فيضٌ وعِطرْ
•
لله الحمد راجعت الفرقان
سورة الفرقان
فإن قيل : الخلق هو التقدير ؛ ومنه قوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) ،
أي تقدر ؛ فما معنى قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ؛ فكأنّه تعالى قال : وقدر كل شيء فقدره تقديرا؟
قلنا : الخلق سن الله تعالى بمعنى الإيجاد والإحداث ، فمعناه : وأوجد كل شيء مقدرا مسوى مهيأ لما يصلح له ،
لا زائدا على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ؛ ولا ناقصا عن ذلك.
الثاني : أن معناه : وقدر له ما يقيمه ويصلحه ؛ أو قدر له رزقا وأجلا وأحوالا تجري عليه.
فإن قيل : كيف قال تعالى في وصف الجنة : (الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً)
وهي ما كانت بعد وإنما تكون كذلك بعد الحشر والنشر؟
قلنا : إنما قال كانت لأن ما وعده الله تعالى فهو في تحققه كأنه قد كان ؛ أو معناه كانت في علم الله مكتوبة في اللوح المحفوظ أنها جزاؤهم
ومصيرهم.
فإن قيل : ما فائدة تأخير الهوى في قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) والأصل اتخذ الهوى إلها كما تقول : اتخذ
الصنم معبودا؟
قلنا : هو من باب تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية به ، كما تقول علمت منطلقا زيدا ، لفضل عنايتك بانطلاقه.
فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ)؟ .
قلنا : قد مر مثل هذا السؤال وجوابه في قوله تعالى : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) .
فإن قيل : كيف شبههم سبحانه وتعالى بالأنعام في الضلال بقوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) مع أن الأنعام تعرف الله
سبحانه وتعالى وتسبحه بدليل قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)
وقوله تعالى : (يُسَبِّحُ
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)؟ .
فإن قيل : الخلق هو التقدير ؛ ومنه قوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) ،
أي تقدر ؛ فما معنى قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ؛ فكأنّه تعالى قال : وقدر كل شيء فقدره تقديرا؟
قلنا : الخلق سن الله تعالى بمعنى الإيجاد والإحداث ، فمعناه : وأوجد كل شيء مقدرا مسوى مهيأ لما يصلح له ،
لا زائدا على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ؛ ولا ناقصا عن ذلك.
الثاني : أن معناه : وقدر له ما يقيمه ويصلحه ؛ أو قدر له رزقا وأجلا وأحوالا تجري عليه.
فإن قيل : كيف قال تعالى في وصف الجنة : (الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً)
وهي ما كانت بعد وإنما تكون كذلك بعد الحشر والنشر؟
قلنا : إنما قال كانت لأن ما وعده الله تعالى فهو في تحققه كأنه قد كان ؛ أو معناه كانت في علم الله مكتوبة في اللوح المحفوظ أنها جزاؤهم
ومصيرهم.
فإن قيل : ما فائدة تأخير الهوى في قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) والأصل اتخذ الهوى إلها كما تقول : اتخذ
الصنم معبودا؟
قلنا : هو من باب تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية به ، كما تقول علمت منطلقا زيدا ، لفضل عنايتك بانطلاقه.
فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ)؟ .
قلنا : قد مر مثل هذا السؤال وجوابه في قوله تعالى : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) .
فإن قيل : كيف شبههم سبحانه وتعالى بالأنعام في الضلال بقوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) مع أن الأنعام تعرف الله
سبحانه وتعالى وتسبحه بدليل قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)
وقوله تعالى : (يُسَبِّحُ
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)؟ .
قلنا : المراد تشبيههم بالأنعام في الضلال عن فهم الحق ومعرفة الله تعالى بواسطة دعوة الرسول صلىاللهعليهوسلم.
الثاني : أن المراد تشبيههم في الضلال والعمى عن أمر الدين بالأنعام في ضلالها وعماها عن أمر الدين.
فإن قيل : إن كانوا كالأنعام في الضلال ؛ فكيف قال تعالى : (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)
وإن كانوا أضل من الأنعام فكيف قال تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ)
وإن كانوا كالأنعام في الضلال وأضل منها أيضا فكيف يجتمع الوصفان؟
قلنا : المراد بقوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) التشبيه في أصل الضلال لا مقداره.
والثاني : بيان لمقداره. وقيل : المراد بالأول التشبيه في المقدار أيضا ؛ ولكن المراد بالأول طائفة وبالثاني طائفة أخرى ، ووجه كونهم أضل من الأنعام
أن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها ، وتعرف من يحسن إليها ممّن يسيء إليها ،
وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم ، ولا يطلبون ا
لثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العذاب الذي هو أشد المضار والمهالك ، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الرّوي.
فإن قيل : قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) كيف ذكر الصفة والموصوف مؤنث ولم
يؤنثها كما أنثها في قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) .
قلنا : إنما ذكرها نظرا إلى معنى البلدة وهو البلد والمكان لا إلى لفظها.
فإن قيل : قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً)
، فإنزاله موصوفا بالطهورية ، وتعليل ذلك بالإحياء والسقي يشعر بأنّ الطهورية شرط في حصول تلك المصلحة ، كما تقول : حملني الأمير على
فرس سابق لأصيد عليه الوحش وليس كذلك.
قلنا : وصف الطهورية ذكر إكراما للأناسي الذين شربهم من جملة المصالح التي أنزل لها الماء ، وإتماما للمنة والنعمة عليهم ، لا لكونه شرطا في
تحقق تلك المصالح والمنافع ، بخلاف النظير فإنه قصد بكونه سابقا الشرطية ؛ لأن صيد الوحش على الفرس لا يتم إلا بها.
فإن قيل : كيف خص تعالى الأنعام بذكر السقي دون غيرها من الحيوان الصامت؟
الثاني : أن المراد تشبيههم في الضلال والعمى عن أمر الدين بالأنعام في ضلالها وعماها عن أمر الدين.
فإن قيل : إن كانوا كالأنعام في الضلال ؛ فكيف قال تعالى : (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)
وإن كانوا أضل من الأنعام فكيف قال تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ)
وإن كانوا كالأنعام في الضلال وأضل منها أيضا فكيف يجتمع الوصفان؟
قلنا : المراد بقوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) التشبيه في أصل الضلال لا مقداره.
والثاني : بيان لمقداره. وقيل : المراد بالأول التشبيه في المقدار أيضا ؛ ولكن المراد بالأول طائفة وبالثاني طائفة أخرى ، ووجه كونهم أضل من الأنعام
أن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها ، وتعرف من يحسن إليها ممّن يسيء إليها ،
وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم ، ولا يطلبون ا
لثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العذاب الذي هو أشد المضار والمهالك ، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الرّوي.
فإن قيل : قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) كيف ذكر الصفة والموصوف مؤنث ولم
يؤنثها كما أنثها في قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) .
قلنا : إنما ذكرها نظرا إلى معنى البلدة وهو البلد والمكان لا إلى لفظها.
فإن قيل : قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً)
، فإنزاله موصوفا بالطهورية ، وتعليل ذلك بالإحياء والسقي يشعر بأنّ الطهورية شرط في حصول تلك المصلحة ، كما تقول : حملني الأمير على
فرس سابق لأصيد عليه الوحش وليس كذلك.
قلنا : وصف الطهورية ذكر إكراما للأناسي الذين شربهم من جملة المصالح التي أنزل لها الماء ، وإتماما للمنة والنعمة عليهم ، لا لكونه شرطا في
تحقق تلك المصالح والمنافع ، بخلاف النظير فإنه قصد بكونه سابقا الشرطية ؛ لأن صيد الوحش على الفرس لا يتم إلا بها.
فإن قيل : كيف خص تعالى الأنعام بذكر السقي دون غيرها من الحيوان الصامت؟
قلنا : لأن الوحش والطير تبعد في طلب الماء ولا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام.
الثاني : أن الأنعام قنية الأناسي وعامة منافعهم متعلقة بها ، فكأن الأنعام يسقي الأنعام ،
كالأنعام يسقي الأناسي ، فلذلك خصها بالذكر.
فإن قيل : كيف قدم تعالى إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي؟
قلنا : لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وأنعامهم فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم.
الثاني : أن سقي الأرض بماء المطر سابق في الوجود على سقي الأناسي به.
فإن قيل : ما وجه صحة الاستثناء
في قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)؟ .
قلنا : هو استثناء منقطع تقديره : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فأنا أدله على ذلك
وأهديه إليه. وقيل تقديره : لكن من شاء أن يتخذ إلى
ربّه سبيلا بإنفاق ماله في مرضاته فليفعل ذلك.
فإن قيل : كيف قال تعالى هنا (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) ،
أي أجرا ؛ لأن «من» لتأكيد النفي وعمومه. وقال في آية
أخرى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فأثبت سؤال الأجر عليه؟
قلنا : هذه الآية منسوخة
بقوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ)
رواه مقاتل والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما. والصحيح الذي عليه المحققون أنها غير منسوخة ؛
بل هو استثناء من غير الجنس تقديره : لكن أذكركم المودة في القربى.
فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) ولم يقل أئمة؟
قلنا : مراعاة لفواصل الآيات ، وقيل تقديره : واجعل كل واحد منا إماما.
فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) وهما بمعنى واحد ويؤيده
قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) وقوله صلىاللهعليهوسلم : «تحيّة أهل الجنّة في الجنّة سلام».
__________________
الحديث أخرجه أحمد في مسنده : ٤ / ٣٨١.
الثاني : أن الأنعام قنية الأناسي وعامة منافعهم متعلقة بها ، فكأن الأنعام يسقي الأنعام ،
كالأنعام يسقي الأناسي ، فلذلك خصها بالذكر.
فإن قيل : كيف قدم تعالى إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي؟
قلنا : لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وأنعامهم فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم.
الثاني : أن سقي الأرض بماء المطر سابق في الوجود على سقي الأناسي به.
فإن قيل : ما وجه صحة الاستثناء
في قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)؟ .
قلنا : هو استثناء منقطع تقديره : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فأنا أدله على ذلك
وأهديه إليه. وقيل تقديره : لكن من شاء أن يتخذ إلى
ربّه سبيلا بإنفاق ماله في مرضاته فليفعل ذلك.
فإن قيل : كيف قال تعالى هنا (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) ،
أي أجرا ؛ لأن «من» لتأكيد النفي وعمومه. وقال في آية
أخرى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فأثبت سؤال الأجر عليه؟
قلنا : هذه الآية منسوخة
بقوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ)
رواه مقاتل والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما. والصحيح الذي عليه المحققون أنها غير منسوخة ؛
بل هو استثناء من غير الجنس تقديره : لكن أذكركم المودة في القربى.
فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) ولم يقل أئمة؟
قلنا : مراعاة لفواصل الآيات ، وقيل تقديره : واجعل كل واحد منا إماما.
فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) وهما بمعنى واحد ويؤيده
قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) وقوله صلىاللهعليهوسلم : «تحيّة أهل الجنّة في الجنّة سلام».
__________________
الحديث أخرجه أحمد في مسنده : ٤ / ٣٨١.
الصفحة الأخيرة