لجأ كثير من الناس في هذا الزمان إلى الحمية والوقاية من المهالك في الأبدان والأموال، وسلكوا كل سبيل ينجّي أبدانهم وأموالهم وأولادهم، وغفل كثير منهم عن حمية الروح، ووقاية النفس من أسباب الخسران .
فولج كثير منهم أبواب الغي ثم لا يُقصرون، وأتوا بغرائب الذنوب وعجائب الآثام في شتى شئون حياتهم؛ في أفراحهم وأحزانهم، وسائر أعمالهم وعلاقاتهم في الأعمال والبيوت وغيرها، وتأتيهم الموعظة من ربهم من كل مكان عبر خطبة يسمعونها، أو حكمةٍ تُلقَى إليهم، أو عبرةٍِ من حادث، أو موت قريب، أو صديق.
ومع كِبَر عمر الإنسان يسمع كل فترة يسيرة عن موت فلان، وحادثة لفلان، حتى يضرب الموت بأطنابه في بيته، فيصيب الموت زوجه أو أخًا أو ابنًا له، حتى يشعر بفقد هذا القريب كأنه قد فَقَد بعضه، وسُلب شيئًا من جسده، ويبدأ في العظة والاعتبار، وينظر لنفسه ويا ليت هذا الأمر يدوم ويستمر؛ فلعله ينتفع بالموعظة ويصلح الله حاله وهو القائل سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } ، وإنما هي أيام ويعود إلى سيرته الأولى، وتلك هي الغفلة!!
وإذا نظر كل منا في حاله وجد نفسه غافلاً؛ فقد تمر عليه أوقات طويلة ربما ساعات لم يحرك فيها لسانه بذكر ربه وسيده ومولاه، وقد يجلس مجالس طويلة يتحدث في أمور كثيرة وفنون متعددة، وقد يضيع الساعات أمام الشاشات والملهيات، وقد يبحث عن الدراما وغيرها مما يزيده غفلة، وما أطول الرقاد في القبور!! وكم حسرات في بطون القبور!!
الغفلة للنفوس أسوأ بكثير من الإيدز للأجساد:
إن الغفلة للنفوس أسوأ بكثير من الإيدز للأجساد، قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} .
فأعظم النسيان والغفلة أن ينسى العبد نفسه، وينسى كثيرًا من أمور دينه، وتصيبه الغفلة، فيترك الذكر ويضيّع الفرائض، ويترك السنن الراتبة والنوافل، وكثيرًا ما يغفل عن صيام يوم تطوعًا، وينسى الصدقة والصبر والبر وحسن الخلق ... وكم من شهر مرَّ عليه دون أن يختم قراءة القرآن!!
قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} .
وعن ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلاَمِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) إِلاَّ أَرْبَعُ سِنِينَ. .
قال سيد قطب رحمه الله تعالى: (إنه عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم؛ واستبطاء للاستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله؛ فبعث فيها الرسول يدعوها إلى الإيمان بربها، ونزّل عليه الآيات البينات ليخرجها من الظلمات إلى النور؛ وأراها من الآيات في الكون والخلق ما يبصّر ويحذّر .
عتاب فيه الود، وفيه الحض، وفيه الاستجاشة إلى الشعور بجلال الله، والخشوع لذكره، وتلقي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الحق من الروعة والخشية والطاعة والاستسلام، مع رائحة التنديد والاستبطاء في السؤال {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} وإلى جانب التحضيض والاستبطاء تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ حين يمتد بها الزمن بدون جلاء، وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين حين تغفل عن ذكر الله، وحين لا تخشع للحق.. وليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج .
إن هذا القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان. وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور، ويرف كالشعاع؛ فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقسًا. وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم! فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع، ولا بد من الطرق عليه حتى يرق ويشف؛ ولا بد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة .ولكن لا يأس من قلب خمد وجمد وقسا وتبلد. فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور، وأن يخشع لذكر الله. فالله يحيي الأرض بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر، وتمنح الأكل والثمار. . كذلك القلوب حين يشاء الله). .
وقد حذّر رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- من تلك الغفلة المطبقة فقال: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً». .
منقول
MoOn LiGhT @moon_light_17
عضوة فعالة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
مشكووووووره على النقل