنا مرضاً وانفتح علينا مرض آخر. من أجل ذلك سأخص هذا المبحث بالحديث عن هذه القضية، وذلك احتراساً من الفهم الخاطئ الذي قد ينشأ لو لم يحصل هذا التنبيه، فأقول وبالله التوفيق:
إن من القواعد المهمة لمطالعة حوادث الزمان: الفهم الصحيح لعقيدة القضاء والقدر، والفهم الصحيح لمقتضى أسماء الله (عز وجل) الحسنى وصفاته العلا، والتوازن في هذا الفهم بين الغلو والجفاء، وهذا (والحمد لله) هو سمة معتقد أهل السنة والجماعة في جميع أبواب العقيدة، ومن ذلك: عقيدة القضاء والقدر، وتوحيد الأسماء والصفات. ولقد انحرف عن هذه القواعد طرفان من الناس: فمنهم من أنكر الاستدلال بالقضاء والقدر على حوادث الزمان، وتنقص المؤمنين به، ومنهم من فهم القضاء والقدر على أنه تواكل وخمول وخنوع مُذل، وكلا الموقفين منحرف ومجانب للصواب؛ فالإيمان بقضاء الله (عز وجل) وبعلمه وتقديره للأمور قبل وقوعها، ثم مشيئته، وخلقه لها، وأن له الحكمة البالغة في كل ما يقضيه ويقدره، وأن من وراء ذلك رحمته، وإرادة الخير واليسر لعباده.. كل ذلك مما يجب الإيمان به في باب القضاء والقدر، كما أنه مقتضى الإيمان بأسمائه (سبحانه) وصفاته، ولكن هذا الإيمان بهذه القواعد والحقائق لا يعني ترك الأسباب، والرضا بالذلة والهوان وانتشار الفساد، كلا، بل إن الفهم الصحيح للقضاء والقدر يكمن في التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله، والعمل بكل ما في الوسع والوقوف المطمئن عند حد الاستطاعة؛ وهذا يعني فعل الأسباب التي سخرها الله (سبحانه)، ومدافعة أقدار الله (عز وجل) بأقداره، ما دام أن هناك إمكاناً للمدافعة؛ قال (تعالى): ((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ)) فإذا لم تُجدِ المدافعة، أو لم يكن ذلك في الإمكان: فالواجب: الصبر والاستسلام لقضاء الله (عز وجل)، واليقين بأن من وراء ذلك خيراً ومصلحة ورحمة، يجب أن يتجه الجهد إلى التماسها، وتسخيرها في مزيد من الخير والإصلاح، وتغيير الأحوال، ومحاسبة النفوس، وإزالة أسباب المصيبة، وبذل الجهد في دفعها؛ قال (تعالى): ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) .
ويوضح هذا المعنى الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) فيقول:
(ودفع القدر بالقدر نوعان:
أحدهما: دفع القدر الذي قد انعقدت أسبابه ـ ولـمّا يقع ـ بأسباب أخرى من القدر تقابله، فيمتنع وقوعه، كدفع العدو بقتاله، ودفع الحر والبرد ونحوه.
الثاني: دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله، كدفع قدر المرض بقدر التداوي، ودفع قدر الذنب بقدر التوبة، ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان، فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار، لا الاستسلام لها، وترك الحركة والحيلة؛ فإنه عجز، والله (تعالى) يلوم على العجز. فإذا غُلب العبد، وضاقت به الحيل، ولم يبق مجال؛ فهنالك الاستسلام للقدر، والانطراح كالميت بين يدي الغاسل، يقلبه كيف يشاء)(10).
وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا.. الحديث)(11)، ويشرح الإمام النووي الحديث، فيقول: (والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد، وأسرع خروجاً إليه، وذهاباً في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله (تعالى)، وأرغب في الصلاة، والصوم، والأذكار، وسائر العبادات، وأنشط طلباً لها، ومحافظة عليها ونحو ذلك.. وقوله-صلى الله عليه وسلم- (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) معناه: احرص على طاعة الله (تعالى)، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله (تعالى) على ذلك، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة)(12).
ويتحدث الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) عن الفرق بين العجز والتوكل، فيقول:
(والفرق بين التوكل والعجز: أن التوكل عمل القلب وعبوديته: اعتماداً على الله، وثقة به، والتجاءً إليه، وتفويضاً إليه، ورضاً بما يقضيه له؛ لعلمه بكفايته (سبحانه)، وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه مع قيامه بالأسباب المأمور بها، واجتهاده في تحصيلها؛ فقد كان رسول الله أعظم المتوكلين، وكان يلبس لأَمَتَه ودرعه، بل ظاهر يوم أحد بين درعين، واختفى في الغار ثلاثاً؛ فكان متوكلاً في السبب لا على السبب.
وأما العجز: فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما: فإما أن يعطل السبب عجزاً منه، ويزعم أن ذلك توكل! ولعمر الله إنه لعجز وتفريط، وإما أن يقوم بالسبب ناظراً إليه، معتمداً عليه، غافلاً عن المسبّب، معرضاً عنه، وإن خطر بباله لم يثبت معه ذلك الخاطر، ولم يعلق قلبه به تعلقاً تاماً، بحيث يكون قلبه مع الله، وبدنه مع السبب. فهذا توكله عجز، وعجزه توكل)(13).
ويقول الدكتور علي العلياني (وفقه الله تعالى) في حديثه عن أهل الـتـصـوف وانحرافهم في موضوع الجهاد في سبيل الله: إن من صفاتهم:
(الرضــا بما يقع عليهم من مصائب وذنوب، فلا يحاولون دفعها عن أنفسهم، زعماً منهم أن دفـعـهـــــا ينافي الرضا بالقدر، فلو وطئ الكفار رقابهم يرضون ويسلمون؛ لأن الله أراد ذلك!.. ويذكر الأستاذ محمود مهدي قصة ملخصها: أن الفرنسيين إبان استعمارهم لتونس كانوا يجدون مـعـارضــــة شديدة من الناس؛ فتفاهم الفرنسيون مع شيخ الصوفية على أن يدخلوا البلاد؛ فلما أصبح الصباح قعد الشيخ مطرقاً رأسه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما سأله أتباعه عن الأمر الذي يقلقه قال لهم: لقد رأيت الـخـضـــر وسـيـدي أبا الـعـبـــاس الشاذلي وهما قابضان بحصان جنرال فرنسا ثم أوكلا الجنرال أمر تونس، يـــا جماعة هـــــــذا أمر الله، فما العمل؟ فقالوا له: إذا كان سيدي أبو العباس راضياً، ونحن نحارب في سبيلـه، فلا داعي للحرب! ثم دخل الجيش الفرنسي تونس بدون مقاومة) إلى أن يقول: (... إن عـقـيـدة الـصـوفـيـة المنحرفة في التوكل والرضا بالقدر: جعلت نفوسهم راضية مطمئنة ولو وطئ الكفار على رقـابـهـــم؛ فإن التوكل عندهم عدم ممارسة الأسباب، والرضا معناه أن ترضى بما يحصل لك ولو هــــو استيلاء الكفار على بلاد المسلمين، وسبي ذراريهم. وإن أبديت مقاومة فأنت معارض للقدر! وغير متوكل على الله! فالذي يسافر في البراري الخالية بغير زاد، هل يتصور منه أن يلـبس لأَمَة الحرب ودروع القتال؟ وليته إذ لم يفعل ذلك غمس نفسه في القتال حاسراً!!.. ولـكـن مـا لـــــه ولفرقعة السلاح، ولخرير الدماء؛ وحلق الرقص وطقطقة المسابح كفيلة بإنزاله منزلة الصديـقـيـن عـلـــى زعمه، فأي انحراف هذا الذي أصاب الأمة الإسلامية، وأي فرحة للكفار تحصل لهم أشد من فرحتهم بهذا)(14).
ياويلكم مني @yaoylkm_mny
محررة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
لاني سهرانه جفني ثقيل وفيني نوووم
فلو بعدتي السطور وتخلين المسافه بين كل سطر وسطر مسافة سطرين او سطر ونص
وشكرااا