تابع للمبحث الثامن: العلم بأن الله واهب الحياة والرزق- لا بد من الأخذ بالأسباب
ولا بد هنا من التنبيه على أمر مهم جداً، وهو أن الجاهل عندما يعلم هذه المعاني التي شرحت في هذا المبحث والنصوص الدالة عليها، والواقع المشاهد الذي يدعمهما، قد يظن أن العمل لحفظ الحياة وصيانتها والحصول على الرزق يعتبر عبثاً، ما دام أن الأجل بيد الله، لا يقدمه أحد لحظة ولا يؤخره أخرى، وما دام أن الرزق من عنده، لا يمنعه أحد ولا يعطيه – أي أن الله وحده واهب الحياة والرزق - .
وقد تبادر هذا المعنى إلى ذهن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابه الرسول صلى اله عليه وسلم بأن الإيمان بالقدر شيء ووجوب العمل والسعي شيء آخر، فالقدر بالنسبة للإنسان مجهول لا يدري ماذا قدر عليه، والعمل مشروع كلفه الله إياه، فلا يجوز ترك العمل اتكالاً على القدر الذي سبق في علم الله كما في حديث علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس، فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ((ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها في الجنة والنار، وإلا قد كتب شقية أو سعيدة)) فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. قال: ((أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة)) ثم قرأ: )فأما من أعطى واتقى ...( الآية .
فالقدر المجهول لا يمنع السعي المشروع، ولا يجوز لتارك العمل المشروع الاحتجاج بمضي القدر، ولهذا كان الذي يُقتَل دون نفسه شهيداً مع أن أجله قد قضى أن يقتله ذلك القاتل المعتدي الذي حاول المقتول أن يدفعه عن القتل، وأمر الله تعالى الإنسان بكسب رزقه والسعي له، كما قال تعالى: )وهو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور( .
فعلى الإنسان أن يبذل طاقته في تحصيل مصالحه، ودرء المفاسد عنه ولكن لا يركن إلى سعيه ذلك ويعتقد أنه ينشئ النتيجة ولا بد، بل يعتقد أنه يعمل السبب المشروع وأن الله هو خالق السبب والمسبب معاً ولا قدرة لأحد على دفع ما أراد الله تعالى وقوعه.
قال ابن حجر رحمه الله في شرح حديث عمران بن حصين الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل يعمل لما خلق له، أو لما يسر له)) : "وفي الحديث إشارة إلى أن المآل محجوب عن المكلف، فعليه أن يجتهد في عمل ما أمر به، فإن عمله أمارة إلى ما يؤل إليه أمرره غالباً، وإن كان بعضهم قد يختم له بغير ذلك" .
وهذا هو معنى التوكل على الله الذي دل عليه القرآن والسنة، فليس من التوكل ترك الأسباب، وإنما هو الاعتماد على الله، وعمل السعي المشروع، وعدم اعتقاد أن السعي ينشئ النتيجة، بل المنشئ هو الله تعالى وقد بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حيث جمع بين الاعتماد على الله، مع فعل السبب المشروع، كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)) .
والشاهد في الحديث أنه شبه لمتوكلين على الله حق توكله بالطير ووصفها بوصفين. الأول: أنها تغدو خماصاً، أي تغدوا من أوكارها لطلب الرزق وهي جائعة، والثاني: أنها تروح بطاناً أي تعود إلى مقارها وهي مملوءة البطون، ومعنى هذا أن المتوكل على الله يسعى لكسب رزقه مع اعتماده على الله ولا يتكل على القدر.
هذا الموضوع مغلق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️