80 فائدة من دعـــــــــــا الإستخـــــارة

ملتقى الإيمان

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :

فإكمالا لسلسلة الفوائد المستنبطة من الأحاديث النبوية ، فسأستعين ربي على
استنباط الفوائد من دعاء الاستخارة ، وهو حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه .



نص الحديث :

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلها ، كما يعلّمنا السورة من القرآن ، يقول : "
إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني
أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر
، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي
في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال – عاجل أمري وآجله ، فاقدره لي ، ويسره لي
ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري
– أو قال – في عاجل امري وآجله ، فاصرفه عني واصرفني عنه ، وأقدر لي الخير حيث
كان ، ثم أرضيني به " متفق عليه .



الفوائد :

فيه الكثير من الفوائد التربوية والإيمانية ، والأحكام الفقهية ، ومن ذلك ما
يلي :

1ـ في الحديث دلالة على أن الاستخارة تشرع عندما يَهُمُ الإنسان بالأمر من
الأمور ، لقوله في الحديث "إذا همّ " .

2ـ دل الحديث بمفهومه على أن الاستخارة لا تشرع عند الخواطر والأفكار التي تسبق
للذهن ، والتي لا يكاد يسلم منها أحد غالبا ، لقوله في إحدى روايات الحديث :"
إذا أراد أحدكم الأمر " .

فالهمّ المطلق في الرواية الأولى بينته الإرادة في الرواية الثانية ، ويخرج عن
ذلك الخواطر .

3ـ الاستخارة في الحديث تشمل :

أ ـ طلب خير الأمرين ، وهذا مأخوذ من معناها اللغوي .

ب ـ وتشمل أيضا إذا أراد الإنسان فعل أمر ما لقوله في الحديث :" إذا أراد
أحدكم"

4ـ ظاهر الحديث يدل على أن الاستخارة تشمل الأمور الواجبة والمستحبة والمباحة ،
وليس المراد أحيانا الاستخارة في أصل فعلها ، وإنما في أمور أخرى تتعلق بالأمر
الواجب كوقت فعله وطريقة أدائه ، أو عند تزاحم الواجبات والمستحبات ، وهكذا ،
فليس من الضرورة أن تكون الاستخارة في أصل أداء الفعل الواجب حتى تُمنع ، وعموم
الحديث "إذا أراد أحدكم الأمر " يؤيد ذلك حيث أطلق الأمر .

5ـ الحديث يدل الإنسان المسلم على عدم الانسياق وراء الخواطر والأفكار التي ترد
على الذهن ، ولهذا لم يشرع لها الاستخارة ، وكم تسببت هذه الخواطر من وسوسة ،
وضياع للأوقات وإشغال للذهن .

6ـ يدل الحديث بمنطوقه على تعليم النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة سور القرآن
حتى صار غيرها يقاس عليها من حيث الأهمية وعدمها ، ولهذا قال الراوي :" كما
يعلمنا السورة من القرآن " فدل على فشو ذلك بينهم وانتشاره ، وهي سمة المجتمع
المسلم .

7ـ يدل الحديث على نشر العلم ، وتعليم الناس الأذكار والأوراد ، وإعادتها حتى
يتم حفظها ، وهذا واجب الدعاة اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم ، وتعليم النبي
صلى الله عليه وسلم لهم هذا الذكر دليل صريح على ذلك .

8ـ لا يدخل في الحديث الهمّ بالمحرمات والمكروهات ، لأن مجرد كونها منهيات فهذا
يدل على كونها شرا للعبد ، ولذلك لا يستخار فيها ، ولمصادمتها الأوامر الشرعية
.

9ـ يدل قوله : " إذا همّ " إلى أن ما يرد إلى الذهن يمكن تقسيمه إلى :

أ ـ خواطر لا يهتم بها .

ب ـ وإلى : همّ .

والفرق بينها أن الهمّ يرافقه إرادة وعزيمة على الفعل أو الترك ، ولهذا جاء في
الرواية الثانية :" إذا أراد أحدكم الأمر " .

كما يمكن تقسيمها بناء على الحديث إلى :

أ ـ همّ معه إرادة : وهو المراد في الحديث في الروايتين .

ب ـ همّ لا إرادة معه : وهذا لاغٍ لا حكم له .

10ـ دل الحديث بصريح منطوقه على أن صلاة الاستخارة ركعتان ، لقوله :" فليركع
ركعتين " ولا عبرة بالرواية التي أطلقت الصلاة في رواية الحاكم :" فليصل ما شاء
" ففيها تضعيف في سندها ، ويقوي ضعفها مخالفتها رواية الصحيحين .

11ـ دل الحديث على أن صلاة الاستخارة تكون من غير صلاة الفريضة ، لقوله :" من
غير الفريضة " وعلى هذا لا يصح الاستخارة في ركعتي الفجر .

12ـ يدل الحديث على أن نية الفريضة لا يدخل معها نية أخرى ، فإن التشريك في
النية يضعفها ، ولهذا قال في الحديث :" من غير الفريضة " .

13ـ يدل قوله :" من غير الفريضة " على أن الاستخارة تصح في ركعتي تحية المسجد
والسنن الرواتب فإنها داخلة في عموم "من غير الفريضة " .

14ـ على القول بجواز كونها في السنن الرواتب فالحديث يدل على تداخل النية بين
الاستخارة والركعتين غير الفريضة ، والتداخل بين بعض العبادات يصح بشروطٍ محلها
كتب الفقه .

15ـ يدل قوله : " إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع " على أن نية الاستخارة ينبغي أن
تصاحب المصلي قبل البدء بالصلاة حتى ينتهي منها .

وعلى هذا لو شرع إنسان بصلاة ركعتين للسنة الراتبة ، أو سنة مطلقة ثم طرأت عليه
نية الاستخارة فإن مفهوم الحديث يدل على أن هذه النية لا تصح ولا بد من نية تخص
الاستخارة قبل البدء بالركعتين .

16ـ لم يرد في هذا الحديث وغيره السور التي تستحب القراءة بهما في ركعتي
الاستخارة، وعلى هذا تبقى القراءة فيهما مطلقة من غير تقييد بسورة معينة أو
آيات معينة .

17ـ قوله في الحديث : " ثم ليقل " يدل في ظاهره على أن هذا الدعاء بعد صلاة
الركعتين ، وقد اختلف أهل العلم في موطن ذلك على قولين :

أ ـ يقال الدعاء قبل السلام .

ب ـ يقال الدعاء بعد السلام .

وظاهر الحديث يؤيد القول بأنه بعد السلام ، لقوله :" فليركع ركعتين ثم ليقل "
فيفهم منه أنه عزل الركعتين عن الدعاء .

والمسألة محتملة ، والأمر واسع بإذن الله سواء قبل السلام أم بعده .

18ـ دعاء الاستخارة يدل على ضعف العبد ، وقلة علمه ، فهو يستخير ربه في أمره ،
مما يدل على أنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، ومن تأمل ألفاظ الدعاء تبين هذا
الأمر بوضوح ، فقوله :" فإنك تعلم ولا أعلم ، وتقدر ولا أقدر " وغيرها يدل على
ذلك .

19ـ وكذلك يدل دعاء الاستخارة على أن الإنسان قد يُقدم على فعل أمر ويعود هذا
الأمر بالضرر عليه من حيث كان يرجو خيره ، فليس بالضرورة أن ما كان خيرا في نظر
الإنسان يكون خيرا له في دينه وحياته ، وقديما قيل :" من مأمنه يؤتى الحذر " .

20ـ يربي هذا الدعاء في قلب المؤمن التوكل على الله ، فإن دعاء الاستخارة فيه
تفويض الأمر إلى الله مع بذل سبب الدعاء ، وهذا هو المعنى الحقيقي للتوكل فقوله
:" اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر " فبهذا فوّض العبد أمره لربه .

21ـ يربي هذا الدعاء قلب المؤمن كذلك على تعظيم الله سبحانه وتعالى ، وهو أهل
للتعظيم ، فقول العبد :" وأستقدرك بقدرتك فإنك تقدر ولا أقدر " فيه من التعظيم
ما يعود نفعه على قلب المؤمن ، ولهذا إن استشعر العبد ذلك حال دعائه أدرك أن
الله منجز له حاجته بإذن الله .

22ـ كما يربي هذا الدعاء قلب المؤمن على عظمة منزلة علم الله المحيط بكل شيء ،
فقول العبد :" وأنت علاّم الغيوب " تشعر العبد المؤمن بمعية الله وعلمه المحيط
، فهو يستخير إلهاً عليماً لا تخفى عليه خافية ، وهذا الشعور له أيضا أثر واضح
على اعتقاد العبد حال الدعاء .

23ـ في الحديث إثبات صفات الله سبحانه وتعالى التي تليق به ، ومن ذلك صفتي
العلم والقدرة ، وهذا دليل لأهل السنة المثبتة للصفات .

24ـ يدل دعاء الاستخارة على تعبد العبد المؤمن بآثار الأسماء الحسنى والصفات
العلى ، فمن صفات الله العلم والقدرة ، وآثارها أن العبد يسأل ربه بعلمه وقدرته
أن يكتب له الخير ، وهكذا التعبد لله ببقية الأسماء الحسنى .

فالتعبد لله باسمه الرزّاق يعني ألا يسأل العبد في رزقه إلا ربه ، وألا يتوكل
إلا عليه ، وليعلم أن ما كتب له من رزق فسيلاقيه ، فيورث له ذلك الرضا بالقضاء.

25ـ يدل الحديث على أن العبد لا غنى له عن الله طرفة عين ، فالعبد يستخير الله
في أخص أموره وحاجاته ، فلا يعلم العبد مصلحة نفسه ، فالله له الغنى المطلق ،
وبالمقابل العبد له الفقر المطلق .

26ـ دعاء الاستخارة له أثر بيّن على قلب المؤمن فيورثه الطمأنينة ، فإن العبد
إذا استخار الله ، وقال هذا الدعاء أورثه ذلك طمأنينة في قلبه تنقطع معها كل
الاضطرابات والأوهام ، وألفاظ الدعاء تؤيد ذلك ، فقوله " إن كنت تعلم أن هذا
لأمر خير لي " وقوله " فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني
به " .

27ـ ومن آثار الاستخارة على القلب أنها تزيد محبته لربه ، ولهذا يطلب العبد
استخارة ربه ، لما في قلبه من محبته ، ويرضى بما يكتبه له ، ويزيد على الرضا
درجة الطمأنينة ، والمحبة من أجل أعمال القلوب .

28ـ في الحديث بيان أهمية صلاة الاستخارة في حياة المسلم ، ولهذا حرص النبي صلى
الله عليه وسلم على بيانها وتعليمها لأصحابه كما يعلمهم السورة من القرآن وذلك
لشدة الحاجة لها ، فلا يحسن بالمسلم الجهل بها أو هجرها والتكاسل عنها ، أو
الاستغناء بغيرها .

29ـ الحديث يدل على أن صفة الاستخارة : ركعتان تؤدى على صفة الصلاة المعروفة ،
ولهذا أحال النبي صلى الله عليه وسلم صفتها إلى ما هو معروف عندهم ومتقرر فقال
:" فليركع ركعتين من غير الفريضة " .

30ـ صلاة الاستخارة تدل على أهمية الصلاة في حياة المسلم ، فلم يقتصر المستخير
على الدعاء مع أهميته المعروفة ، وإنما أضاف إليها صلاة ركعتين بين يدي دعائه ،
ومن هذا الباب ندرك السر في أن النبي صلى الله عليه وسلم يفزع إلى الصلاة كلما
حزبه أمر .

31ـ الصلاة بين يدي الدعاء كالتحية بين يدي الملوك قبل تقديم الطلب ، والله
سبحانه وتعالى ملك الملوك ، والصلاة صلة بين العبد وبين ربه ، وهي المناجاة ،
ولهذا كان دعاء الاستخارة بعد الصلاة لا قبلها .

32ـ بدأ المستخير دعاءه بقوله :" اللهم " فسأل ربه بالألوهية ، وهي تتضمن
العبادة ، فكأنه يقول :" أنت إلهي وأنا عبدك " ولا أقرب من الإله الحق لعبده
الصادق .

33ـ لفظ "اللهم " يشتمل على الأسماء الحسنى ، فكلها إما متضمنة أو مستلزمة لاسم
"الله " فناسب أن يقدمه به المستخير بين يدي دعائه .

34ـ قوله : " اللهم إنّي " فيها تخصيص وتأكيد ، وهذا هو الأنسب لحال المستخير
أن يتجه بقوله وفعله لبيان فقره بين يدي ربه ، فخصص نفسه اقتضاء لتخصيص حاله .

35ـ بدأ المستخير بنفسه فقال :" اللهم إني " لأن العبد هو صاحب الحاجة والطلب .

36ـ قوله :" أستخيرك " الألف والسين والتاء لزيادة الطلب ، فالمستخير ملحٌ على
ربه أن يختار له الخير ، ويصرف عنه الشر ، هذا الإلحاح تبين حتى بألفاظ دعائه
إضافة لحاله فتوافق اللسان مع الحال وهذا أقوى الدواعي للتأثير .

37ـ الكاف في قول العبد :" أستخيرك " إضافة إلى كونها كاف الخطاب بين العبد
وبين ربه ، فهي تفيد التخصيص ، فكأن العبد بهذه الكاف يقول بلسان حاله : لا
أستخير غيرك ، وهذا هو لسان مقاله .

38ـ الباء في قوله :" بعلمك " ، وقوله :" بقدرتك " هي :

للاستعانة : أي أطلب خير الأمرين مستعينا بعلمك وقدرتك ، وعلى هذا فهي تربي
المؤمن على الاستعانة بربه .

39ـ ويحتمل أن تكون الباء للتوسل ، وعلى هذا يكون المستخير توسل إلى الله بعلمه
وقدرته ، وهما أمران يتعلقان بمراد العبد من الاستخارة ، والتوسل إلى الله
بأسمائه وصفاته من الأعمال المشروعة .

40ـ المناسبة ظاهرة بين العلم والقدرة وبين طلب الاستخارة ، فإن المستخير لا
يعلم الخير أين يكون ؟ وكذلك لا يقدر عليه لو علمه .

فأتى باسمين مناسبين لمسألته ، وهذا من فقه الدعاء أن يأتي الإنسان في دعائه
بما يناسبه من الأسماء الحسنى .

41ـ قَدم في هذا الدعاء العلم على القدرة في قوله " اللهم إني أستخيرك بعلمك ،
وأستقدرك بقدرتك " فإن المستخير يسأل ربه أولاً بعلمه للخير ، ثم تأتي بعد ذلك
قدرة الله على تيسير الخير للعبد ، فرتبهما في الدعاء حسب ترتيبهما في الوجود .

42ـ قوله : " أستقدرك " يحتمل :

أ ـ أن العبد يطلب من ربه أن يجعل له قدرة على هذا الأمر .

ب ـ أن العبد يطلب من ربه أن يُقدِّر له الخير ، أي من باب القضاء والقدر .

والأمران محتملان وبينهما تلازم من وجه ، فما قَدَر عليه الإنسان فهو من قدر
الله الذي قدّره على عبده ، وكلا الأمرين بيد الله سبحانه وتعالى ، فرجع الأمر
له .

43ـ قوله :" وأسألك من فضلك العظيم " يدل على أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء
والله ذو الفضل العظيم .

44ـ كما يدل قوله :" وأسألك من فضلك العظيم " على أن فضل الله لا نهاية له ،
فالله عظيم وفضله عظيم .

45ـ كما يدل قوله :" من فضلك " أن ما يعطيه الله لعبده من خير فهو محض فضلٍ من
الله وليس بحقٍ يستحقه العبد ، وإنما لكمال فضله سبحانه ، وهذا يؤيد مذهب أهل
السنة في أن الله ليس عليه حق واجب إلا ما أوجبه هو على نفسه سبحانه وتعالى .

46ـ قوله :" فإنك تقدر ولا أقدر " فيها تبرئ من الحول والقوة ، فكأن العبد يقول
لا حول لي ولا قوة إلا بالله ، فهو يحصر القوة والقدرة لربه ، ويتبرأ من حوله
وقوته إلا فيما أقدره عليه ربه ، وهذا هو المعنى العملي لقولنا : لا حول ولا
قوة إلا بالله .

47ـ الملاحظ أنه في بداية الدعاء قدّم العلم على القدرة فقال :" أستخيرك بعلمك
وأستقدرك بقدرتك " لكنه في وسط الدعاء عكس الأمر فقدّم القدرة على العلم فقال
:" فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم " وذلك :

لأنه قال :" وأسألك من فضلك العظيم " وفضل الله لا يقدر عليه إلا الله فلهذا
قال بعدها :" فإنك تقدر ولا أقدر " فقدم القدرة لتعلقها بتحصيل الفضل .

48ـ في حديث الاستخارة حسن الاستهلال في الدعاء ، فيقدم الداعي لربه بين يدي
دعائه مقدمة يثني فيها على الله ويعترف بتقصيره وجهله ، ويرجع الأمر كله لله ،
ثم يأتي بطلبه ، ولهذا يقول الداعي في دعاء الاستخارة بعد تلك المقدمة :" اللهم
إن كنت تعلم " .

49ـ قوله :" إن كنت تعلم " ليس على سبيل الشك ، ولا يجوز الشك بعلم الله لكن
الشك هنا متجه إلى كونه في الخير والشر ، وليس إلى أصل العلم ، وكلام العرب
سائغ على هذا الأسلوب .

50ـ لا يكتفي المستخير بقوله :" إن كنت تعلم أن هذا الأمر " بل يسمي حاجته هنا
بدليل رواية "فيسمي حاجته " وفي رواية "ثم يسميه بعينه " .

51ـ قوله :" إن كنت تعلم هذا الأمر " دليل على أن الاستخارة لا تكون في أمرين
معاً بل لا بد من أمرٍ واحد .

52ـ في أكثر الروايات تقديم الدين على الدنيا في قوله :" في ديني ومعاشي " وفي
رواية " ديني ودنياي " ، وهذا من باب تقديم الأهم ، وفيه تربية للمؤمن على أن
أمر الدين أهم من أمر الدنيا وهو كذلك .

53ـ قوله : " ومعاشي " يراد به الدنيا ما توضحه الروايات الأخرى .

54ـ الجمع بين لفظتي :" ديني ومعاشي " في الخير والشر ، يدل على أن ما كان خيرا
في دين المرء كان خيرا في معاشه ، وما كان شرا على دين المرء كان شرا على معاشه
.

55ـ قوله :" وعاقبة أمري " المراد بذلك الآخرة ، فيكون المستخير سأل ربه الخير
في ثلاثة أمور :

أ ـ في دينه .

ب ـ في معاشه وهي دنياه .

ج ـ في عاقبة أمره وهي آخرته .

ومن رزق الخير في هذه الثلاثة فقد اكتملت سعادته ، وهنأ عيشه .

56ـ قوله :" أو قال عاجل أمره وآجله " اختلف أهل العلم في موضعها على أقوال :


أ ـ قيل : بدل من الألفاظ الثلاثة في الرواية الأولى ، وعلى هذا يكون لفظ
الحديث " إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في عاجل أمري وآجله " .

ب ـ وقيل : بدل من اللفظين الأخيرين في الرواية الأولى ، وعلى هذا يكون لفظ
الحديث :" إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني وعاجل أمري وآجله " .

والذي يظهر أن موضعها بدل الألفاظ الثلاثة كلها ، والله أعلم وأحكم .

57ـ الرواية التي تجمع بين "ديني ومعاشي وعاقبة أمري " رجحها ابن القيم رحمه
الله على رواية :" عاجل أمري وعاجله " فقال :

" والصحيح اللفظ الأول وهو قوله "ديني ومعاشي وعاقبة أمري " لأن عاجل الأمر
وآجله هو مضمون قوله "ديني ومعاشي وعاقبة أمري " فيكون الجمع بين المعاش وعاجل
الأمر وآجله تكرارا بخلاف ذكر المعاش والعاقبة ، فإنه لا تكرار فيه ، فإن
المعاش هو عاجل الأمر ، والعاقبة آجله " جلاء الأفهام 1/324 .

58ـ وجود هذه الروايات المتعددة في " عاجل أمري " و" عاقبة أمري " و "دنياي
وآخرتي " تدل على صحة رواية الحديث بالمعنى عند السلف وهو الصحيح من أقوالهم .

59ـ قوله : " ومعاشي " وفي رواية :" ودنياي " يدل على اهتمام الإسلام بأمر
المعاش والدنيا ، وسؤال الله الخير فيها ، ولا يتعارض هذا مع الأمر بالزهد في
الدنيا ، وفي هذه الفقرة من الحديث رد على متصوفة أهل الزهد .

60ـ حديث الاستخارة يدل على منهج أهل السنة والجماعة في باب القدر ، وأن الله
كتب كل شيء وقدره .

61ـ كما يدل على أنه لا يكون شيء إلا بقدر الله ، وهذا أيضا من منهجهم .

62ـ ويدل كذلك حديث الاستخارة على أن الله يمحو ما يشاء ويثبت ، بدليل قوله :"
واصرفه عني واصرفني عنه " .

63ـ دعاء الاستخارة يدل على أن الله ربط الأسباب بمسبباتها ، ومن الأسباب دعاء
الله سبحانه وتعالى ، ولو لم تكن له فائدة لكان قوله لغو لا فائدة فيه .

64ـ صيغة المبالغة في الحديث " علاّم الغيوب " تدل على إرجاع العبد العلم كله
لله سبحانه وتعالى ، وأن العبد لا يعلم من علم الغيب شيئا،فمن أدعى ذلك فقد كذب
وكفر .

65ـ قدّم الخير على الشر في هذا الحديث في قوله :" إن كنت تعلم أن هذا الأمر
خير لي في ديني ومعاشي " من باب التفاؤل ، وهو الأليق مع الله ، والأنسب لحال
العبد ، ففيه فقه من حيث الألفاظ .

66ـ دل الحديث على أن العبد يحتاج للخير في ثلاثة أمور :

أ ـ أن يُقَدِّرَ الله له الخير ، أو يُقْدِرَهُ الله عليه ، أي يجعل فيه
القدرة ، ولهذا قال : " فاقدره لي" .

ب ـ أن ييسره الله له ، لأن الخير إن كان عسيرا استهلك وقتاً وجهداً في تحصيله
، وقد يستصعبُهُ فيتركَ طلبَهُ ، ولهذا كان من المناسب قوله : " ويسره لي " .

ج ـ أن يبارك له فيه ، فإن لم تحصل البركة فإن العبد لا يستفيد من الخير كثيرا
، فكان من المناسب قوله :" وبارك لي فيه " .

وبهذه الثلاثة يكمل الخير كله على الإنسان ، نسأل الله الكريم من فضله .

67ـ ودل الحديث على أن العبد يحتاج في الشر الذي يقدره الله عليه إلى :

أ ـ أن يصرف الله الشر عن العبد ، ولهذا قال العبد في دعائه :" فاصرفه عني " .

ب ـ أن يصرف الله العبد عن الشر ، فإن العبد جهول ظلوم ، ولهذا حَسُن قوله في
دعائه :" واصرفني عنه " .

ج ـ أن يقدر الله للعبد خيرا مما صرفه عنه من الشر ، ولهذا قال :" وأقدر لي
الخير " .

د ـ أن يُرضِى الله عبدَه بالخير الذي قدره له ، فإن العبد من جهله أحيانا أنه
إذا لم يرض بما قدّره الله له تبقى نفسه معلقة بمرادها الأول الذي صرفها الله
عنه ، فلا تزال معلقة به ، فتفسد عليها حياتها لفقدانها الرضا بالخير الجديد
الذي كُتب لها ، ولهذا قال العبد :" ثم رضني به " .

68ـ جمع الله لعبده المؤمن التوفيق في هذا الحديث من ثلاث جهات :

أ ـ أن يقدر له الخير ويعينه وييسره له .

ب ـ أن يصرف عنه الشر ، ويصرفه عنه .

ج ـ أن يعوضه عن الشر خيرا ، ثم يرضيه به .

فأي رحمة واسعة هذه الرحمة ، وأي كرم عظيم هذا الكرم .

69ـ يدل قوله :" واصرفه عني ، واصرفني عنه " على أن العبد يسأل ربه تمام
المباعدة بينه وبين الشر ، ولا يكون هذا إلا بأن يصرف الله الشر عن العبد ، ثم
يصرف العبد عن الشر ، فكلاهما مصروف عن الآخر ، وبهذا تحصل تمام المباعدة .

70ـ كما يفيد قوله :" واصرفني عنه " على أن العبد يسأل ربه ألا يبقى في قلبه
بعد ذلك تعلق بهذا الأمر الذي يريد فعله ، لأن إرادة القلب تتحول إلى عمل ،
فاحتاج العبد أن يسأل ربه تمام الصرف لئلا يتعلق به .

71ـ قوله :" واصرفني عنه " تدل على جهل الإنسان ، فقد يصرف الله الشر عن العبد
، لكن العبد لجهله بمألات الأمور يحرص على هذا الأمر ، ويتتبعه ، ويتحسر لفوته
، وقد يسأل ربه ، فاحتاج العبد أن يجمع دعائه بين " واصرفه عني " و " واصرفني
عنه " .

72ـ قوله في هذا الدعاء :" ثم أرضيني به " وفي رواية :" ثم رضني به " دليل على
أن من أنعم الله بنعمة فعليه أن يرضى بها ليكمل عليه الخير ، وأن السخط قد يطرد
الخير الذي قدَّره الله .

73ـ في الحديث دليل على أن من استخار ربه بشيء فلم يكتب له فعليه أن يزيل تعلقه
من قلبه ، ليكون أهنأ لعيشه ، وأكثر طمأنينة لقلبه ، وهذا حل عملي لكثير من
مسائل الناس اليوم ، حيث تذهب أنفسهم حسرات على فوات خير يظنونه لكن الله لم
يكتبه لهم لحكمة يعلمها سبحانه .

74ـ في سؤال الإنسان لربه الخير بدأ بالتقدير فقال :" فاقدره لي " وفي سؤاله
صرف الشر أخر التقدير ، وهو الأنسب لأنه يريد صرف الشر عنه أولا ثم بعد ذلك
يقدر مكانه خيرا .

75ـ في دعاء الاستخارة تمام الخضوع والذل لله ، ومن تأمل ألفاظ الاستخارة وجدها
في غاية التذلل لله ، فقد نسب العلم كله لله ، والقدرة له ، ونفى العلم عن نفسه
، ونفى قدرته على فعل شيء ، ولا شك أن التذلل لله أحد ركني العبادة ، والمحبة
ركنها الثاني وقد مضى التنبيه عليه .

76ـ من فوائد دعاء الاستخارة أنه يورث الطمأنينة ، ويزيل الاضطراب الذي يحصل
عند البعض حين الإقدام على فعل شيء أو ترك شيء ، وهذه الاضطرابات والتردد كثيرا
ما تعكر على الإنسان صفو حياته ، فجاءت الاستخارة مزيلة لكل هذه الأمور ، مورثة
العبد المؤمن الطمأنينة .

77ـ صلاة الاستخارة باب من أبواب تحصيل الحسنات لما فيها من الصلاة والدعاء ولو
لم يحصل المستخير إلا على أجر صلاته ودعائه لكفى فكيف وفضائل الله عليه تترى .

78ـ الاستخارة دليل على أن المؤمن لا يثق بشيء ثقته بربه سبحانه وتعالى ، ولهذا
يترك ما أعطاه الله من دقة تفكير وملاحظة ، ويلجأ لاستخارة ربه في صلاته ، وهذا
نابع من الثقة بالله وحسن الظن به .

79ـ لم يرد في هذا الحديث علامة انشراح الصدر أو غيرها من العلامات ، وهذا
الحديث هو العمدة في الباب، ولهذا لا يشترط أن ينشرح صدر العبد بعد صلاة
الاستخارة ، وإنما يفعل الإنسان ما يريد فإن تيسر له كان من تيسير الله ، وإن
وإن
تعثر كان من صرف الله عنه ، وقد يرزق بعض الناس انشراحا في الصدر لأمر معين بعد
الاستخارة ، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء .

80ـ من صلى صلاة الاستخارة وفعل ما ظهر له بعد ذلك فعليه ألا يندم ولو لم يوافق
ذلك هواه ، كأن يستخير الإنسان في زواج ثم يحدث طلاق بينهما ، فالمؤمن الحق
راضٍ بما اختاره الله له ولو لم يوافق هواه ورغبته .

وبهذا انتهى ما أردت ، أسأل الله أن يفتح على قلبي من بركات علمه ، وأن يجعل
عملي في رضاه ، وأن يتقبله مني ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

الشيخ : عقيل بن سالم الشمري
0
254

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️