من أسرار القرآن
الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية
(114) إن الله لايسـتحيي أن يضـرب مثلا ما بعوضـة فما فوقـها..*
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
هذا النص القرآني جاء في العشر الأول من سورة البقرة, وهي سورة مدنية, وعدد آياتها(286) بعد البسملة, وهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي تلك المعجزة التي أجراها الله( سبحانه وتعالي) علي يدي نبيه موسي( عليه السلام) حين تعرض شخص من بني إسرائيل في زمانه للقتل, ولم يعرف قاتله, فأوحي الله( تعالي) إلي عبده موسي أن يأمر قومه بذبح بقرة, وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله, ويخبرهم عن قاتله, ثم يموت, إحقاقا للحق, وشهادة لله( سبحانه وتعالي) بالقدرة علي إحياء الموتي.
ومن مزايا سورة البقرة أن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) قال فيها:
* لاتجعلوا بيوتكم مقابر, وإن البيت الذي تقرأ البقرة فيه لايدخله الشيطان.
* من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه.
* يأتي القرآن, وأهله الذين يعملون به في الدنيا, تقدمه سورة البقرة, وآل عمران.. يأتيان كأنهما غيابتان وبينهما شرق, أو كأنهما غمامتان سوداوان, أو كأنهما ظلة من طير صواف تجادلان عن صاحبهما.
* اقرأوا سورة البقرة, فإن أخذها بركة, وتركها حسرة, ولا يستطيعها البطلة
ويدور المحور الرئيسي لسورة البقرة حول قضية التشريع الإسلامي في العبادات والأخلاق, والمعاملات, وإن لم تغفل قضية العقيدة الاسلامية لأنها صلب الدين, كذلك حددت السورة الكريمة صفات كل من المؤمنين والمنافقين والكافرين, وسجلت قصة خلق الإنسان بدءا بأبوينا آدم وحواء( عليهما من الله السلام).
وأشارت السورة إلي عدد من أنبياء الله ورسله منهم إبراهيم, وولده اسماعيل, وحفيده يعقوب, ومن نسله موسي, وداود, وسليمان, وعيسي ابن مريم علي نبينا وعليهم من الله السلام.
وبتفصيل بلغ أكثر من ثلث السورة تناولت سورة البقرة قضية أهل الكتاب, وموقفهم من الرسالة الخاتمة, ومن النبي والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم), وختمت بإقرار حقيقة الإيمان, وبدعاء يهز القلب والروح والوجدان, علي لسان العبد مناجيا ربه( سبحانه وتعالي) بما يجب أن يقول فيقول:
... ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته علي الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين*).
(البقرة:286).
ويمكن إيجاز أهم معطيات سورة البقرة فيما يلي:
صورة بالمجهر الالكترونى لبعوضة تخترق جلد انسان بمقدمات فمها لامتصاص دمه
أولا: من التشريعات الإسلامية في سورة البقرة:
(1) فصلت سورة البقرة أحكام الأسرة المسلمة من الخطبة إلي الزواج, والطلاق, والمتعة, والرضاعة, والعدة, وغيرها, وأمرت باعتزال النساء في المحيض, ونهت عن نكاح المشركات والمشركين حتي يؤمنوا.
(2) وعددت المحرمات من الطعام من مثل الميتة, والدم, ولحم الخنزير, وما أهل لغير الله به, فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه, كما حرمت كلا من الخمر والميسر.
(3) وشرعت سورة البقرة للقصاص في القتلي حماية للمجتمعات الإنسانية من إجرام المجرمين.
(4) وحضت علي كتابة الوصية قبل الموت, وحرمت وجرمت تبديلها أو إخفاءها.
(5) وحرمت أكل أموال الناس بالباطل.
(6) ووضعت ضوابط للتعامل بالدين وكيفية كتابته, والشهادة عليه وطبيعة شهوده.
(7) وحرمت التعامل بالربا تحريما قاطعا, وهددت الواقعين فيه بحرب من الله ورسوله.
(8) وحضت علي رعاية اليتيم حتي يبلع أشده, وحددت ضوابط الإنفاق في سبيل الله.
(9) وحرمت إنكار أي معلوم من الدين بالضرورة.
ثانيا: من قواعد العبادة في سورة البقرة:
(1) أمر ربنا( تبارك وتعالي) في سورة البقرة بإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا, وحدد آداب كل عبادة من تلك العبادات وضوابطها الشرعية, وشرعت الإنفاق في سبيل الله, والإحسان إلي الخلق بصفة عامة, واليقين بأن ذلك كله كان من قواعد العبادة في كل الشرائع السماوية السابقة, وكلها كانت إسلاما لله( تعالي), علمه ربنا( تبارك وتعالي) لأبينا آدم( عليه السلام) وأنزله علي فترة من الأنبياء والمرسلين, وأكمله وأتمه في بعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم سيدنا محمد بن عبدالله( صلي الله عليه وسلم).
(2) الدعوة إلي الجهاد في سبيل الله, ردعا للمعتدين, والغاصبين, والمتجبرين في الأرض, ودفعا للمعتدين علي أراضي المسلمين, وعلي دمائهم, وأموالهم, وأعراضهم, ومقدساتهم, علي غيرهم من المستضعفين في الأرض من غير المسلمين, وذلك صونا لكرامة الإنسان, وإقامة لعدل الله في الأرض.
(3) الدعوة إلي التوجه بالدعاء لله( تعالي) وحده ــ دون سواه ــ وتحديد الأوقات المفضلة لذلك, وآدابه, والتزام تقوي الله في كل حال.
(4) مراعاة الأشهر الحرم وتوقيرها, وإقامة السنن التي سنها لنا رسول الله( صلي الله عليه وسلم) فيها.
(5) إكرام الوالدين والاحسان إليهما, وإلي كل من ذوي القربي واليتامي والمساكين, وإلي الناس جميعا دون من أو أذي.
ثالثا: من ركائز العقيدة في سورة البقرة:
(1) الإيمان بالله( تعالي) ربا واحدا أحدا, فردا صمدا ــ بغير شريك ولا شبيه ولا منازع, ولا صاحبة ولا ولد, والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
(2) الإيمان بالقرآن الكريم, آخر, وأتم, وأكمل الكتب السماوية التي أنزلها الله( تعالي) بالحق علي فترة من الرسل, ثم جمعها في هذا الكتاب الخاتم الذي أنزله علي خاتم أنبيائه ورسله, وأبقاه محفوظا بحفظه في نفس لغة وحيه, هدي للمتقين إلي يوم الدين.
(3) الإيمان بالغيب الذي أنزله ربنا( تبارك وتعالي) في محكم كتابه, وفي سنة خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم), انطلاقا من الايمان بالله الواحد الأحد, الفرد الصمد, الذي لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفوا أحد, وانطلاقا من الايمان بملائكته, وبجميع كتبه, وأنبيائه, ورسله, بغير تمييز ولا تفريق, ومن الإيمان باليوم الآخر الذي ترجع فيه كل الخلائق إلي الله خالقها, ثم ترد إلي الخلود في الحياة الآخرة إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا, وهذه كلها من الغيوب التي يطالبنا الله( تعالي) بالإيمان بها, ويصف المؤمنين بها بوصف المتقين, الذين يؤمنون بجميع رسالات الله دون أدني تفريق, وبالآخرة بيقين لا يتزعزع.
(4) الإيمان بأن الله( تعالي) هو خالق كل شيء, وأنه علي كل شيء قدير, وأن من خلقه السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيهن, وأنه( سبحانه وتعالي) قد خلق الخلق من العدم, وأنه سوف يميتهم فردا فردا, ثم يحييهم بعثا واحدا ليعودوا إلي بارئهم الذي يعلم غيب السماوات والأرض, ويعلم ما تكسب كل نفس فيحاسبهم ويجازيهم, وهو الرحمن الرحيم, وهو شديد العقاب, وهو( تعالي) سريع الحساب, وقد وصف ذاته العلية بقوله( عز من قائل):
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لاتأخذه سنة ولانوم له مافي السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم مابين أيديهم وما خلفهم ولايحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم*
(البقرة:255).
(5) الإيمان بوحدة الجنس البشري, وبانتهاء نسبه إلي أبوينا آدم وحواء( عليهما السلام), وانطلاقا من ذلك لابد من نبذ جميع أشكال العصبيات العرقية, والاجتماعية, والدينية, وغيرها من أشكال التمييز بين الناس علي أي أساس غير تقوي الله.
(6) الإيمان بأن الله( تعالي) قد علم آدم الأسماء كلها, وبذلك يكون الإنسان قد بدأ وجوده عالما, عابدا, وليس جاهلا, كافرا كما يدعي أصحاب الدراسات الوضعية في علم الإنسان( الأنثروبولوجيا).
(7) الإيمان بوحدة رسالة السماء, وبأخوة جميع الأنبياء والمرسلين الذين أرسلهم الله( تعالي) بالإسلام الصافي, والتوحيد الخالص لله( سبحانه), وقد تكاملت رسالاتهم جميعا في الرسالة الخاتمة التي بعث بها النبي الخاتم والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) بشيرا ونذيرا للعالمين إلي يوم الدين.
(8) تنزيه الله( تعالي) عن كل وصف لايليق بجلاله من أمثال الشريك, والشبيه, والمنازع, والصاحبة, والولد, لأن هذه كلها من صفات المخلوقين, والله( تعالي) منزه عن جميع صفات خلقه, والإيمان بأن الشرك من أبشع صور الاعتقاد, وابغضها إلي الله, وهو من صور الكفر بالله, وأن من هذا الكفر منع مساجد الله( تعالي) أن يذكر فيها اسمه, أو السعي في خرابها وكلها من الأعمال التي لايرضاها ربنا( تبارك وتعالي).
(9) الإيمان بأن الشيطان للإنسان عدو مبين, وأنه يأمر بالسوء والفحشاء, ويغري الضالين من العباد بأن يقولوا علي الله ما لايعلمون, ومن هنا فإن مخالفته واجبة علي كل مسلم ومسلمة, وللنجاة من حبائل هذا اللعين, لابد من الاعتصام بحبل الله المتين. وتأكيدا علي هذه الحقيقة عرضت السورة الكريمة لقصة الشيطان الرجيم مع أبوينا آدم وحواء( عليهما السلام) حتي تم إخراجهما من الجنة بوسوسته, وغوايته, ثم كانت توبتهما وقبول الله( تعالي) منهما تلك التوبة, وبذلك لايمكن أن يطول أحدا من ذريتهما أثر من معصيتهما, انطلاقا من عدل الله القائل:
... ولاتكسب كل نفس إلا عليها ولاتزر وازرة وزر أخري..
( الأنعام:164)
وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي):
فتلقي آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم*
(البقرة:37)
(10) الإيمان بأن دين الله( وهو الإسلام) قائم علي السماحة واليسر, وعلي رفع الحرج عن الخلق, وأن من أصوله الثابتة أنه لاإكراه في الدين...*
( البقرة:256).
(11) الإيمان بحتمية الآخرة, وبضرورتها, وبالخوف من فجائيتها وأهوالها, وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي):
واتقوا يوما ترجعون فيه إلي الله ثم توفي كل نفس ماكسبت وهم لايظلمون*
(البقرة:281).
رابعا: من مكارم الأخلاق التي دعت إليها سورة البقرة:
(1) الصبر في البأساء والضراء وحين البأس.
(2) الوفاء بالعهود والمواثيق.
(3) الشجاعة والإقدام وحب الاستشهاد في سبيل الله.
(4) الجرأة في مناصرة الحق, وإعلان الرأي, وعدم كتمان الشهادة.
(5) الجود والكرم والإنفاق في سبيل الله.
(6) الحرص علي قول المعروف, والعمل الصالح, والعفو عن الناس.
(7) بر الوالدين الذي أمر به الله( تعالي) بعد الأمر للناس جميعا بألا يعبدوا إلا إياه.
(8) الإحسان إلي ذوي القربي واليتامي والمساكين وإلي الناس كافة دون من أو أذي.
(9) تجنب المال الحرام بكافة صوره وأشكاله, ومن أبرزها الربا, والرشوة, والسرقة, والغش وغير ذلك من صور التحايل الباطل علي الكسب الحرام.
خامسا: من القصص القرآني في سورة البقرة
جاء في سورة البقرة ذكر عدد من أنبياء الله ورسله, وذكر عدد من الحوادث التي تمت في حياتهم, أو حدثت لعدد من الصالحين من بعدهم, وذلك للاعتبار بها, وأخذ الدروس منها, وهذه يمكن إيجازها فيما يلي:
(1) قصة أبوينا آدم وحواء( عليهما السلام).
(2) قصة نبي الله موسي( عليه السلام) وقومه مع فرعون مصر, وخروجهم منها, وعبور موسي بهم البحر بمعجزة من الله( تعالي), ثم تفجير الأرض لهم بالماء الزلال بعد العبور( عيون موسي), وعصيانهم لله( تعالي) بعد كل هذه المعجزات التي رأوها رأي العين, وارتدادهم عن التوحيد إلي الشرك, وإلي عبادة العجل, وصعقهم عقابا علي ذلك, ثم إحيائهم ورفع الطور فوقهم, وقصتهم مع القتيل وأمر الله لهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها فيبعثه الله تعالي من موته حتي يخبر عن قاتله ثم يموت. ومسخ الذين اعتدوا منهم في السبت إلي قردة وخنازير. وتلا ذلك كفرهم بآيات الله, وتحريفهم للتوراة, وقتلهم للأنبياء من بعد موسي بغير الحق, وعصيانهم لأوامر الله, وتعديهم لحدوده, وقصتهم مع كل من طالوت ملكهم من جهة, ومع كل من جالوت وداود( عليه السلام) ومن آمن معهما من جهة أخري.
(3) قصص بعض أنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا من بعد موسي( عليه السلام) وذلك من أمثال كل من داود وسليمان( عليهما السلام).
(4) قصة نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل( عليهما السلام), وتعاونهما في رفع قواعد الكعبة المشرفة وإعادة بنائها, ودعوتهما إلي الله( تعالي) أن يبعث خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) في مكة المكرمة, وكذلك الإشارة إلي حوار إبراهيم( عليه السلام) مع نمرود بن كنعان( أول من ادعي الألوهية كذبا وبهتانا).
(5) قصة نبي الله يعقوب( عليه السلام) مع بنيه إذ حضره الموت, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي):
أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ماتعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون*
( البقرة:133).
(6) قصة الرجل الصالح عزير.. الذي مر علي بيت المقدس بعد أن خربها بختنصر, وفي ذلك تقول سورة البقرة:
أو كالذي مر علي قرية وهي خاوية علي عروشها قال أني يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلي طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلي حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلي العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله علي كل شئ قدير*.
(7) قصة نبي الله عيسي ابن مريم( عليهما السلام).
(8) حادثة تحويل القبلة, بعد حوالي سبعة عشر شهرا من مقدم النبي( صلي الله عليه وسلم) إلي المدينة, وإنكار كل من اليهود والمشركين والكافرين ذلك علي المسلمين, لجهلهم بأنه أمر من الله( تعالي) الذي يهدي من يشاء إلي صراطه المستقيم.
سادسا: من الإشارات الكونية في سورة البقرة:
(1) التفرقة الدقيقة بين كل من الضياء, والنور, والظلمات, وهي من الحقائق العلمية التي لم تدرك إلا مؤخرا جدا.
(2) تقديم حاسة السمع علي حاسة البصر في هذه السورة الكريمة وفي كثير غيرها من سور القرآن الكريم, وقد ثبت علميا أن حاسة السمع تتطور جنينيا قبل حاسة البصر, وتتكامل وتنضج في الشهر الخامس من حياة الجنين, بينما لا يتكامل نضج حاسة البصر إلا عند السنة العاشرة في عمر الطفل.
(3) وصف التلازم الدقيق بين الظلمات, والرعد, والبرق, والصواعق, وهطول الأمطار الغزيرة, والإشارة إلي إمكانية خطف البصر بواسطة البرق.
(4) الإشارة إلي المراحل المتتالية في إعداد الأرض لعمارتها بالإنسان, وذلك من قبيل تمهيد سطحها, وإنزال الماء عليها وإحياء الأرض بعد موتها, وبث فيها من كل دابة, وإخراج الثمرات رزقا للعباد.
(5) ذكر معجزات فلق البحر لنبي الله موسي( عليه السلام), ونجاته ومن كان معه من مطاردة فرعون وجنوده لهم, وهلاك فرعون وجنده, وكذلك تفجر اثنتي عشرة عينا بالماء بضربة من عصا موسي, ولا تزال هذه العيون المائية موجودة حتي اليوم بالمنطقة الشرقية من خليج السويس وهي معروفة باسم( عيون موسي).
(6) الإشارة إلي أمراض القلوب ومنها الخوف, والوسوسة, والشك, وقد أثبتت الدراسات النفسية أنها حقائق علمية لم تكن معروفة وقت تنزل القرآن الكريم.
وتشبيه قسوة قلوب اليهود بأنها أشد من قسوة الحجارة, لأن من الحجارة ما يلين عند تفجرها بالأنهار, أو عند تشققها وخروج الماء منها, أو عند هبوطها من خشية الله( تعالي), وقسوة قلوب اليهود لا تلين أبدا حسب ما أثبت التاريخ من جرائمهم التي جاوزت كل حدود الرحمة, وكل حقوق الإنسان إذا كانت بأيديهم الغلبة, وما الذي يحدث علي أرض فلسطين اليوم من جرائمهم الوحشية إلا صورة من تلك القسوة البالغة التي وصفهم القرآن الكريم بها من قبل أربعة عشر قرنا أو يزيد.
(7) الإشارة إلي خلق السماوات والأرض, واختلاف الليل والنهار, وإلي الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس, وإلي المشرق والمغرب وأن ذلك كله لله.
(8) الإشارة إلي تصريف الرياح, وإلي السحاب المسخر بين السماء والأرض, وهي حقائق لم تكن معروفة في زمن الوحي, ولا لقرون متطاولة من بعده.
(9) الإشارة إلي أذي المحيض, والنصيحة باعتزال النساء فيه, وقد أثبتت الدراسات الطبية صحة ذلك.
(10) التأكيد علي ما في كل من الخمر والميسر من آثام تفوق أية منافع يمكن أن تجتني من وراء الخوض في أي منهما والتجارب الإنسانية تثبت صحة ذلك, وعلي الرغم من ذلك تقرهما غالبية الدول المسلمة وتسمح بهما.
(11) الإشارة إلي أن الأشجار تزكو وتزدهر, وتجود بعطائها من الثمار في الربي المرتفعة سواء كثر عليها المطر أو قل وهو مما أثبتته الدراسات العلمية مؤخرا.
(12) الإشارة إلي البعوضة وما فوقها من الخلق, وهي من أبسط الحشرات. ولكنها تبلغ في روعة بنائها, ودقة خلقها ما تعجز البشرية كلها عن الإتيان بشئ من مثلها, كما تبلغ في خطرها علي حياة الإنسان أنها تعد اليوم واحدة من أخطر الافات الحشرية علي الإطلاق.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها, ولذا فإنني سوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الأخيرة من القائمة السابقة والتي جاءت الإشارة إليها في الآية السادسة والعشرين من سورة البقرة, ولكن قبل الدخول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال المفسرين في شرح هذه الاية الكريمة.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي):
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين*.
(البقرة26).
* ذكر صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن( رحمه الله) ما نصه:( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما) أي ليس الحياء بمانع لله تعالي من ضرب الأمثال بهذه المخلوقات الحقيرة والصغيرة في نظركم, كالبعوض والذباب والعنكبوت, فإن فيها من دلائل القدرة وبدائع الصنعة ما تحار فيه العقول, ويشهد بحكمة الخالق. وقد جعلوا ضرب المثل بها ذريعة إلي إنكار كون القرآن من عند الله تعالي. وفي الآية إشعار بصحة نسبة الحياء إليه تعالي. ومذهب السلف. إمرار هذا وأمثاله علي ما ورد, وتفويض علم كنهه وكيفيته إلي الله تعالي, مع وجوب تنزيهه عما لا يليق بجلاله من صفات المحدثات, وأختاره الألوسي. وذهب جمع من المفسرين إلي تأويله لإرادة لازمة, وهو ترك ضرب الأمثال بها, لأن الاستحياء من الحياء, وهو تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب ويذم به. أو هو انقباض النفس عن القبائح. وهذا المعني محال في حقه تعالي, فيصرف اللفظ إلي لازم معناه وهو الترك.( بعوضة فما فوقها) البعوض: ضرب من الذباب, ويطلق علي البق المعروف وعلي الناموس.( فما فوقها) أي في الحجم. أو في المعني الذي وقع التمثيل فيه, وهو الصغر والحقارة.( وما يضل به إلا الفاسقين) الفسق: الخروج عن الطاعة.. ويقع بالقليل والكثير من الذنوب, ولكن تعورف فيما كان كثيرا, وهو أعم من الكفر....
ولم يخرج كلام بقية المفسرين عن ذلك فنكتفي به.
من الدلالات العلمية للنص الكريم
أولا: النص الكريم يشمل ما فوق البعوضة حجما وما هو أقل منها, وما هو أشد منها خطرا وما هو أهون منها:
من معاني هذا النص الكريم أن قدرة الله المبدعة في الخلق تتجلي في أدق المخلوقات حجما كما تظهر في أضخمها بناء, وتجليها في الكائنات المتناهية الضآلة في الحجم قد يكون أبلغ من وضوحها في الكائنات العملاقة, وكان الجهل بأخطار البعوض, وبوجود كائنات أدق منه بكثير من وراء استنكار كل من الكفار والمشركين والمنافقين ضرب المثل في القرآن الكريم ببعض الحشرات من مثل البعوض, والذباب, والنحل, والنمل, والنمل الأبيض, والفراش, والجراد, والقمل, والمن. وببعض العناكب الصغيرة مثل العنكبوت.
ولما لم يكن في زمن الوحي من يدرك من الكائنات الحية ما هو أدق من البعوضة( وذلك من مثل: الفيروسات, البكتريا, الطحالب وغيرها من البدائيات, والأوليات( الطلائعيات), والفطريات أو الفطور, وغير ذلك من الكائنات الدقيقة ومنها المتطفل وغير المتطفل, فقد جاءت الصياغة القرآنية المعجزة بقول الحق( تبارك وتعالي):
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها...*.
(البقرة:26)
وتعبير( ما فوقها) يشمل المعنيين المتضادين معا أي ما يفوقها ضآلة في الحجم حتي لا يري بالعين المجردة, وما يفوقها ضخامة في البنيان, وكذلك يشمل هذا التعبير القرآني أخطار البعوضة كما يشمل أخطار غيرها من كل من الكائنات الدقيقة التي لم تكن معروفة في زمن الوحي بالقرآن الكريم, والكائنات التي تفوقها حجما, لأن الفوقية في اللغة تعني الزيادة والعلو في صفة يوضحها السياق.
وقد استهان الناس في القديم بالبعوضة لضآلة حجمها, فاستنكر القرآن الكريم عليهم ذلك, واتخذها مثلا يتحدي به الكفار والمشركين قبل ان يعرف دورها في نقل العديد من الأمراض الفتاكة بكل من الانسان وبغيره من أنواع الحيوان, بل من قبل ان يعرف الانسان من ناقلات الأمراض ماهو دونها حجما بما يزيد علي اثني عشر قرنا من الزمن.
ثانيا: النص القرآني يشير الي خطر البعوضة:
والبعوضة هي حشرة ضئيلة الحجم من ثنائيات الأجنحة(Diptera), تتبع مجموعة ضخمة من الحشرات تعرف باسم(FamilyCulicdae), وتضم مابين الألفين والثلاثة آلاف نوع من البعوض. وتأتي في المرتبة الثانية تعدادا بعد النمل.
ويتراوح طول البعوضة بين الثلاثة والتسعة ملليمترات, وهي مع ضآلة حجمها فان جسمها يتكون ـ كما تتكون أجساد غيرها من الحشرات ـ من رأس, وصدر, وبطن, ولها ثلاثة أزواج من الأرجل الطويلة النحيلة, وزوج من الأجنحة الدقيقة القوية والقادرة علي الخفق المتواصل السريع الذي يصل الي ستمائة خفقة في الثانية الواحدة, ولها قرنا استشعار في قمة الحساسية والكفاءة, وعين البعوضة عين مركبة تتألف من مئات العيينات المستقلة تشريحيا والمتكاملة وظيفيا مما يعطيها قدرة هائلة للرؤية بالليل وبالنهار في كل أطياف الضوء, ولها جميع الأجهزة الحيوانية كاملة علي الرغم من ضآلة حجمها.
وأنثي البعوض تتغذي علي دماء ذوي الدماء الحارة ولذلك فان لها فما ثاقبا ماصا تستخدمه في امتصاص الدم من الانسان ومن كل حيوان ذي دم حار, وعندما تغرس مثقابها في جلد الانسان أو الحيوان فإنها تفرز لعابها الذي يحمل مركبات عضوية تؤدي الي احتقان الجلد, وأخري تمنع الدم من التجلط حتي يسهل امتصاصه, بينما يتغذي ذكر البعوض علي رحائق الأزهار فقط. وتضع أنثي البعوض البالغة مابين المائة والأربعمائة بيضة في المرة الواحدة, والذي ينجو من افتراس الحيوانات الأخري من بيض البعوضة قد يفقس بعد يوم أو يومين, أو يبقي في فترة كمون قد تمتد الي الأسبوعين, ويعتمد ذلك علي عوامل كثيرة, منها وفرة الماء لأنه ضروري لفقس البيض ولحياة كل من اليرقات والعذاري.
ومع ضآلة حجم البعوضة فإنها تمثل خطرا لايستهان به علي صحة كل من الانسان والحيوان, فالبعوض الأنثي التي تتغذي علي دماء كل من الانسان وعلي دماء غيره من الحيوانات ذوات الدم الحار تصبح وسيلة خطيرة لنقل العديد من مسببات الأمراض من مثل الفيروسات, البكتيريا, الطحالب, وغيرها من البدائيات والأوليات( الطلائعيات), ومن مثل الفطريات, وغير ذلك من الكائنات الدقيقة التي تصيب كلا من الانسان والحيوان.
ومن الأمراض التي تنقلها البعوضة: الملاريا, الملاريا الخبيثة, داء الفيل, الحمي الصفراء, الحمي الدماغية, الحمي الشوكية, الحمي النازفة, مرض حمي أبي الركب( أو حمي تكسير العظام أو حمي الركب النازفة), حمي الوادي المتصدع, مرض دودة القلب, الالتهاب السحائي, الالتهاب المخي, الالتهاب المخي الشوكي, وأمراض ضعف المناعة ومنها الإيدز. ومن أخطر ماتحمله البعوضة فيروسات تغزو الجهاز العصبي للانسان مما قد يصيبه بعدد من الأمراض فائقة الخطورة من مثل مرض التهاب الدماغ والسحايا(Encephalomeningitis), ومرض إلتهاب الدماغ والنخاع(Encephalomyelitis).
والأمراض التي تنقلها البعوضة قد أدت الي هلاك الملايين من البشر منذ بدء الخليقة وإلي يومنا الراهن حيث لاتزال تصيب الملايين في كل عام إلي أن يشاء الله, ولذلك تعد هذه الحشرة الضئيلة الحجم واحدة من أخطر الآفات الحشرية المعروفة. ومن هنا كان ضرب المثل بها في القرآن الكريم علي شدة خطرها مع ضآلة حجمها, وعلي وجود ماهو أخطر وأدق منها وماهو أعظم منها حجما وخطرا من مخلوقات الله الأخري.
ومن هنا أيضا كان تحدي الله( سبحانه وتعالي) كل الكافرين والمنافقين والمشركين من أهل الجزيرة العربية, وغيرهم من أهل الأرض الي قيام الساعة بهذه الحشرة المتناهية الصغر في الحجم, وفي زمن الوحي لم يكن احد من الناس يدرك حقيقة خطر البعوضة فكانوا يستهينون بها, وفي زماننا ـ زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه ـ تقف البشرية عاجزة أمام اخطار هذه الحشرة الصغيرة علي الرغم من كل مستويات التقدم التي حققها انسان هذا العصر.
وأنواع البعوض التي يتراوح عددها بين الألفين والثلاثة آلاف نوع نختار منها الأنواع الثلاثة التالية:
(1) بعوضة الانفيلAnopheles التي تنقل طفيل مرض الملاريا( مرض البرداء) وهذا الطفيل معروف باسمPlasmodium, كما تنقل طفيليات العديد من الأمراض الأخري مثل طفيل مرض الفيلاريا(Filaria) الذي يسبب داء الفيلElephantiasis. وتنقل فيروس حمي التهاب الدماغ المعروف باسم الحمي الدماغيةEncephalitis
(2) بعوضة الكيولكس(Culex) التي تنقل كلا من طفيل مرض الفيلاريا, وفيروس الحمي الدماغية.
(3) البعوضة الزاعجةAedes التي تنقل فيروسات الحمي الصفراء(YellowFever) والحمي الدماغية وحمي الضنك(DengueFever) المعروفة باسم حمي أبي الركب أو حمي الركب النازفة أو حمي تكسير العظام.
وتتم دورة طفيل مرض الملاريا( البرداء) بين بعوضة الإنفيل والانسان حيث تنفذ البعوضة مسببات المرض الي مجري دم الإنسان عند قرصه, فتحملها مجاري الدم إلي الكبد حيث يبدأ الطفيل في التكاثر لاجنسيا وفي مهاجمة خلايا الدم الحمراء التي تنفجر لتملأ مجري الدم بجراثيم المرض التي تبدأ في التكاثر جنسيا بعد عدد من الأجيال فتؤدي الي الحمي والي تضخم الطحال, واذا تعرض هذا المريض لقرصة أخري من ناموسة الانفيل فإن هذا الطور الجنسي من الطفيليات ينتقل الي معدة البعوضة حيث يتم تكاثره لاجنسيا وانتقاله الي غددها اللعابية فيصبح جاهزا لاصابة انسان آخر تعضه هذه البعوضة, وبذلك يصاب أكثر من270 مليون انسان بالملاريا سنويا في كل أنحاء الأرض, ويتوفي منهم قرابة المليونين من الأفراد مما يجعل الملاريا من أكثر الأمراض انتشارا في كوكبنا الأرضي, وقد عجزت أكثر دول العالم تقدما في مجال العلوم البحتة والتطبيقية عن مقاومة أخطار البعوضة, ففي اغسطس من سنة1995 م انتشرت في مدينة نيوجيرسي( في شرق الولايات المتحدة الأمريكية) أسراب من البعوضة الزاعجة(Aedesalbopictus), وكانت تهاجم الناس بشراسة بقرصاتها المؤلمة حتي في وضح النهار وقد عرفت باسم النمر الآسيوي(TheAsianTiger) لأصولها الآسيوية, ولشراستها في الهجوم, وكانت هذه الحشرة قد ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في سنة1985 م بعد أن غزت كلا من جزر هاواي ومناطق من المحيط الهادي عقب الحرب العالمية الثانية(1945 م), ولاتزال هذه الحشرة الصغيرة تجتاح آلاف الأنفس من أبناء القوة العسكرية الكبري في العالم دون أن تنفعها أسلحتها في الدفاع عنهم, ولله جنود السماوات والأرض.
ثالثا: النص القرآني يفيد أن أنثي البعوض وحدها هي الناقلة للأمراض ومن ثم كانت مناط التحدي:
إن إفراد لفظ( بعوضة), وتأنيثه في هذا النص القرآني المعجز يشير الي تمايز الأنثي عن الذكر في هذه الحشرة الخطيرة, وإلي تفرد الأنثي وحدها ـ دون الذكر ـ بهذا الخطر الداهم, وهي حقيقة لم يعرفها الإنسان الا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين(1897 م ـ1900 م).
كذلك فإن تنكير لفظ( بعوضة), وإيراد اسم الموصول( ما) أيضا منكرا مرتين يشير إلي تعدد أنواع البعوض, فضلا عن شمول كل مما هو دونها حجما, وما أكثر منها ضخامة, وكل ماهو دونها أو أكثر منها ضررا من مخلوقات الله الأخري.
وهذه حقائق لم تصل الي علم الانسان الا بعد مجاهدة استغرقت جهود آلاف من العلماء منذ نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ولاتزال مستمرة الي اليوم, مستغرقة جهود الالاف منهم إلي ان يشاء الله, وورودها بهذه الصياغة العلمية الشاملة والدقيقة في كتاب الله الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة علي نبي أمي( عليه من الله أفضل الصلاة وأزكي التسليم) وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين لمما يشهد للقرآن الكريم بأنه لايمكن ان يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق, ويشهد للنبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة, فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين, وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
hl d.k3ام يزن3 @hl_dk3am_yzn3
عضوة نشيطة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
جزاك الله خير