قصة قصيرة........منقوله من موقع جسد الثقافة....... للكاتبة جلنار
النتائج سلبية .. سنحاول مرة أخرى .. راجعينا بعد شهرين.
لم أنبس ببنت شفه .. تطلعت إلى وجهه كأني أريد التأكد من كلماته التي فجرها بدون اكتراث ، تطلع إلى مساعدته وردد :
- استدعي المريض التالي .
ضممت حقيبتي وغادرت بصمت .. تطلعت إلى الساعة ، كانت تشير إلى الحادية عشر صباحا .. حمدت الله أن زوجي لم يحضر معي هذه المرة .. دلفت إلى دورة مياه قريبة .. بلا إدراك رفعت غطاء وجهي لأتأمل شحوبه .. عينان غائرتان يكللهما السواد .. أسندت رأسي إلى الحائط وأغمضت عينين تسللت منهما حبات دموع حارة .. حاولت حبسها فالتقطت منديلا لكنني شعرت بأني بحاجة ماسة للبكاء .. حتما إن لم أفعل فسأنهار أمام زوجي إن سألني عن النتائج .. ارتفع صوتي في شهقات يرددها صدى المكان البارد.. تحسست بطني بلا شعور .. تمنيت أن يكون منتفخا بحملٍ لطيف بداخله .. ابتسمت وأنا أعيش هذا الحلم الجميل .. شيء ما أعادني إلى الواقع المرير.. أني بـــلا أمل .
أخيرا .. سلمت بالواقع .. أقنعتُ نفسي أنني ربما أوفق في المراجعة القادمة.. بكل تأكيد سأخرج من هذه الغرفة باكية كهذه المرة .. بفرح .
حتمًا ..
الساعة الثانية عشرة ..
توجهت إلى الصيدلية قبل إغلاقها .. لوحت إلى المسئولة بورقتي , كالعادة أعلم تماما ما تعطيني إياه ، صاحت بي :
- انتظري .. جرعتك إبر سيُحضِرها لك الصيدلي .. قد تستغرق قرابة العشر دقائق .
ابتسمت في مرارة وأنا أردد في سري : ( بل يستغرق إعدادها خمس عشرة دقيقة بالضبط ) .. لمَ تشوه الحقائق هذه المرأة ..؟ لا أظنها متضامنة مع حالتي المزرية فكل فرد في هذا المشفى بل في كل مشفى يعمل في آلية مميتة .. بلا مراعاة لشعور المرضى !!
ربما لأنها في نظرهم مجرد وظيفة .. اعتادوا الحالات البائسة فيها ..!
أشارت بيدها إلى صالة الانتظار المجاورة للصيدلية .. كنت قد بلغت أعتابها قبل أن تهم بالحديث فكل ركن في المشفى مختزن في ذاكرتي ..بل إن كل إصلاح في المنشئات كنت أضطلع بمعرفته قبل بعض العاملين وربما قبل الصحف والصحفيين .. وأتابع مراحل وضع حجر أساسه وحتى قص شريطه..!
ارتفع صوتها رتيبا :
- نورة عبد الله .. وصفتكِ جاهزة .
تطلعتُ إلى الساعة في ثقة .. وابتسمت في سخرية وأنا أتمتم :
- خمس عشرة دقيقة بالضبط .. وليست عشر !
تطلعت إلي ذاهلة .. ثم هزت رأسها في استهزاء وهي تردد :
- الإبرة كل يوم وفي نفس الموعد .. لا تنسي أن تحفظيها في مكان بارد لئلا تفسد .. طبعا المشفى هنا مزدحم لذا لا تفكري في الحضور .. اذهبي بها إلى أقرب عيادة طبية خاصة حول منزلكِ ..
ألقيت الوصفة بإهمال في حقيبتي .. لم يكن كلامها جديدا علي .. بل إنني أسمعه كل مرة تكون نتائجي فيها سلبية .. كان بـ إمكاني أن أنوب عنها في ذكر طريقة الوصفة .. وكيفية استخدامها لو أرادتْ .. فقد كانت أمرا حفظته عن ظهر قلب !
ارتفع صوت رنين هاتفي الجوال .. بلا إدراك ارتعدت فرائصي مع تزايد رناته ، كانت تلك الرنة إشارة أنه هو المتصل .. زوجي ولا أحد سواه .. رفعت الهاتف إلى أذني بصعوبة ..
- نورة انتهيتِ ..؟ أنا بالخارج ..
- أوه .. حسنا سأخرج ..
ألقيت جسدي في المقعد الأمامي .. لم أنظر إليه .. بل إني لم أسلم عليه حتى .. هو بدوره لم يسألني .. أظنه كان يعرف إجابتي مسبقا .. بل إنه حفظها !!
ارتجفت لمجرد التفكير في هذا .. أحسستُ أنه التقط ذبذبات جسدي المتوترة وأنفاسي الوجلة .. مد يده يتحسس يدي وضغطها في قوة ..
ضربت رأسي بألم بمسندة مقعدي ..
يا لله .. يتضامن معي ..؟ وأنا ..أنـــا عاجزة أن أمنحه ابنا يحمل اسمـــــــه !!
دهور مضت حتى وصلنا إلى منزلنا .. ترجلت من السيارة وانتظرت قدومه ليفتح الباب .. ناداني :
- نورة .. استخدمي مفتاحك .. لن أنزل ، لدي عمل .
- لكن .. وقت دوامك انتهى !
- نعم .. لكن سأذهب لأزور الوالدة .
- والـــ ـ ـغداء ؟
- سأتغدى عندها .. أنتِ متعبة .. لن أرهقك أكثر يا حـ .. يا نورة ..
بالكاد أخرجت المفتاح من بين أكوام الأدوية في حقيبتي .. صفقت بالباب في عنف وسقطت بانهيار على الأرض .. بكيت كالأطفال كما لم أبكِ قط .. كنت أتمنى أن لا أراه بعد عودتي من المشفى لكن ذهابه لبيت أهله في هذا الوقت أزعجني .. علمت أنه لم يفعل ذلك إلا هربا .. من البيت الساكن حيث لا حياة فيه ولا أنفاس إلا أنفاسه وأنفاسي .. فقط !
ألقيت بالحقيبة في غضب .. تمنيت أن تتحطم قوارير الإبر البغيضة .. دلفت الصالة .. أفزعني صمت عصفور الكــناري .. لم أعلم أي حزن أصابه اليوم فألجمه عن التغريد .. هل قرأ حروف الحزن المنقوشة على وجهي فآثر الصمت .. ؟ لفت انتباهي غياب زوجه .. في وجل مددت يدي داخل عشهما الخشبي .. صرخت في صمت وأنا أخرج جسدها الميْت وارتفع بكائي مع ارتفاع صوته مغردا بحزن وألم .. لففت جسدها في منديل ورقي ثم وضعتها وعدت بـ ملعقة صغيرة لأحفر قبرها في تلك المساحة القاحلة في حديقتي الصفراء .. ساعة مرت وأنا أحفر قبرها بمهل .. بقدر ما تمكنني تلك المــلعقة الصغيرة .. غطيتها بورقة صفراء .. وألقيت بـ الحفارة الصغيرة في إهمال ..
عصفورة ميتة ..
حديقة قاحلة صفراء ..
وأنــا ،، تلك العقيم المجدبة .. تماما كأرض بور !
مر اليوم بطيئــا قاتلا .. لم يعد فيه زوجي إلا الساعة العاشرة .. كنت حينها التجأ إلى فراشي .. ناداني فلم أجبه ، اقترب مني فأغمضت عيني بقوة لئلا يلحظ يقظتي ، أحسست بيده تمتد لتتحسس جبيني إلا أن يده ارتدت في عنف .. ثم خرج من الغرفة ..
وانهمرت دموعي بغزارة ..
طيلة الليل لم أهنأ بنوم أو راحة .. كنت أتقلب كالمحمومة في فراشي .. كانت صورته تترائى في مخيلتي .. ارتداد يده .. ذاك النداء الذي أوشك أن ينطقه ظهيرة اليوم ثم تراجع عنه .. تصرفه .. في كل صورة مؤلمة كانت أحشائي تتمزق من القهر .. أعذره .. ثم لا أعذره .. أرى أن له الحق ثم أتراجع في جنون .. وغضب !
خرجت إلى الصالة حيث كان ينام على أريكته جالسا .. أمامه صحن مكسرات مختلفة .. و أربع زجاجات بيبسي فارغة ..هكذا كان يفعل عندما يعتريه ضيق .. يفرط في الأكل بشراهة كأنما يدفع انتقامه فيه .. كنت أعلم أنه يعيش في حالة صراع أليمة .. أهله الذين يرددون حكايا الإنجاب في كل جلسة ..( فلان تزوج معك في نفس السنة ولديه الآن أربعة أولاد وزوجه حامل .. وذلك الذي تأخرت زوجته سنة وتزوج عليها أخرى ).. كانوا يرصفون قصصهم البلهاء في حضوري وفي غيابي على حد سواء ..
لفت انتباهي صوت رنين رسالة مستلمة .. تسللت على أصابع قدمي .. فتحتها ( محمد ، هل تذكر أستاذة سعاد التي معنا في المدرسة ؟ فتحت معها الموضوع بشأنك ووافقت مبدئيا .. ليتك ترد علي صباحا لنقوم باللازم ..)
المرسل : أختي الكبرى
أحسست بحنق عارم .. بموجة غضب تجتاح كياني .. أوَ تسميها أختي الكبرى ..؟ كان من الأولى أن تغيره إلى رمز أشد تعبيرا عما يعتمل في صدري .. عدوتي الكبرى .. المدبرة الكبــ ..!!
لم أستطع حذف رسالتها .. ربما وصلت لمرحلة نهائية لم أعد أكترث بالأمر بتاتا ربما لم يعد إحساسي يعمل بعد ذلك .. وألقيت هاتفه بجواره بلا اكتراث.
صباح اليوم الثلاثين .. لملمت شعري الأشعث .. حاولت جاهدة أن أضع شيئا من كحلٍ ليخفف تورم عيني .. حملت حقيبتي الصغيرة المكتظة بالأدوية .. و توجهت إليه ..
- أوصلني لمنزل أهلي .. أريد أن أذهب هناك .. بعد إذنك طبعا !
- لا بأس .. فرصة ترتاحين .
ثرت في وجهه : من قال لك أني متعبة أصلا ..؟ أنت وأفكارك ! أستغفر الله!
أصابني الوَهم بسببك ..
- طيب لا بأس .. لا بأس .
كانت تلك المرة الأولى التي انفجر بها في وجهه .. أصابني شيء من تأنيب الضمير لكني لم أهتم .. فبعد أيام سأكون الزوجة رقم واحد وخلفي رقم ثانٍ.
خمسة عشر يوما قضيتها في منزل أهلي .. كانت أعصابي ثائرة .. تركيزي الأكبر أن أحمل جنينا لتكون النتيجة إيجابية .. لأكسر فضول وعنجهية ( أختي الكبرى ) تلك ..
تحدثت معي الطبيبة :
- نورة .. لو كان تركيزكِ على الحمل عميقا صدقيني لن تكون النتيجة إلا سلبية .. انسي الأمر تماما ..
أنساه ؟؟!
كدت أن أنقضّ عليها .. أهشم وجهها .. كيف أنساه ؟.!
وجه زوجي المتغضن همّا يطاردني صباح ومساء .. نظرات أهله الشامتة تحاصرني .. منظر الأطفال .. بكاؤهم .. ضحكاتهم .. كلها أمور تدفعني للجنون ..
أعتصم وحيدة في تلك الغرفة ببيت أهلي .. كـ موبوءة .. صوت الطبيبة يطاردني( لن تكون النتيجة إلا سلبية ) .. يد زوجي المرتدة .. النظرات الحانقة .. الرسالة البغيضة .. وتلك الأستاذة التي أبدت موافقتها ..
طفل ..
طفل ..
أيام تمر .. وزوجي يعرض علي العودة لمنزله .. كنت أتوسل إليه حينا وأصرخ أخرى .. لن أعود إلا بطفل في أحشائي ..
و مرت تسعة وخمسون يوما ..
وكان الغد هو اليوم الأول من الشهر الهجري الجديد ..
ضربات قلبي تخفق ..
يداي ترتجفان ..
بصعوبة ارتديت عباءتي لأذهب إلى المستشفى .. عرض علي زوجي الذهاب معه .. لكني رفضت بشدة .. سأذهب مع أخي .
قبل أن أغادر ..
همست لأخواتي :
- رددن الدعاء لأجل أن أكون حامل .. إذا كانت نتيجتي إيجابية سأشتري لكل واحدة منكن ما تريد ..
تريدين حلوى ؟؟ وأنتِ ماذا ؟
كل شيء .. كل شيء ..
الوقت يمر بطيئا .. لمحت الممرضة ذاتها قادمة , قبل أن تنطق اسمي لوحت إليها :
- أنا نورة .. نورة عبد الله .
- من هنا ماما ..
( ماما ) آه ليتني أسمعها .. ليتني !!
دخلت الغرفة .. الطبيب صامت كالعادة .. كنت أنتظر كلماته بفارغ الصبر .. بالكاد تحدث .. أمسكت بقلبي .. أنفاسي اللاهثة المضطربة تتردد في عنف.. ابتسم لي مواسيا وهتف برتابة باردة :
- النتائج سلبية .. سنحاول مرة أخرى .. راجعينا بعد شهرين .
*************

اسورة @asor
عضوة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
لكن أسلوب عرضها ... تلمسها للمشاعر الدفينة .. بل اختراقها أعماق الشعور .. هو الذي منحها الجمال ...
احتيار جميل يا أسورة
شكرا لك :26: