محاضرة مفرغة للشيخ الدكتور: خالد بن عثمان السبت
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيها الأحبة:
حديثنا في هذه الليلة عن موضوع يحتاج إليه الكبير والصغير والرجل والمرأة لا سيما في هذا الزمان الذي تكاثرت فيه الفتن وصار الإنسان يستطيع أن يصل إلى المنكر وهو في قعر بيته دون أن يشعر به أحد، وصار الإنسان أيضاً يستطيع أن يطوف في أنواع الضلالات والشبهات وينظر في العقائد الفاسدة والمواقع أو القنوات التي تبث الشبهات فتضلل الناس وتشكك الإنسان في عقيدته ودينه وهو في بيته بعد أن كان الناس لربما لا يستطيع الواحد منهم أن يصل إلى مطلوبه من ذلك إلا بألوان الاحتيال والصعوبات، ولربما تعجزه وتقعده الحيلة فلا يستطيع أن يحقق مطلوباً للنفس تشتهيه أو تهواه.
واليوم أيها الأحبة لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، يجلس الرجل أو المرأة وهو في بيته يمكن أن يفعل ما يشاء، وأن ينظر إلى كل ما يريد، يمكن لهذا الإنسان أن يعاكس كل ما لا يرضاه الله تبارك وتعالى دون أن يشعر بذلك أحد من الناس.
أصبحنا أيها الأحبة نتقلب في فتن تجعل الحليم حيراناً، وأصبح كثير ممن جاوزوا سن ما يسمى بالمراهقة عادوا بعد ذلك إلى حال كان يجب أن ينزهوا أنفسهم عنها بعد اكتمال العقل والنضج وصار له من العيال ما يكون حاجزاً من أن ينظر إلى ما لا يليق أو أن يفعل ما لا يليق خوف العواقب السيئة التي لربما نزلت بأهل بيته، وكثرت الشكاية أيها الأحبة من الزوجات على الأزواج، انتكس كثير ممن كان يرتاد المساجد ويظهر عليه سيما الصالحين، انتكس على عقبه، والسبب أنه عرض نفسه للفتنة أولاً فلم ينجو منها آخراً.
ولذلك في مثل هذه الأوقات أيها الأحبة لا بد من الحديث عن مراقبة الله عز وجل وأن نكرر هذا الحديث يعظ به الإنسان نفسه حينما يتحدث ويعظ به إخوانه ويتردد ذلك في مجالسنا حيناً بعد حين؛ فإن هذه القلوب يحصل لها ما يحصل من أنواع الغفلة، والنفس شرود وقد ركبت في النفوس محبة الشهوات، كما أن الفتن خطافة، وقد يحمل الإنسان حب الاستطلاع على أن يرد موارد الهلكة فتعلق الشبه في قلبه ثم لا يستطيع بعد ذلك الخلاص منها، وأعرف من هذا أمثلة كثيرة فنسأل الله عز وجل أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يحفظنا وإياكم وجميع المسلمين من كل بلاء ومكروه.
أقول أيها الأحبة، الحديث عن المراقبة يتضمن قضايا متعددة:
أولها: في بيان حقيقة المراقبة.
والثاني: في منزلتها.
والثالث: في ذكر بعض ما ورد في هذا الباب في الكتاب والسنة.
والرابع: في أنواعها.
والخامس: في الطريق إليها.
والسادس: في ثمراتها.
والسابع: نماذج من أحوال أهل المراقبة.
أما حقيقتها أيها الأحبة؛ فهي من رقب، وهذه المادة تدل على انتصاب لمراعاة شيء، ومن ذلك الرقيب وهو الحافظ، ويقال المرقب للمكان العالي الذي يقف عليه الناظر فينظر من خلاله إلى ما يريد وقيل للرقبة التي في الإنسان رقبة لأنها منتصبة، ومن يريد أن ينظر أو يشاهد لا بد أن ينتصب عند نظره فيرفع رأسه وينظر إلى مطلوبه، والمرأة الرقوب هي التي لا يعيش لها ولد فكأنها ترقبه لعله يبقى، وفي أسماء الله عز وجل الرقيب وهو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء كما سيأتي.
وأما حقيقة المراقبة في معناها الاصطلاحي فمما ذكر في ذلك ما ذكره الحافظ ابن القيم رحمه الله بأنها: "دوام علم العبد وتيقنهُ باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامتنا لهذا العلم هو المراقبة؛ إذا تيقن الإنسان أن الله ينظر إليه وأنه لا يخفى عليه شيء من أحواله هذا هو حال المراقبة؛ فهي: التعبد لله عز وجل باسمه الرقيب الحفيظ العليم السميع البصير الخبير الشهيد وما إلى ذلك من الأسماء.
يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وهو الرقيب على الخواطر واللواحظ كيف بالأفعال والأركان
يعلم خطرات النفوس ولحظ العيون كيف بالحركات والأفعال الظاهرة.
وفي حديث جبريل عليه السلام أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .
ومقام المراقبة أيها الأحبة جامع للمعرفة مع الخشية، فبحسبها يحصل مقام المراقبة إذا علم العبد أن الله تعالى يطلع عليه وخافه، فإن هذا الخوف مع علمه باطلاع الرب يقال له الخشية، فإذا اجتمع هذا وهذا كان ذلك تحصيناً لهذا المقام وارتقاء إلى هذه المرتبة، وبذلك ينكف العبد عن فعل ما لا يليق.
ثانياً: في الكلام على منزلتها.
المراقبة أيها الأحبة؛ أساس الأعمال القلبية كلها، وهي عمودها الذي قيامها به، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة في الحديث السابق في الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه» فهذا جامع لمقام الإسلام والإيمان والإحسان، «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ومن أهل العلم من يقول: "إنها مرتبة واحدة، أن تستشعر هذا المعنى أن تعبد الله كأنك تراه، وعليك أن تعلم أنك إن لم تكن تراه فإن الله يراك فهي مرتبة واحدة".
ومن أهل العلم من يقول هما مرتبتان:
الأولى: أن تعبده كأنك تراه، وهي الأعلى، فإذا لم يستطع العبد أن يحصل ذلك فإنه ينحط إلى المرتبة التي بعدها من مرتبتي الإحسان، وهو أن يستشعر أن الله يراه، وهذا هو اختيار الحافظ ابن القيم رحمه الله، فيعلم أن الله عز وجل مشاهد له مطلع عليه في ظاهره وباطنه وإذا تحقق العبد من هذا لم يكن التفاته إلى المخلوقين فيتزين لهم ويتصنع، ويكون محافظاً على حدود الله عز وجل في الجلوة، ويكون منتهكاً لحرماته في الخلوة، فإن هذا لم يراقبه.
وكثيراً أيها الأحبة لا يكاد يخلو يوم من سؤال يكتبه صاحبه برسالة يبعث بها يسأل عن عمل يستحي أن يسأل عنه مباشرة، وهذا من العجب يستحي أن يسأل مخلوقاً ضعيفاً لا يعرفه ومع ذلك يفعل ذلك والله تبارك وتعالى يراه ويطلع عليه والملك يشاهده ويكتب عمله، وقد قال أبو حفص لأبي عثمان النيسابوري رحمه الله: "إذا جلست للناس فكن واعظاً لقلبك ولنفسك ولا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك والله يراقب باطنك".
ثالثاً: مما ورد من النصوص في هذا الباب.
الآيات والأحاديث في هذا كثيرة؛ فالله جل جلاله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} .
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} .
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} .
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا} .
{أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ} .
وجاء في حديث معاذ رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله؛ أوصني"، قال: «اعبد الله كأنك تراه».
وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...» ، وإذا نظرت إلى هؤلاء السبعة تجد أن الشيء المشترك والوصف الذي تحقق فيهم جميعاً هو المراقبة لله تبارك وتعالى.
الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ما الذي جعله يكون بهذه المثابة؟ هو مراقبة الله، الناس لا يرونه، الرجل الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، حصلت له المنعة مع وجود الدافع القوي فهي ذات منصب وذات جمال ونفسه تطلب هذه الشهوات ومع ذلك قال إني أخاف الله، والرجل الذي تصدق بيمينه حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه؛ هذا رجل قد راقب الله عز وجل وإلا فإن المال أيها الأحبة شيء محبب إلى النفوس ولا يسهل عليها أن تجود به إلا بطلب عوض أعظم واليقين عند عامة الناس عند كثير من الناس ضعيف، ولذلك فإن الكثيرين قد يصعب عليهم إخراج المال لله تبارك وتعالى، فكيف بهذا الذي أخفاه إلى هذا الحد حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
الشاب الذي نشأ في طاعة الله عز وجل مع قوة النوازع وتوقد الغرائز الذي منعه من ذلك هو مراقبة الله تبارك وتعالى، وهكذا أيها الأحبة.
وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم بهم؛ كيف تركتم عبادي؟، فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون» ، فهل استحضرنا هذا المعنى، هل استحضره من يضيع صلاة الصبح ينام عنها ويضيع صلاة العصر حينما يأتي من عمله ثم بعد ذلك ينام.
رابعاً: في ذكر أنواع المراقبة.
يمكن أن تتنوع المراقبة أيها الأحبة إلى أنواع مختلفة باعتبارات متعددة، ولكن يمكن أن أقتصر على وجه من تنويعها، فأقول أيها الأحبة: المراقبة تكون قبل العمل، قبل أن تقدم على العمل ينبغي أن تسأل نفسك؛ هل لك فيه نية؟، ما ذا تريد بهذا العمل الذي تقوم به؟، حينما تريد أن تتصدق بصدقة هل هذه الصدقة تريد بها وجه الله أو أنك تجمع خسارة في الدنيا وعذاباً في الآخرة؟، إذا كان الإنسان ينفق من أجل أن يقال منفق، فيكون من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، هذا الإنسان الذي يريد أن يطلب العلم هل يريد أن يطلب هذا العلم من أجل أن يقال عالم، حينما يقوم الإنسان بمشروع من الأعمال الطيبة من إغاثة المنكوبين أو القيام على الفقراء والأرامل والأيتام، هذه أعمال جليلة، وتتطلب من الإنسان ألوان التضحيات، فينفق فيها وقته وجهده، ولربما لا يراه أهله إلا في قليل من الوقت، هل لك فيه نية، يسأل الإنسان حينما يريد أن يقدم على هذه الأعمال هل هو لله؟، هل للنفس فيه هوى؟، هل للشيطان فيه نزغة فيتثبت؟، فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره صحح نيته وأخلص قصده وعمله، وفي هذا يقول الحسن البصري رحمه الله: "كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق بصدقة نظر وتثبت، فإن كان لله أمضاه، ويقول: رحم الله عبداً وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر".
وجاء عن محمد بن علي رحمه الله: "إن المؤمن وقاف ومتأنٍ يقف عند همه ليس كحاطب ليل. فلا يتسارع الإنسان في الأعمال في هذه الحياة الدنيا ولو كان ظاهر ذلك من الأعمال الصالحة حتى ينظر قبل أن يقدم عليه هل له فيه نية صحيحة أو لا".
تعرفون حديث الثلاثة الذين تسعر فيهم النار يوم القيامة أول الناس: هذا رجل عالم، وهذا رجل جواد، وهذا رجل قارئ للقرآن أو مجاهد في سبيل الله، فهذا جاهد ليقال شجاع، وهذا قرأ ليقال قارئ، أو تعلم العلم ليقال عالم، وهذا أنفق من أجل أن يقال جواد، فيدخل النار قبل السراق، والزناة، وأصحاب الجرائم، فالمسألة ليست بالشيء السهل، قد يتصور كثير من الناس أن الذين يُتوعدون بالعقوبة أنهم على خطر وخوف هم أولئك الذين يقارفون ما يقارفون من ألوان الشهوات الظاهرة؛ وما علم أن الشهوات الباطنة قد تكون أعظم وأشد من الشهوات الظاهرة، الإنسان أليس ينفق المال من أجل تحصيل المحامد، أليس الرجل قد يقدم في نحر العدو في شجاعة متناهية من أجل أن يقال شجاع، فيبذل نفسه من أجل قيلهم هذا، هذه أغلى ما يملكه الإنسان، النفس والمال.
لولا المشقة ساد الناس كلهم **** الجود يفقر والإقدام قتال
فيبذل الإنسان هذه الأمور التي هي أغلى ما يملك من أجل تحصيل شيء من حظوظ النفس الخفية، طلب المحمدة والسمعة، والرياء ، فليس الهالك هو ذلك الإنسان الذي يتبع ما يمليه عليه هواه من ألوان الشهوات من الفجور والمعاصي ومعاقرة الفواحش وما أشبه ذلك فحسب بل إن الهلكة تقع أيضاً في تلك النية المختلة الفاسدة التي لربما كان صاحبها يفطم نفسه عن ألوان المتع من النزه وأكل الطيبات والراحة والنوم والتمتع بألوان المتاع وهو يعمل ويكدح ويواصل الليل والنهار لكن ليس له في هذا نية، وقد ينتفع كثير من الناس ولكنه كالشمعة أو السراج الذي يضيء للآخرين ويحرق نفسه.
النظر الثاني هو أثناء العمل: يحتاج الإنسان إلى مراقبة لله عز وجل وهو يعمل، ونحن نصلي نراقب الله عز وجل في صلاتنا في ركوعنا وسجودنا وما نقوله فينا في صيامنا نراقب الله عز وجل لا نتكلم بكلام ينافي الصوم ولا نفعل فعلاً يخدشه، ونحن حينما نقوم بعمل من الأعمال الدعوية أو غير الأعمال الدعوية مما يحبه الله عز وجل ويرضاه أثناء العمل نصحح النية ونتابع فإن القلب كثير التقلب ولذلك قيل له الفؤاد والله أعلم لكثرة تفؤده وتوقده بالخواطر والأفكار والإرادات، يبدأ الإنسان بنية صحيحة ثم تجد قلبه يتقلب عليه، فيحتاج إلى ملاحظة دائمة أثناء العمل.
الذي يتكلم يلاحظ نفسه عند الكلام، والذي يعمل يلاحظ نفسه عند العمل، والذي يكون حتى في أعماله المباحة يلاحظ ويراقب نفسه عند القيام بهذا العمل المباح.
فالعبد أيها الأحبة إذا كان في طاعة يتفقد عمله هل جاء بأركانه وشروطه وواجباته وما أشبه ذلك.
إذا كان في معصية ينزجر وينكف ويتذكر نظر الله عز وجل إليه.
وإذا كان الإنسان في أمر مباح فإنه يشكر الله عز وجل على هذه النعم التي أولاه إياها، إذا كان يأكل يتفكر في هذا الطعام الذي يأكله كيف وصل إليه وكيف حرمه كثير من الناس وما يشتمل عليه هذا الطعام من ألوان العبر التي إذا نظر إليها الإنسان أحيت قلبه، هذا نظر أثناء العمل.
وهكذا أيضاً يتفقد الإنسان أوقاته؛ لأن الإنسان في هذه الحياة مبحر مسافر، كيف يقضيها، هذا اليوم منذ أن أشرقت شمسه ما هي المغانم والمكاسب التي حصلها فيه، في أربع وعشرين ساعة كان يمكن أن يقرأ ثمانية وأربعين جزءاً؛ فماذا قرأ، في هذه الأوقات كم يمكنه أن يصلي فيها من ركعة لله عز وجل، كم يمكنه أن يقرأ من صفحة في علم نافع، كم يمكنه أن يسبح من تسبيحة وأن يستغفر، فيفكر في هذه الأوقات التي تصرمت، منذ الليلة الماضية مثل هذا الوقت إلى الآن ما هي مكاسبنا؟، ماذا عملنا؟، هذه الإجازة قد انتصفت، ما الذي خرجنا به؟، ما هي الأعمال التي قمنا بها؟، الإنجازات التي حققناها كم تكافئ من أيام هذه الإجازة التي قد تصرمت؟، وهكذا أيها الأحبة يتفقد الإنسان دائماً نفسه وينظر في حاله وفي تقصيره وفي عمله حتى يلقى الله عز وجل وهو على يقظة دون أن يكون غافلاً فيخترمه الموت ثم بعد ذلك يندم ولا ينفعه الندم.
الأعمال التي يزاولها هل هذا هو الأفضل والعمر قصير أو أن هناك أعمالاً أفضل من هذه يمكن أن يتجر بها ويربح في تجارته مع الله جل جلاله.
وهكذا أيها الأحبة في كل شأن من شؤوننا، في الكلام؛ المجالس لربما كان الإنسان واعظاً، أو داعية، أو خطيباً، ويعلم الناس، ويبين لهم الأشياء التي يحتاجون إليها، يبين لهم حكم الغيبة، وإذا جلس في المجالس ينطلق لسانه في أعراض المسلمين، من غير أن يرعوي، ينبغي للإنسان أن ينظر في عمله فعلاً ولا يغتر ولا يظن أنه يمكن أن يجتاز الصراط بظاهر من التدين والله عز وجل يعلم حاله وما ينطوي عليه سره وقلبه وخبيئته.
هذه الأشياء الجميع يحتاج أن يراجع فيها نفسه، ولا يخلو أحد فمقل أو مستكثر، وقد قال بعضهم: "عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قبل أن أقدر منه على ما أريد"، وكان هذا الرجل لا يدع أحداً يغتاب أحداً في مجلسه، ويقول لجلسائه: "إن ذكرتم الله أعناكم وإن ذكرتم الناس تركناكم"، من منا يفعل هذا، إذا أراد أحداً أن يغتاب الناس قال له سبح، اذكر الله عز وجل، ولو كان هذا المغتاب من الصالحين من الخيرين، فإن حدود الله عز وجل لا يحابى بها أحد، فينبغي على الجميع أن يلتزم أمر الله تبارك وتعالى ويجتنب نهيه، وليس صلاح الإنسان في الظاهر، أو جهوده التي يبذلها في سبيل الله تبارك وتعالى تكون مسوغاً وسبباً لأن يفعل ما يريد.
خامساً: كيف نصل إلى المراقبة.
ما الطريق إليها؟
أقول: أول ذلك أيها الأحبة وهو من أعظمه أن نستحضر معاني الأسماء الحسنى التي تؤثر في هذا المقام والله تبارك وتعالى علمنا في هذا القرآن جملة طيبة كثيرة من أسمائه جل جلاله، وإنما ذلك من أجل أن نتعبده بهذه الأسماء.
فمن أسمائه التي تتعلق بهذا المعنى: الرقيب، وكذلك الحفيظ، والعليم، والخبير، والشهيد، والمحيط، واللطيف، إلى غير ذلك من الأسماء التي إذا أدرك العبد معناها وتعبد ربه بمقتضاها فإن ذلك يؤدي به إلى تحصيل مقام المراقبة.
فالرقيب هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، الحفيظ الذي لا يغفل، العليم الذي لا يعزب عنه مثقال شيء من أحوال خلقه، يرى أحوال العباد ويحصي أعمالهم، ويحيط بمكنونات سرائرهم فهو مطلع على الضمائر، شاهد على السرائر، يعلم ويرى ولا يخفى عليه السر والنجوى {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا} .
رقيب على كل الوجود مهيمن *** على الفلك الدوار نجماً وكوكبا
رقيب على كل النفوس وإن تلذ *** بصمت ولم تجهر بسر تغيبا
رقيب تعالى مالك الملك مبصر *** به كل شيء ظاهر أو محجبا
والمراقبة هي ثمرة علمه بأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله مطلع على عمله في كل وقت وحين، وفي كل نفس وفي كل طرفة عين، فإذا أرادت عينه أن تمتد إلى النظر إلى ما حرم الله عز وجل لامرأة يشاهدها ويراها في الطريق أو في الأسواق أو كان ذلك في شاشة فإنه يدرك ويعلم أن نظر الله إليه أسبق من نظره إليها فيخاف وينزجر وينكف، عن هذا النظر، وكان الإمام أحمد رحمه الله كثيراً ما يردد:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا أن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفي عليه يغيب
لهونا عن الأيام حتى تتابعت *** ذنوب على آثارهن ذنوب
فياليت أن الله يغفر ما مضى **** ويأذن في توباتنا فنتوب
قال رجل لوهيب بن الورد رحمه الله: "عظني؟"، قال: "اتق أن يكون الله أهون الناظرين إليك".
وهذا للأسف قد نقع فيه، وإذا تتابعت الغفلة على قلب الإنسان فإنه قد يستحي من مخلوق ضعيف ولربما كان صبياً صغيراً أن يفعل ما لا يليق بحضرته ولكنه يفعل العظائم والله تبارك وتعالى يراه ويطلع عليه وينظر إليه.
ومن أسمائه تبارك وتعالى: الشهيد، وهو مشتق من الشهود بمعنى الحضور، وذلك يستلزم العلم.
فالله مطلع على كل الأشياء يسمع جميع الأصوات، خفيها وجليها، ويبصر جميع المبصرات دقيقها وجليلها صغيرها وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء، فهو شهيد أيضاً، يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد من أفعالهم {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ} ، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} ، {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} .
والفرق بين الرقيب والشهيد: أن الرقيب فيه زيادة حفظ، فالشهيد مطلع شاهد ينظر إليه، وأما الرقيب فهو مطلع عليه يحفظ عمله الذي يزاوله ويعمله؛ فالله تبارك وتعالى رقيب شهيد، وهو كذلك أيضاً حفيظ.
والحفيظ له معنيان:
الأول: أنه حفظ أعمال العباد فلم يذهب شيء منها، كل ما يقوله الإنسان وكل ما يعمله محفوظ، سواء كان ذلك من قبيل الخير أو الشر، وهذا المعنى من حفظه تبارك وتعالى يقتضي إحاطة علمه بكل المخلوقات، وأنه كتب ذلك تبارك وتعالى في اللوح المحفوظ وفي الصحف التي بأيدي الملائكة، وعلم بمقادير هذه الأعمال والأشياء، فلم يفت عليه شيء من ذلك.
المعنى الثاني من معاني الحفيظ: أنه يحفظ عباده مما يكرهون، {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} .
يقول ابن القيم رحمه الله في الجمع بين هذين المعنيين:
وهو الحفيظ عليهم وهو الكفيل *** بحفظهم من كل أمر عاني
حفيظ عليهم: يحفظ أعمالهم، وهو الكفيل بحفظهم: يحفظهم من المكاره.
جل الحفيظ فلولا لطف قدرته *** ضاع الوجود وضل النجم والفلك
حتى القطيرةَ من ماء إذا نزلت *** من السحب لها في حفظها ملك
{إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} ، فمن علم أن ربه حفيظ؛ حفظ جوارحه وقلبه من كل ما لا يليق.
والعلم الحديث أيها الأحبة أثبت أنه يمكن استرجاع ما يصدر من الإنسان من الأصوات، يقولون إن كلام الإنسان يتحول إلى موجات هوائية وأن هذه الموجات تبقى كما هي في الأثير بعد حدوثه ومن الممكن أن تسترجع وأن تسمع مرة أخرى، يقول لكنا علومنا قاصرة لم تصل إلى هذا بعد، يقولون لو استطاع العلم أن يكتشف جهازاً يستطيع أن يلتقط هذه الأصوات التي قالها القائلون منذ أن خلق الله عز وجل آدم -صلى الله عليه وسلم- فإن ذلك من الناحية العلمية ممكن لكن يقولون لم نصل إليه بعد، ونحن نعلم يقيناً أن الله تبارك وتعالى قد أحاط بذلك كله وأن الله قادر على أن يسمع الناس كلامهم، وهو قادر تبارك وتعالى على أن يعيد لهم الصورة من جديد في العمل الذي يزاولونه، الله على كل شيء قدير، ولهذا فإن الله ينطق الجوارح وينطق الأرض، الأرض تحدث أخبارها، والجوارح تتكلم بما عمله الإنسان فيها.
ومن أسمائه تبارك وتعالى: المحيط. فالله رقيب، شهيد، حفيظ، محيط، وهذه الأسماء: الرقيب والشهيد والمحيط والحفيظ تشترك في صفة العلم، لكن الرقيب يفيد مع العلم الحفظ، والشهيد يفيد مع العلم الحضور، والمحيط يفيد مع العلم الشمول والإحاطة والقدرة.
ومن أسمائه تبارك وتعالى أيضاً: العليم.
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} ، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} .
والرب فوق العرش والكرسي *** لا يخفى عليه خواطر الإنسان
فمن علم أن الله تبارك وتعالى عالم بكل شيء، حتى بخطرات الضمائر ووساوس الخاطر فعليه أن يراقبه وأن يستحي منه وأن يكف عما لا يليق ولا يغتر بجميل ستره تبارك وتعالى وإنما يخشى بغتات قهره ومفاجآت مكره، قال الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ} ، {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .
كل معلوم ففي علمك كان *** أنت محصيه زماناً ومكاناً
أنت سبحانك أدرى بالذي *** فيه ذرات نقاط وكياناً
أنت محصيها وهاديها إلى *** نشوة تسبيح قلباً ولساناً
إحاطة بجميع الغيب عن قدر *** أحصى بها كل موجود ومفتقد
وكلهم باضطرار الفقر معترف *** إلى فضائله في كل معتمد
العالم الشيءَ في تصريف حالته *** ما عاد منه وما يمض فلم يعد
ويعلم السر من نجوى القلوب وما *** يخفى عليه خفي جال في خلد
يقول سفيان الثوري رحمه الله: "عليك بالمراقبة مما لا تخفى عليه خافية، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء".
ومن أسمائه تبارك وتعالى: الخبير.
وهو الذي يعلم بواطن وخفايا الأشياء، والارتباط بين العليم والخبير والشهيد لا يخفى؛ فإذا اعتبرنا العلم مطلقاً فهو العليم، وإذا أضيف إلى الغيب والأمور الباطنة فهو الخبير، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد.
ومن أسمائه تبارك وتعالى: السميع والبصير.
يسمع الأصوات ويرى المبصرات، يسمع السر والنجوى، ويبصر ما تحت الثرى.
ومن أسمائه: المهيمن.
وهو الرقيب الحافظ لكل شيء، الخاضع لسلطانه كل شيء، فهو القائم على خلقه، الشهيد عليهم، {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} .
ما شاء كان وما في الكون خافية *** تخفى على علمه بدأً ومنقلباً
إنا إليه أنبنا خاشعين له *** وجاعلين له من ذكره سبباً
فلا شيء في ملكه طوع إرادته *** بمستطيع خروجاً أينما ذهباً
جل الميهمن رباً لا شريك له *** وجل إن لم يهب شيئاً وإن وهباً
ومن أسمائه تبارك وتعالى: القريب.
{إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} ، وقربه سبحانه وتعالى نوعان: قرب عام، وهو إحاطة علمه بجميع الأشياء، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.
والقرب الآخر قرب خاص بالداعين والعابدين {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} .
يقول عامر بن عبد القيس رحمه الله: "ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله تعالى أقرب إليه مني".
وسئل بعضهم عن المراقبة، فقال: "أولها علم القلب بقرب الله تعالى من العبد".
هذا السبب الأول الموصل إلى مقام المراقبة؛ أن نعرف معاني هذه الأسماء، وأن نتعبد الله تبارك وتعالى بمقتضاها.
السبب الثاني الذي يوصل إليها: هو أن نحقق مرتبة الإحسان.
أن نعبد الله عز وجل كأننا نراه، وإنما ينشأ ذلك من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته حتى يصير العبدُ بمنزلة كأنه يرى ربه تبارك وتعالى فوق سماواته مستوياً على عرشه، يتكلم بأمره ونهيه ويدبر أمر الخليقة، فينزل الأمر من عنده ويصعد إليه وتعرض أعمال العباد وأرواحهم عند الموافاة عليه كما يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله.
الثالث من هذه الأسباب: هو كثرة ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان.
وقد ذكر الحافظ ابن القيم في الوابل الصيب للذكر أكثر من مائة فائدة، وذكر العاشرة منها وهو أنه يورثه المراقبة حتى يدخله في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى سبيل الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت الحرام، وأفضل الذكر كما هو معلوم ما تواطأ عليه القلب واللسان، ولو أردنا أن نوازن بين ذكر القلب وذكر اللسان، فلا شك أن ذكر القلب أفضل من ذكر اللسان بمجرده، لأن الإنسان قد يلهج بلسانه وقلبه في غاية الغفلة، فذكر القلب يثمر المعرفة، ويُهيج المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة.
الأمر الرابع من الأمور التي توصل إلى مقام المراقبة: أن يحاسب الإنسان نفسه دائماً.
أن يلاحظ الأنفاس والخطرات، فلا يكون العبد من الغافلين.
جاء عن بلال بن سعد رحمه الله أنه قال: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت".
قال ابن المبارك لرجل: "راقب الله تعالى"، فسأله الرجل عن تفسير ذلك فقال: "كن أبداً كأنك ترى الله".
وقال بعضهم: "إنما هي أرباح عيناك ولسانك وهواك وقلبك، فانظر عينيك لا تنظر بهما إلى ما لا يحل لك، وانظر لسانك، لا تقل به شيئاً يعلم الله خلافه من قلبك، وانظر قلبك لا يكن فيه غل ولا دغل على أحد من المسلمين، وانظر هواك لا تهوى شيئاً يكرهه الله عز وجل، فما لا تكن فيك هذه الأربع فالرماد على رأسك".
وقال آخر: "تعاهد نفسك في ثلاث مواضع، إذا عملت فاذكر نظر الله عليك، وإذا تكلمت فانظر سمع الله منك، وإذا سكت فانظر علم الله فيك".
وفؤادي كلما عاتبته *** في مدى الإجرام يبغي تعبي
لا أراه الدهر إلا *** لاهياً في تماديه فقد برح بي
يا قرين السوء ما هذا الصبا *** فني العمر كذا في اللعب
نفسي ما كنت ولا كان الهوى *** راقبي الله وخافي وارهبي
كان لبعض الأمراء وزير وكان هذا الوزير جالساً بين يديه وعند هذا الأمير بعض الغلمان وقوف بجانبه في ناحية من المجلس فلاحت من هذا الوزير نظرة إلى هؤلاء الغلمان لشيء عرض، ثم التفت إلى الأمير وإذا الأمير ينظر إليه، فخشي أن يظن الأمير أن الوزير ينظر إلى هؤلاء الغلمان الحسان لريبة، فما الذي حصل من هذا الوزير أيها الأحبة، جعل كلما حضر إلى مجلس هذا الأمير ينظر إلى تلك الناحية، ليوهم هذا الأمير، أنه إنما ينظر إليها لحول أو علة في خلقته، هذه في مراقبة مخلوق لمخلوق، أراد أن يمحو الصورة التي لربما وقعت في نظر أو في نفس هذا الأمير اتجاه هذا الوزير ليقول له لم أكن في ذلك اليوم أو في ذلك العام أنظر إليهم لريبة وإنما أنا هكذا أنظر إلى هذه الناحية خلقة، نظر مخلوق إلى مخلوق، فأين النظر إلى الله، أين مراقبة المعبود جل جلاله.
كأن رقيباً منك يرعى خواطري *** وآخر يرعى مهجتي ولسانيا
وقد كان لأحد الشيوخ تلامذة وكان يقدم ويفضل أحدهم وهم لا يدرون ما سبب ذلك، فتساءلوا عن سبب إيثاره وتفضيله لهذا التلميذ، فخرج معهم يوماً، ثم أعطى كل واحد منهم طائراً، وقال: ليعمد كل واحد منك بهذا الطائر إلى حيث لا يراه أحد، ثم يذبح هذا الطائر ويأتي، فذهبوا جميعاً وكل واحد ذهب إلى ناحية وذبح الطائر الذي معه وجاء، فجاء هذا التلميذ الذي كان يؤثره هذا الشيخ ومعه هذا الطائر لم يذبح، فقال له: "لِمَ لمْ تذبحه؟"، فقال: "قلت: حيث لا يراك أحد، فلم أجد مكاناً لا يراني الله عز وجل فيه"، فقال لهم: "لأجل هذا كنت أؤثره عليكم".
وكان لبعض الملوك مملوك وعبد يؤثره على غيره من خدمه ومماليكه، فكأن نفوسهم قد تحركت نحوه، وتساءلوا عن سبب هذا التفضيل، فبينما هو في سفر ومعه هؤلاء المماليك والخدم إذ لاحت من هذا الملك نظرة إلى جبل في قمته ثلج، فركب ذلك المملوك على فرسه وركضه حتى انطلق دون أن يشعر به أحد إلى ذلك الجبل وأحضر من ذلك الثلج وجاء به إلى هذا الملك ووضعه بين يده، فسأهله هذا الملك: "كيف عرفت أني أرغب هذا الثلج؟"، فقال: "رأيتك نظرت إليه"، فهو يلاحظ نظرات هذا الملك، فقال الملك لجلسائه وخدمه ومماليكه: "من أجل هذا كنت أؤثره، إنكم تلاحظون مطلوبات نفوسكم وهو يلاحظ نظراتي وخطراتي".
مخلوق ينظر إلى مخلوق آخر ينظر إليه، إذا حرك عينه اتجاه شيء قفز، وجاء به إليه، فأين نحن أيها الأحبة في معاملتنا مع الله تبارك تعالى، نعصي، ونقصر، وأحياناً ننقر الصلاة نقراً، ويصلي الإنسان بتثاقل، أين المحبة؟، وأين المراقبة؟، وأين التعبد لله عز وجل بمقتضى هذه الأسماء التي ذكرناها؟
يقول سفيان الثوري رحمه الله: "لو كان معكم من يرفع حديثكم إلى السلطان، أكنتم تتكلمون بشيء؟"، قالوا: "لا"، قال: "فإن معكم من يرفع الحديث".
وجاء عن آخر قال: "لو أن صاحب قدر جلس إليك، لكنت تتحرز منه، وكلامك يعرض على الله فلا تتحرز".
فالنفس أيها الأحبة تحتاج إلى محاسبة، وملاحظة، أن نحاسبها أعظم من محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، فإذا أصبح الإنسان قال لنفسه: يا نفس؛ هذا يوم جديد قد أمهلك الله عز وجل، فلو أن نفس الإنسان خرجت، لتمنى ساعة أو لحظة، يسبح فيها تسبيحة، هذا يوم جديد، وإمهال جديد، فينبغي أن يُشْغَلَ بما يرضي الله تبارك وتعالى، لا أن يستزيد الإنسان من الغفلة، والإعراض، والتمادي في مساخط الله عز وجل حتى يفاجئه الموت.
سادساً: ما هي الثمرات والنتائج الطيبة التي تحصل لمن ربى نفسه على المراقبة واتصف بهذه الصفة، وبلغ هذه المراتب العظيمة.
أقول أول ذلك التأدب مع الله عز وجل، فهو يدرك أن الله يسمعه وأن الله يبصره، صفة الإنسان إذا جلس أمام الناس أيها الأحبة لربما راقبهم في كل حركة وفي كل سكناتهم، لو كان الإنسان يتصرف بتصرفات أيها الأحبة لا تليق، ثم اكتشف أن في هذا المكان كمرة، ما الذي يحصل؟، ولو كان هذا الإنسان يفعل بعض الأمور المباحة، لكنه لا يفعلها أمام الناس، ما الذي يحصل؟، لو كان هذا الإنسان يتكلم بكلام محرم لا يليق، مع امرأة لا تحل له، بفحش، ثم اكتشف أن هذا الكلام جميعاً يسجل ويسمع، ما الذي يحصل له؟، لو كان هذا الإنسان يجلس في غرفة، ويوجد فيها ما ينقل الصوت إلى مكان آخر وفي المكان الآخر أهله وقراباته ونحو ذلك وهو يتكلم مع زوجته، بكلام مباح، لا يقوله أمام الناس، كيف تكون حاله؟، فكيف بمن يتكلم بما لا يليق مما حرمه الله عز وجل والله يسمعه فلا يتأدب مع الله جل جلاله؟
الأدب مع الله عز وجل بأن نصون المعاملة معه فلا نشوبها بنقيصة، إذا صلى الإنسان يصلي صلاة لائقة أن يصون قلبه فلا يكون فيه التفات ولا تعلق بغير الله عز وجل، أولئك الذين يتعلقون بنظر المخلوقين وبثناء المخلوقين وإبراء المخلوقين؛ ماذا قالوا عن الحقل الفلاني وماذا قالوا عن المناسبة الفلانية وماذا قالوا عن الكلمة الفلانية وماذا قالوا، قلبه يعذب ويتشتت، وهكذا أيها الأحبة، أولئك الذي يتعلقون بالصور وأصحاب الصور، امرأة تتعلق بفتاة أو شاب يتعلق بمثله أو يتعلق بامرأة أو نحو ذلك، ولربما قال أحدهم لصاحبه كما ذكر بعضهم يسأل عن هذا: "أتمنى لو أني أحب الرسول صلى الله عليه وسلم كما أحبك"!!!، إلى هذا الحد، فهذه محبة مرضية قد يظن صاحبها أنها محبة لله وفي الله، هكذا أيضاً أن يلاحظ الإنسان إرادته فلا تتعلق إرادته بشيء لا يريده الله ولا يحبه ولا يرضاه منه فإذا وُجِدَت المراقبة أيها الأحبة فإن العبد تصلح أحواله في ظاهره وباطنه.
وقد قيل: أسرع الأشياء عظة للقلب وانكساراً له ذكر اطلاع الله بالتعظيم له، والمقصود أيها الأحبة أن المراقبة توجب صيانة الظاهر والباطن، فصيانة الظاهر بحفظ الحركات الظاهرة، وصيانة الباطن تكون بحفظ الخواطر والإرادات والحركات الباطنة، ومن الحركات الباطنة أيها الأحبة ضبط معرضة أمره وخبره، فيجرد الإنسان باطنه من كل شهوة وإرادة تعارض أمره، هذه مراتب عالية، أحياناً الإنسان في داخل نفسه قد يكره حكم الله عز وجل وتنفر نفسه منه وقد يتمنى في نفسه لو أن الله أباح له ذلك الأمر المحرم، أو أن الله يسر له ذلك ولربما كان في قلبه اعتراض على أقدار الله عز وجل، لماذا أنا فقير؟، لماذا أعمل دائماً وأكدح ولا أخرج بكبير طائل وفلان وفلان بعمل يسير يصلون إلى الأموال الطائلة والتجارات الكبيرة؟، هذا اعتراض على قدر الله عز وجل، فالله أعطى، أغنى وأقنى عن علم وبصر بالعباد لا يخفى عليه من شأنهم خافية.
وقد يصاب الإنسان ببلية بمكروه بمرض، فيعترض على الله تبارك وتعالى في نفسه، فيقول: أنا دائماً مبتلى، لماذا يحصل لي هذا الحادث الشنيع؟، وبهذه الطريقة؟، وتحصل لي هذه الكارثة، يحصل لي هذا البلاء وأناس فجرة لا يرعوون من معصية الله عز وجل يتقلبون بألوان العافية ونحن نتقلب في ألوان البلاء؟... هذا ما عرف الله عز وجل، ما عرف الله، لو عرف الله لعرف أن أهل البلاء هم أهل القرب من الله تبارك وتعالى، وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، وقد يعترض الإنسان على الله تبارك وتعالى فيما شرعه فيقول له اختيار مع الله وتقدم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيعارض النصوص برأيه وبعقله وهواه، ويرد الآيات والأحاديث بهذا العقل الفاسد، ولربما حمل النصوص على المحامل الصعبة والتأويلات البعيدة من أجل أن يوافق هواه أو من أجل أن يوافق هوى الآخرين.
فالإنسان إذا راقب الله عز وجل تأدب معه الأدب اللائق فاستقام ظاهره واستقام باطنه ولم توجد في قلبه محبة تزاحم محبةَ الله عز وجل ولا في قلبه شبهة تعارض خبره، وقد قيل: "من راقب الله في خواطره عصمه الله في حركات جوارحه".
ولما سئل بعضهم: "بما يستعين الرجل على غض بصره عن المحظورات؟"، قال: "بعلمه أن رؤية الله تعالى سابقة على نظره إلى ذلك المحظور".
كتب أحد الأشخاص رسالة طويلة يقول فيها: بأنه من المربين، وأنه قد ألقى درساً متكاملاً عن غض البصر، وذكر لي في هذه الرسالة جملة كثيرة من الكتب التي تحدثت عن غض البصر، المراجع، وقال: أعرف ذلك جميعاً، ومع ذلك أنظر يقول: باستمرار إلى الحرام ولا أستطيع أن أسيطر على نفسي، هذا الإنسان لو وصل إلى مقام المراقبة فعلاً لتغيرت الحال، لكن المشكلة التي نحتاج أولاً أن نعرفها أيها الأحبة؛ أننا نعرف كثيراً من المعلومات نسمع وقد نتكلم ولكن دون أن يكون ذلك متغلغلاً في قلوبنا وأعماقنا، وكأننا نتحدث أيها الأحبة أو نسمع أشياء ونحن لا نقتنع بها، ولذلك الناس كم يسمعون من خطبة في العام، ما يقرب من خمسين خطبة، أين أثر هذه الخطب عليهم، يسمعون عن أكل الحرام، يسمعون عن آفات اللسان، يسمعون عن النظر إلى الحرام، يسمعون عن كل هذه القضايا فينظر الإنسان في حاله وفي نفسه، الخطيب والمستمع حينما يخرج من المسجد هل خرج بحال جديدة؟، هل تغيرت حاله؟، هل خرج بعمل جديد؟، فنحن لا نعرف في كثير من الأحيان حقيقة ما يخالج نفوسنا من العلل، نحن نستطيع أن نوصف علل الآخرين، ولربما لو قلت لهذا الإنسان ونصحته وذكرته بالله بأنه يعاني من كذا وكذا وكذا لربما انقبض منك ونفر ويرى أنك قد جرحته وآذيته، هل هذا الإنسان عنده إرادة صادقة فعلاً بإصلاح النفس.
مراقبة الله تعالى في الخواطر أيها الأحبة سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته، إذا تحققت المراقبة في الناس أيها الأحبة فإن ذلك يكون زاجراً ورادعاً يحمل النفوس على ما يجمل ويحسن ويليق، وذلك لا يمكن أن يقارن بحال من الأحوال بحال المخلوقين حينما يلاحظون الرقيب من الخلق، الناس الذين يحترمون النظام، الناس الذي يتركون الجريمة خوفاً من العقوبة ولكنهم إذا تمكنوا تحولت حالهم إلى شيء آخر، هؤلاء أين هم ممن يراقب الله عز وجل وهو يعلم أنه إذا أخذ هذا الطمع اليوم سيدفع الثمن غالياً من حسناته، ولذلك فإنك تجد هذا الإنسان لو كان بيديه كنوز الدنيا ما مد يده عليها، وآخر كلما لاح إليه شيء واستطاع أن يأخذه أخذه ولو من المسجد، لماذا أيها الأحبة؟، هذا راقب الله؛ وهذا لم يراقبه ، هذا يعلم أنه سيحاسب وأن الله يرى ذلك وأن هذه المكاسب المحرمة أحياناً بالملايين.
وقد يعرض على هذا الإنسان إغراءات لرشى لربما تصل إلى الملايين وهو لربما لا يجاوز راتبه عشرة آلاف، ملايين في صفقة واحدة، برشوة، ومع ذلك يترك هذا لله عز وجل، لكن إذا كان لا يعرف ربه والحلال ما حل باليد، مثل هذا الإنسان سيقول هذه فرصة لا تعوض، ويتهم من ترك ذلك لله تبارك وتعالى بالغفلة والضعف والعجز وقلة العقل والقصور في النظر، حينما انطفأ الكهرباء في ليلة واحدة في نيويورك ماذا حصل؟، قبل سنين وكتبت عن ذلك الصحف، ألوان الجرائم من السرقات والاغتصاب، أشياء هائلة، أرقام فلكية، فقط ليلة واحدة ساعات انطفأ فيها الكهرباء تهافت الناس على المتاجر وعلى البيوت ينهبون ويسرقون، لأنهم علموا أن النظام لا يراقبهم، ولا يطلع على أفعالهم هذه، فحارس القانون أيها الأحبة قد يغيب وقوة الخلق قد تزول أو تضعف والحارس قد يغفل والقانون قد يؤول وقد يتحايل الناس عليه فيفعلون ما يريدون، لكن إذا ربينا الناس على مراقبة الله عز وجل فإنهم يكونون في مأمن بإذن الله تبارك وتعالى، مهما لاحت لهم الإغراءات والمطامع.
أولادنا أيها الأحبة؛ بل نحن قبلهم، أمام هذه الشهوات العارمة والفتن العظيمة إذا غاب الإنسان، هذا الولد إذا ربي على مراقبة الله عز وجل حينما يجلس منفرداً وأمامه الجهاز الذي لربما يعرض أكثر من ثلاثمائة قناة، وفي بعض تلك القنوات قد يشاهد كل شيء، إذا ربي على المراقبة فإنه يكون في مأمن، لا ينظر إلى شيء لا يحبه الله عز وجل ولا يرضاه، لكن إذا كان هذا الولد إنما يترك هذه الأشياء خوفاً من نظر أبيه فإذا خلا بمحارم الله عز وجل فلا تسأل، يثري ثرياً.
ولذلك أقول أيها الأحبة، الأب قد يموت، قد يغيب، قد يعجز، قد يضعف، قد يشيب، ثم بعد ذلك قد يسرح هؤلاء الأولاد في أودية الهلكة ويرتعون من هذه الشهوات، في هذه الشهوات، فنحتاج دائماً إلى أن نربي هذه المراقبة في نفوسهم من أجل أن نحافظ على إيمانهم وعلى حالهم مع الله عز وجل أن تكون على استقامة، ولا يخفى أيضاً أيها الأحبة ما بين الظاهر والباطن من الملازمة، استقامة الباطن إذا وجد الخوف من الله عز وجل واليقين بأن الله يرانا يستقيم الظاهر، فالظاهر أثر من آثار استقامة الباطن، كما أن استقامة الظاهر لا شك أنها تؤثر في استقامة الباطن.
وقد جاء عن المعتمن بن سليمان رحمه الله أنه قال: "إن الرجل يصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته"، مهما حاول الإنسان أن يتصنع أمام الآخرين، لا تحاول أن تذكر أعمالك عند الناس، لا تحاول أن تفهم هؤلاء الناس أنك تتصدق، أو أنك تقوم على مشاريع خيرية، لا تحاول أن تفهم هؤلاء الآخرين أن لك مساهمات دعوية أو أنك تكفل الأيتام، والأرامل، وما أشيه هذا، لا تحاول هذا، الذي تعمل من أجله يعلم بذلك وكفى، الناس مهما حاولت أن تتزين أمامهم فإن قلوبهم ترفض هذا الإنسان، إذا لم يكن له خبيئة من صدق وإخلاص مع الله تبارك وتعالى.
وقد قال أبو حازم رحمه الله: "لا يحسن عبد فيما بينه وبين الله عز وجل إلا أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ولا يعور - أي يفسد - فيما بينه وبين الله عز وجل إلا عور فيما بينه وبين العباد، ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها، إنك إذا صانعت الله مالت الوجوه كلها إليك، وإذا أفسدت ما بينك وبين الله شنأتك الوجوه كلها".
يقول ابن الجوزي رحمه الله في هذا المعنى يقول: "نظرت في الأدلة على الحق فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من أعجبها أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله عز وجل فيظهره الله تعالى عليه ولو بعد حين وينطق الألسنة به وإن لم يشاهده الناس، وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك ليعلم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل ولا ينفع من قدره وقدرته احتجاب ولا استتار ولا يباع لديه عمل"، يقول: "وكذلك يخفي الإنسان الطاعة فتظهر عليه ويتحدث الناس بها وبأكثر منها حتى أنهم لا يعرفون له ذنباً ولا يذكرونه إلا بالمحاسن ليعلم أن هنالك رباً لا يضيع عمل عامل"، يقول: "وإن قلوب الناس لتعرف حال الشخص وتحبه أو تأباه وتذمه أو تمدحه وفق ما تحقق بينه وبين الله تعالى فإنه يكفيه كل هم ويدفع عنه كل شر وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر إلى الحق إلا انعكس مقصوده وعاد حامده ذاماً"، ولهذا كان يقول في كتاب (اللطف في الوعظ): "إذا لم تخلص فلا تتعب لو قطعت سائر المنازل - يعني منازل الحج - لم تكن حاجاً إلا ببلوغ الموقف - يعني عرفة".
فأقول أيها الأحبة: كثير من الناس يحاول أن يظهر أمام المجتمع أمام الآخرين يطلب الشرف والمحمدة وأن يصدق في المجالس ولا يزيده ذلك من الله إلا بعداً وقلوب الخلق ترفضه، والخلوة لها تأثيرات تظهر في الجلوة، كم من مؤمن يحترم الله عز وجل في خلواته فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه أو رجاءً لثوابه أو إجلالاً له فيكون بذلك الفعل طرح عوداً هندياً على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو.
أيها الأحبة، يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر".
الثاني من أثارها وثمراتها: دخول الجنة.
وقد سئل بعضهم: "بما ينال العبد الجنة؟"، فقال: "بخمس: استقامة ليس فيها روغان، واجتهاد ليس معه سهو، ومراقبة لله تعالى في السر والعلانية، وانتظار الموت بالتأهب له، ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب".
الثمرة الثالثة: السعادة والانشراح.
هذا الإنسان الذي يراقب ربه تبارك وتعالى يكون قريباً منه، وإذا كان العبد قريباً من ربه فلا تسأل عن أنسه ولذته وسروره بمناجاة ربه تبارك وتعالى وبمعرفته، كما يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله: "إن في القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه فاقة لا يذهبها إلا صدق اللجأ إليه ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تذهب تلك الفاقة أبداً".
الثمرة الرابعة: السكينة والحياء والمحبة والخشوع والخوف والرجاء والتوكل، كلما اشتدت المراقبة أيها الأحبة المراقبة في قلب العبد أوجبت له من هذه المعاني الشيء الكثير، وذلك أن المراقبة هي أساس الأعمال القلبية وعمودها الذي قيامها به.
سئل بعضهم عن حاله في التوكل كيف حصلت هذه المرتبة؟، فقال: "على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا أستحي منه".
الخامس من ثوراتها: صحة الفراسة.
وقد قال بعضهم: "من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وكف نفسه عن الشهوات وغض بصره عن المحارم واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة".
السادس من ثمراتها: إثار ما أنزل الله وتعظيم ما حرم الله وتصغير ما صغر الله.
السابع: حفظ الأوقات فلا تضيع سدى.
فمن تحقق في المراقبة خاف على فوات لحظة من ربه تبارك وتعالى.
سابعاً: السلف والمراقبة.
أذكر بعض النماذج، هذا عروة ابن الزبير -رضي الله عنه- خطب ابنة عبد الله بن عمر سودة وعبد الله بن عمر يطوف بالكعبة في الحج فلم يرد عليه، فقال عروة: "لو كان يريد لأجابني"، والله لا أعود إليه - يعني في هذا الشأن - يقول: "فسبقني إلى المدينة، فلما أتيتها قدمت المسجد فإذا هو جالس فيه، فسلمت عليه"، فقال: "قد ذكرت سودة"، فقلت: "نعم"، فسأله عن رغبته، هل لا يزال يرغب فيها في الزواج منها، فقلت: "نعم"، فقال: "إنك قد ذكرتها لي وأنا أطوف بالبيت أتخايل الله عز وجل بين عيني، وكنتَ قادراً على أن تلقاني في غير ذلك الموطن"، لاحظ ما رد عليه، نحن نطوف ماذا نصنع أيها الأحبة، الجوال والنظر والالتفات ولربما صدر من بعض أيضاً الناس ما لايليق مما حرمه الله عز وجل ويستحي الإنسان من ذكره في هذا المسجد.
ومرَّ ابن عمر رضي الله عنه براع في القصة المعروفة فقال: "هل من جزرة؟"، فقال: "ليس ها هنا ربها"، فقال ابن عمر: "تقول له أكلها الذئب؟"، فرفع رأسه إلى السماء وقال: "فأين الله؟"، فقال ابن عمر: "أنا والله أحق أن أقول أين الله"، فاشترى الراعي والغنم وأعتقه ووهبه هذه الغنم.
هذا عبادة بن الصامت كان جالساً مع أصحابه -رضي الله عنه- فأقبل الصنابحي، فقال عبادة: "من سره أن ينظر إلى رجل كأنما رقي به فوق سبع سماوات فعلم على ما رأى فلينظر إلى هذا من شدة مراقبته وتأدبه وخوفه وتحرزه".
كان الإمام أحمد رحمه الله يئنُّ في مرض موته، ذكر له أن طاووس بن كيسان قال: يكتب الملك كل شيء حتى الأنين فلم يئن أحمد رحمه الله حتى مات، إلى هذا الحد مع أن الأنين ليس بمحرم.
وهذا ابن دقيق العيد أيها الأحبة، يقول: "ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلاً، إلا أعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل"، ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلاً؛ نعم كم مضى من أعمارنا؟، هل نحن كذلك؟، ولذلك أقول: نحن أيها الأحبة نحتاج إلى توبة، الداعية يحتاج إلى توبة، والعالم يحتاج إلى توبة، وطالب العلم يحتاج إلى توبة، والإنسان الذي يقول عن نفسه أو يقول عنه الآخرون بأنه ملتزم ومتدين يحتاج إلى توبة، من منا أيها الأحبة ما قال كلمة ولا فعل فعلاً إلا أعد له جواباً بين يدي الله تبارك وتعالى.
فنسأل الله أيها الأحبة أن ينفعنا بما نسمع وأن لا يجعل ذلك حجة علينا، كما نسأله تبارك وتعالى أن لا يمقتنا، نسأله تبارك وتعالى أن يتجاوز عنا وأن يعفو عنا وأن يجعل ما نقول عظة لنا وسبيلاً إلى صلاح قلوبنا وأحوالنا وأعمالنا، فنحن نستغفر الله عز وجل أيها الأحبة من كثرت ما نتكلم ومن كثرت ما نسمع على قلة العمل، فينبغي أن يكون لنا طريقة أخرى في حالنا مع الله تبارك وتعالى وفي النظر إلى أعمالنا، دعك مما يقوله الناس فإنهم ينظرون إلى ظاهرك والله عز وجل ناظر وعالم لباطنك.
هذا ختام ما أردت أن أذكره في هذا المجلس، وأسأل تبارك وتعالى أن يعينني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أسأل الله الإخلاص في الظاهر والباطن.
قام بتفريغها:
أحد طلبة العلم
يرجو الدعاء له ولوالديه
jouliana @jouliana
محررة ماسية
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
وكل عام وانتم الى الله اقرب