آثار التعبد بأسماء الله وصفاته

ملتقى الإيمان

آثار التعبد بأسماء الله وصفاته

عناصر المقال

· مقدمة المقال

· الآثار الظاهرة للتعبد بأسماء الله وصفاته

1. الأنس بالله ولَمِّ شعث القلب .

2. تعظيم الله (سبحانه وتعالى) .

3. إدراك مقتضيات الصفات طريق لإثباتها .

4. إدراك أسرار الشريعة وحقيقة الأحكام الشرعية .

5. الطمأنينة .

· أمثلة توضح كيفية التعبد بمعاني الأسماء والصفات .

1.
السميع

2. العزيز

3. الودود

4. السلام

5. الجبار



· أسماء الله وكيف تقوي بها المراقبة

· الصفات الإلهية وتقوية المراقبة

1. الوحدانية

2. العلم

3. العدل

4. القدرة







مقدمة

إن البحث في أسماء الله وصفاته ـ وفــــق ما جاء في الكتاب والسنة ـ هو من أجلِّ المعارف وأشرفها.

ولن نتعرض في هذا المقال المتواضع لكـل ما يتعلق بالأسماء الحسنى ، ولكننا سنعرض لجزئية صغيرة، ولكنها مهمة وعظيمة، ألا وهي الـتـعـبد بأسماء الله وصفاته الحسنى، فإنه باب عظيم يضم بين جوانبه مسائل من التعبد، فـمـنهـــا: إحـصـاء ألفاظها وعددها،... وكذلك: الدعاء بها،... وثالثها: ما نحن بصدده، وهو فهم معانيها ومدلولها .



وفهم معانيها ومدلوها له مترادفات أخرى ذكرها ابن القيم في ثنايا كـتـبــه، وهي: إدراك موجبها، وآثارها، ومقتضياتها، ومتعلقها، ولوازمها، وأحكامها.. فكل هـــــذه المترادفات المتقاربة تعني التعبد لله بأسمائه وصفاته، إذ كل اسم له تعبد مختص به علـمــــاً ... ومعرفة ... وحالاً، وله صفة خاصة، وكل صفة لها مقتضى وفعل، إما لازم، وإما متعدٍّ، ولذلك الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه، وهذا في خلقه، وأمره، وثوابه، وعقابه، وكل ذلك آثــــــار الأسماء الحسنى وموجباتها.



ومــن المـحــــال تعـطـيــــل أسمائه عن أوصافها ومعانيها، وتعطيل الأوصاف عما تقتضيه وتستدعيه من الأفعال.

فمثلاً اسم (السميع) من أسـمـــاء الله الحسنى، ولا بد من إثبات حكمه ومقتضاه، وهو أنه يسمع السر والنجوى، ويسمع ضجيج الأصوات، على اختلاف اللغات.. وإدراك هذا الأثر من اسمه تعالى يورث العبد حالاً من التعبد والمراقبة والإنابة إلى ربه سبحانه وتعالى .



واعلم أن التعبد بالأسماء والصفات الحسـنى درجات ومراتب وأنواع كما سبق، ... وكلما زاد علم العبد بالله جل وعلا ارتـفـــــع في درجــة التعبد، وأكمل الناس عبودية هو المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، فلا تحجبه عبودية اسم عن آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه (القدير) عن التعبد باسمه (الحـلـيــم) (الرحيم) ، ، أو يحجبه عبودية اسم (الرحيم) و (العفو) و (الغـفـور) عن اسمه (الجبار) ، أو التعبد بأسماء التودد والبر واللطف والإحـســـان عـــن أســمـــاء العدل والجبروت والعظمة والكبرياء.. ونحو ذلك.



وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته، فهو عليم ويحب كل عليم..، جواد يحب كل جواد..، عفو يحب العفو وأهله..، حيي يحب الحياء وأهله، شكور يحب الشاكرين، صبور يـحــــب الصابرين، حليم يحب أهل الحلم ، ... وإذا كان سبحانه يحب المتصفين بأثر صفاته فهو معهم بحسب نصيبهم من هذا الاتصاف، وهو ما يسمى بالمعية الخاصة.



إن معرفة معاني الأسماء والصفات يحقق آثاراً ظاهرة لمن تعبّد لله بها، ومن هذه الآثار:

1- الأنس بالله ولَمِّ شعث القلب:

وذلك إنما هو أثر تجلي الأسماء والصفات الحسنى على قلب العبد،.. فترتفع حجب الغفلة والشك والإعراض،.. ويتم استيلاء سـلـطــان المـعـرفـة على القلب وقد استولى على العبد نور الإيمان بالأسماء والصفات ومعرفتها، ودوام ذكرهـا، والنظر إلى الواحد الفرد، الأول فليس قبله شيء، الآخر الذي ليس بعده شيء، الظاهر الذي ليس فوقه شيء، الباطن الذي ليس دونه شيء، سبق كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل شــيء بآخـريـتــه، وعلا فوق كل شيء بظهوره، وأحاط بكل شيء ببطونه .



وإذا بلغ العبد في مقام المعرفة إلى حدٍّ كأنه يكاد يطالع ما اتصف به الرب سبحانه من صـفـات الـكــمـال ونـعــوت الإجلال، وأحست رُوحه بالقرب الخاص، حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقـلـبــــــه وبين ربه، فإن حجابه هو نفسه، وقد رفع الله عنه ذلك الحجاب بـحـولـه وقـوتـه، فأفـضـى الـقـلـب والـروح حينئذ إلى الرب، فصار يعبده كأنه يراه .



2- تعظيم الله (سبحانه وتعالى):

فمن شاهد الصفة فلا بد أن يشاهد متعلقاتها، .. فإن النظر في متعلقاتها يكسب التعظيم للمتصف بها.

فمن شاهد صفة الكلام مثلاً زادته تعظيماً لله تعالى ولا بد ، إذ لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر، وأشجار العالم كلها أقلام يُكتب بها كلام الرب جل جلاله لفنيت البحار ونفدت الأقلام، وكلام الله عز وجل لا يفنى ولا ينفد، فمن شاهد الصفات الأخرى بمثل هذه المشاهدة من العلم والقدرة ونحوها، وجال قلبه في عظمتها: ازداد معرفة وتعظيماً لله سبحانه .



3- إدراك مقتضيات الصفات طريق لإثباتها:

فوجود هذا الكون المُدبر المُحكم الواسع يتطلب ربّاً مالكاً حكيماً عليماً، وكذلك وجود المخلوقات بأنواعها وأشكالها يوجب وجود خالق، ووجود الجناية والتقصير من العبد يوجب إثبات اسم (الغفار).. وغيره من الأسماء والصفات.



4- إدراك أسرار الشريعة وحقيقة الأحكام الشرعية:

فمن كانت له معرفة بأسماء الله وصفاته، واستقرار آثارها في الخلق والأمر، رأى الخلق والأمر ينتظمان بها أتم انتظام، ورأى سريان آثارها فيها، وعلم ـ بحسب معرفته ـ ما يليق بكماله وجلاله أن يفعله، وما لا يليق، فاستدل بأسمائه على ما يفعله وما لا يفعله، فإنه لا يفعل خلاف موجب حمده وحكمته، وكذلك يعلم ما يليق به أن يأمر به ويشرعه مما لا يليق به، فإذا رأى في بعض الأحكام جوراً أو سفهاً وعبثاً ومفسدة، فليعلم أنه ليس من أحكامه ودينه، وأنه بريء منه ورسوله؛ فإنه إنما أمر بالعدل لا بالظلم، وبالمصلحة لا بالمفسدة، وبالحكمة لا بالسفة .



5- الطمأنينة:

والطمأنينة إلى أسماء الرب وصفاته نوعان:

· أحدهما: طمأنينة إلى الإيمان بها وإثباتها واعتقادها،

· وطمأنينة إلى ما تقتضيه وتوجبه من آثار العبودية، فمثلاً: التعبد باسم (القدير) يوجب الطمأنينة إلى القَدَر وإثباته، ويقتضي الطمأنينة إلى مواضع الأقدار التي لا قدرة له على دفعها، فيسلِّم لها، ويرضى بها، ولا يسخط، ولا يشكو، ولا يضطرب إيمانه، فلا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه الله؛ لأن المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه وقبل أن يُخلق.

فهذه طمأنينة إلى أحكام الصفات وموجباتها وآثارها في العالم، وهي قدر زائد على الطمأنينة بمجرد العلم بها واعتقادها .



أمثلة توضح كيفية التعبد بمعاني الأسماء والصفات:


سنتطرق لبعض الأسماء والصفات، وإلا فإن توضيح ما مضى لجميع الصفات أمر يطول، ولكن يمكن فهم الأسماء والصفات على ما سنذكره:



1- السميع:

إذا استشعر العبد بقلبه سمعه سبحانه لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها، وأن سواء عنده من أسر القول ومن جهر به، و لا يشغله من جهر عن سمعه لصوت من أسر، و لا يشغله سمع عن سمع، و لا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها، بل هي عنده كصوت واحد، فعلم أن الله يسمعه: فلا يقول إلا خيراً، بل يستحي أن يسمع الله من كلامه ما يخزيه ويفضحه عنده، وإنما يشتد في ألا يسمع منه إلا الكلام الحسن، بل ويكثر منه؛ حتى يحظى عند ربه سبحانه.

ويستشعر أن الله يـســمـــع كلام أعدائه، وأن الله ليس بغافل عنهم ولا يرضى ما يقولون، فعند ذلك يعلم أن الله معه وأنه ناصره لا محالة، وقد قال ابن القيم في النونية معبراً عن هذا المعنى:

وهو السمـيع يرى ويسمع كل ما في الكون من سر ومـن إعـلان

ولكل صـــوت منـه سمـع حاضر فالـســـر والإعــلان مستويــان

والسمع منه واسـع الأصــوات لا يخفـى عليه بعيدهــا والداني




2- العزيز:

وسنتعرض لطرف مــن معنى هذا الاسم العظيم، وهو مشاهدة عزة الله سبحانه في تقديره تعالى على عبده بالمعاصي والذنوب.

فيشاهد عزة الله بـــأن قلَّب قلبه وصرَّف إرادته على ما يشاء سبحانه ، وحال بين العبد وقلبه وأن يعرف أنه مدبَّر مقهور، ناصيته بيد غيره، لا عصمة له إلا بعصمته، ولا توفيق له إلا بمعونته فهو ذليل حقير، في قبضة عزيز حميد .



3- الودود:

فهو يحب عباده الصالحين ويحبونه؛ فإن العبد إذا شاهد بقلبه غنيّاً كريماً جواداً، عزيزاً قادراً، كل أحد محتاج إليه بالذات، وهو غني بالذات عن كل ما سواه، وهو ـ مع ذلك ـ يود عباده ويحبهم، ويتودد إليهم بإحسانه وتفضله عليهم: كان له من هذا الشهود حالة صافية خالصة من الشوائب .



4- السلام:وحقـيـقـــة هـــذه اللفظة السلام هي: البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب، فإذا علمت أن الله هو السلام فتعلم أن تجاوزه عنك في معصيتك وذنبك سلام من أن تكون عن حاجة منه أو ذل أو مصانعة، كما أن عذابه سلام عن أن يكون ظلماً أو قسوة، بل هــــــو محض حكمته وعدله.

وشرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضـطــــراب وخــــلاف مـصـلـحـة العباد ورحمتهم.

وكذلك محبته لمحبيه وأوليائه سلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق من كونهــا محبة حاجة إليه أو تعلق أو انتفاع بقربه.

فتأمل كيف تضمن اسمه السلام كل ما نُزِّه عنه تبارك وتعالى ، واستشعر هذا بقلـبـك؛ فإنه يبعث على تعظيم ربك سبحانه .



5- الجبار:

ولاسمه الجبار ثلاثة معان:

1- أنه الذي يجبر ضعف الضعفاء من عباده، ويجبر كسر القلوب المنكسرة، فكم جَبَر من كسير، وأغنى من فقير، وأعز من ذليل، فــــإذا عرف العبد هذا المعنى تعبد لله بمقتضاه، وسأله بأن يجبر كسره، ويعينه على عبادته.

2- أنه القهار، فهو يجبر عباده على ما أراد مـمـــــا اقتضته حكمته، فيستشعر العبد أن أفعاله بقدرة الله، ويعلم أن أعداء الدين لن يصيبوه إلا بما قضى الله وأراد.

3- أنه العلي بذاته فوق جميع مخلوقاته، فلا يستطـيــع أحد منهم أن يدنو منه، فيبعثه ذلك على تعظيم ربه وإدراك عزته واستعلائه .





لا غرو أن صفات الله وأسماءه غير محـصــــورة؛ لأن كمالاته غير متناهية، وما أخبرنا به الشرع منها يكفي لصحة الاعتقاد في الله وتحقـيـق العبودية له والإحساس بعظمته وجلاله وكماله، وملازمة خشيته ومراقبته في السر والعلن. عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: « لله تسعة وتسعون اسماً ـ مئة إلا واحداً ـ لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر » .

والراجح أن المقصود بحفظ أسماء الله هو العمل بها ومراعاتها على الدوام؛

قال ابن بطال: طريق العمل لها : أن الذي يسوغ الاقتداء به فيها كالرحيم والكريم، فإن الله يحب أن يرى حـلاهـــا على عبده؛ فليمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها، وما كان يختص بالله ـ تعالـى ـ كالجبار والعظيم فيجب على العبد الإقرار بها والخضوع لها وعدم التحلي بصفة منهـــا، وما كان فيه معنى الوعد نقف منه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد نقف منه عند الخشية والرهبة، فهذا معنى أحصاها وحفظها .

فالمؤمن وهو يـطـالـع أسـمـاء الله الحسنى وصفاته العلى في القرآن والحديث ويتكرر ذكرها على مسامعه مرات عـديـــدة، ترســخ معانيها في نفسه فيزيد إيمانه بالله ومعرفته بصفاته وبتغير سلوكه بما يناسبها ويتجاوب معها.



أسماء الله وكيف تقوي بها المراقبة:

يمكن تحديد العلاقة بين أسماء الله الحـسـنى وتحقيق المراقبة الإلهية واستشعار المسؤولية تجاه العلي القدير، بتمييزها إلى مجموعات بحـســب أثرهـــا المرتقب في تكوين الإحساس بالمسؤولية وتنميته:



1- مجــمـوعـة تضم أسماء الله الحسنى التي تشتمل على معاني القدرة والجبروت والملك والتدبير والخـلــق... مـثـل: الـقـــادر، القاهر، الملك، الجبار، المتكبر، العزيز، المهيمن، الخالق، المصوِّر، الرزاق.

وهذه الأسماء تثير في النفس الإحساس بعظمة الله واستحقاقه للطاعة والعبودية.

2- مجموعة تضم أسماء الله الحسنى التي تحمل معاني العلم ومراقبة أفعال العباد مثل: الـعـلـيـم، الرقـيـــب، الحفيظ، السميع، البصير، الخبير، الشهيد؛ فهذه الأسماء توحي بانكشاف أحوال العباد الظاهرة والباطنة لعلم الله، فتقوى بها مراقبة النفس لما يصدر عنها من إرادات وأعمال في جميع الأوقات والظروف.



3- مجموعة تضم أسماء الله الحسنى التي تفيد معاني الحلم والعفو والمغفرة مثل: الحليم، الرحيم، الغفور، الحنان، المنان، العفو، التواب.

وهي أسماء تملأ مـعــانـيـهــا قـلـب الـمـذنـب أملاً ورجاء في الرحمة والمغفرة وقبول التوبة لاستئناف السير على الصراط المستقيم.



4- مجموعة تضم أسماء الله الحسنى التي تنطوي على معاني المحاسبة والعقاب والعدل والحكم مثل: الحسيب، الحكم، العدل، الحق، مالك الملك... فالمكلّف الذي يؤمن بهذه الأسماء تذكِّره بأن الله سيبعثه بعد الموت ويعرض عليه أعماله، من خير وشر، ثم يجازيه عنها بعدل وإنصاف، فيحمله ذلك على مراقبة نفسه والمسارعة إلى فعل الصالحات.



الصفات الإلهية وتقوية المراقبة:

وبتمعن كل صفة على حدة يتضح أثرها في تـقــويـــــة الإيمان بالله ـ تعالى ـ وإحياء معاني الأمانة والتكليف في أعماق النفس، وتذكّر يوم القيامـــــة، ومــــا ينتظر النفس من فوز أو خسران. وفيما يلي أمثلة عن ذلك:

أولاً: الوحدانية:

ومعناها أن الله واحد في ذاته وصفاته وأفعاله لا شريك له في خلق الخلائق وتدبير أمرها، وهي جميعاً ملكه ورهن قبضته وطوع مشيئته الغالبة. وكل هذا الإحساس الذي تنشئه صفة الـوحــــدانية في النفس الإنسانية يخدم مبدأ المسؤولية ويجلِّيه في الفكر والشعور. فالخالق الواحد هــو: الآمر، الناهي، الرقيب، الحسيب، المعز، المذل، الحكم، العدل، لا شريك معه يُخشى فيطاع أو يُرجى فيسأل؛ وإنما هو إله واحد فرد صمد.



فالإنسان إذا تحقـــق من معنى الوحدانية، أشرقت في قلبه معاني المسؤولية العظمى تجاه الذي خلقه فسواه ثـم أطـعـمـــــه وسقاه؛ فأدرك أن الذي يستحق الطاعة والعبادة هو الله الواحد الديان، وأنه وحده أهلٌ للخشية والتقوى والشكر والإنابة، فإذا أسلم وجهه إليه اطمأن على نفسه من كل الشرور، وأمن عليها من كل الأخطار، وتيقن أنه لا يقع في ملك الله إلا ما أراد واختار.

فالتوحـيــــد الذي تقوم عليه الديانات السماوية ينسجم تماماً مع مسؤولية الإنسان بحيث تتحدد به وجهته في الحياة، ويحتمي في ظله من التمزق النفسي والتشتت الفكري الملازم لتعدد الأربـــــاب وتضارب مراداتهم {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَــلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .



إن وحدانية الله ـ تعالى ـ تحقق التوحيد في مصدر المسؤولية ومقاييسها ونتائجها، وتقيمها على أساس العدل المبين. ويبرز ذلك في متعلقات التكليف من الجهات التالية:

ـ توحيد مصدر التكليف: فمصدر المسؤولية الشرعية هو الله وحده، وكل تكليف يتوجه إلى الإنسان في إطار الشرع المستوعب لقضايــا الحياة يلزم أن يؤسس على مراد الله من عباده، وكل اجتهاد تشريعي لا بد أن يوصل بكـلـيـــات الدين ومقاصده العامة، ويربط إلى الأدلة الشرعية المعتبرة {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ} . وقال ـ سبحانه ـ {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاًذَنْ بـِـــهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

وزادت السنة هذا الأمر تأكيداً ووضوحاً. فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله: « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ».

ـ توحيد التكليف: الناس كلهم موحدون تجاه مسؤوليات الدين وتكاليفه العامة الاعتقادية والـعـمـلـيــــة؛ فلا يملك أحدهم أن يزيد عليها أو ينقص منها إلا وفق ما يسمح به الشرع وضوابطه الثابتة، وهذا ما يسقط أعذار المتقاعسين أمام الله، ويجعلهم خاضعين للمحاسبة الاجتماعية التي وكل أمرها للسلطان.



ـ توحيد المكلِّــف: فـالـمكلِّف هو الله ـ تعالى ـ في جميع أوامر الدين ونواهيه بحيث يكون امتثال العبد في جميع مـسـؤولـيـاته لله وحده، ولمن أذن الله في طاعته وجعلها دليلاً على تنفيذ أمره، كطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأولـي الأمـــر: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِـيـعُــــوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَـــرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاًوِيلا} .

وأمر ببر الوالدين والإحسان إليهما: {وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيـْـسَ لَــكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .



فطاعة غير الله مشروطة بإذن الله ومقيدة بدليل الشرع عليها؛ لذا فإنها تمنع عندما تؤدي إلى معصية الله ومخالفة ما أمر به. وقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه تحت باب: (لا تطيع المرأة زوجها في معصية)، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها فتمعط شعر رأسها فجاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له فقال: إن زوجها أمرني أن أصل في شعرها، فقال لا، إنه قد لعن الموصلات).

بـل إن الإنـســان مـطـالــــــب بأن يعصي نفسه، ويخالف هواها إذا خالف تعاليم الشرع وتوجيهاته: {وَأَمَّا مَنْ خَــــــــافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى (40) فَإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَاًوَى} .



ثانياً: العلم:

يعرف علم الله بكونه صفة ينكشف بها المعلوم على ما هو به انكشافاً لا يحتمل النقيض بوجه من الوجوه. فلا تغيب عن علم الله كليات الوقائع والحقائق ولا جزئياتها الدقيقة، كما لا تنحجب عنه أحوال الظاهر ولا أحــوال الباطن، ولا يحول دونه زمان ولا مكان، وإنما كل ذلك أمام علم الله سواء. وتعتبر صفــة العلم من الصفات التي يحكم بها الشرع والعقل لله ـ تعالى ـ، لأنها توجب له ما هو أهله من العظمة والكمال.



ولقد حظيت هذه الصفة في نـصـــــــوص القــرآن الكريم بمكانة خاصة لارتباطها الشديد بالمسؤولية الإنسانية، وما تنبني عـلـيـــــه من الإحساس بمراقبة الله المطبقة على أعمال الإنسان الظاهرة والباطنة، لذلك نجد الإشارة إليها تتخلل آيات القرآن من أوله إلى آخره، مع التركيز على علم الله بأفعال العباد حسـنـهـــا وسيئها، لكي يظل الوعي بها قائماً في أعماق النفس، وباعثاً لها على الإجادة والإحسان في القصد والعمل. ثم إنه يربط دائماً بين الاعتقاد في هذه الصفة وإصلاح السلوك الإنسانـــي: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} .

ويسوق الحديث عن العلم الإلهي المحيط بكل شــيء، مشفوعاً بما يترتب عنه من إحصاء للأعمال والمحاسبة عليها، والمجازاة بالنعيم والجـحـيـم: {وَإن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَـــــاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وقال أيضاً: {قُلْ إن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَـــوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَـــــداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} .



فتيقن المؤمن بأن الله عليم بما يصنع بجوارحه وما يعزم عليه في قرارة نفسه، يجعله دائماً نـازعـــــاً إلى الطاعة وفعل الصالحات، مجانباً للمعصية بعيداً عن الخبائث، مراقباً لنفسه بنفسه وحذراً من نفسه على نفسه، متعبداً بمقتضى أسماء الله التي ترتبط بصفة العلم. قال ابن قيم الجـــــوزية: (والمراقبة هي التعبد باسمه: (الرقيب) (الحفيظ) (العليم) (السميع) (البصير). فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة).



ولقد أبرز القرآن العلاقة القوية بين الاعتقاد الصحيح في صفة العلم الإلهية والامتنــاع عـن الآثـام والأرجـاس، والمسارعـة في أعمـال البـر والطـاعـات، فقـال ـ تعالى ـ: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانـُــــونَ أَنفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُــــونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} . وقال أيضاً: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} .

فبقدر قوة إيمان المرء بحقيقة علم الله تزداد خشيته وورعه ويحسن عمله، وترتدع نفسه عن المنكرات والفواحش، وبقدر ضعف إيمانه وجهله بصفات الله وأسمائه الحسنى يكثر زلله، ويتوالى انحرافه.



ثالثاً: العدل:

إن الله ـ تعالى ـ أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، بل لا عدل إلا عدل الله الذي من أنواره يقبس العادلون، وبهديه يهتدي المقسطون إلى الحق والإنصاف.



ويمكن إبراز أثر صفة العدل الإلهية في سلوك المؤمن في اتجاهين:

أ- اتجاه الاطمئنان: فالمؤمن يطمئن إلى حكم الله وعدله فيما أوجب ومنع وما أمر ونهى، وإلى أن شرع الله ملائم لواقع الإنسان متجاوب مع طبيعته محقق لمصلحته، ودافع لمضرته، فإذا حصل اليقين فـي النفس بعدل الله نشطت الجوارح في الطاعات ونهضت بالواجبات، ولم تتثاقل في أدائهـــا، وعزفت عن المحرمات والمنهيات، وتورعت عنها لأنه ما خامرها شك في عدالة التكالــيـف الشرعية، وعدالة إفراد الله وحده بالعبودية الحقة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} .

ويطمئن الإنسان على نيل الأجر الموعود عن عمله المبرور وسعيه المشكور في الدار الآخرة: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُــــونَ فِـيـــــهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .



ب- اتجاه الخوف: فإذا استحضر المرء أن عدل الله يقتضي المجازاة على قدر العمل: إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً، تملّكه الخوف من عقاب الله الشديد وخشي أن يقصر عمله عن استحقاق النجاة، فيكون من المعذبين {سَيُصِيبُ الَذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَــدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} . وأدى به التفكير في ذلك إلى أن يُحكم المراقبة علـى نفـسـه ويتشدد في محاسبتها على الكبيرة والصغيرة من الذنوب، ورام الاستكثار من الطاعة والعبادة حتى يضمن لنفسه يوم القيامة الدخول في زمرة الفائزين المنعمين.



رابعاً: القدرة:

إن قدرة الله تامة كاملة لا تحدها حدود أو تقيدها قيود، فإذا أراد الله أمراً كان كما أراد من غير نقصان، وإذا وعد بشيء وفى به وفاء تاماً كاملاً؛ وما يعجزه ـ سبحانه ـ شيء في الأرض ولا في السماء.

فالقدرة الإلهـيــة التي بها خلق الإنسان أول مرة وخلقت السماوات والأرض، هي ذاتها القدرة التي تبعث الأموات من قبورهم وتعرض عليهم أعمالهم غير منقوصة، وهي القدرة أيضاً التي خلقت نعيم الجنة الأبدي وعذاب جهنم السرمدي. والإيمان بقدرة الله يجعل المكلّف واثقاً مــن علم الله المحيط بكل شيء وبعدله الذي لا تشوبه شائبة ظلم، وبصدق وعده ووعيده وتحققه في الدنيا والآخرة؛ إذ إن قدرة الله ـ تعالى ـ عامة شاملة تتكامل مع صفات الله الأخرى وتتضافر آثارها جميعاً في بناء النفس الأمينة المؤمنة المستقيمة.

ولهذا اقترن ذكر علم الله وحسابه للإنسان بذكر قدرته المطلقة في آيات عديدة منها قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البَعْثِ فَإنَّا خَلَقْنَاكُُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَـعْــــــدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي القُبُورِ} .

فالإيمان بعلم الله المطلق وعدله التام، لا ينتج عنه إحساس النفس بالمسؤولية دون الإيمان بقدرة الله العظيمة، التـي تصــاحب علم الله وعدله وباقي صفات الذات الإلهية، محققة وحدانية الله ـ تعالى ـ الذي يُعبد ويتقى ويُسأل بجميع أوصافه وأسمائه.
a
منقول من موقع فضيلة الشيخ محمد بن حسين يعقوب
3
954

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

تراب المسك
تراب المسك
جزاك الله كل خير
كويتية حرة
كويتية حرة
موضوع جدا قيم وله مكانه كبيرة ومهمة من جانب العبادة ..... والحمدالله يستهوينى البحث أكثر عن هذا الموضوع ووجدته أمامي لكي أستفيد منه .... وجزاك الله خير الجزاء حبيبتى مسلمة على هذا الموضوع الكبير المعاني ...
Muslima
Muslima
جزاكم الله خير
أسأل الله أن يجعلنا ممن نتعاون على البر والتقوى وأن ينفعنا وينفع بنا إنه سميع مجيب