https://d2s63a22uzwg40.cloudfront.net/1/4/0/9/5/5/0/5327d9ef0d6e4.jpg
اخبار الساعة - حوار محمد الأحمدي التاريخ : 16-03-2014
مهند.. أو كما أطلق عليه المقاتلون القوقاز في سوريا «مهندوف»، شاب سعودي لم يتجاوز التاسعة والعشرين من عمره، يصف نفسه بأنه «شاب طايش عايش متعايش»، لكنه تحوّل في ليلة واحدة فقط، ليلة ومئات الصور المفجعة والإغراءات المحفزة، إلى «مقاتل جهادي» في قاموس التطرف، خرج وحيدا إلا من حنقه على قتلة المسلمين والأفكار الجديدة عن الجهاد حسب مفهوم الذين غرروا به، خرج وحيدا من شمال المملكة، وتجاوز حدود أربع دول بحثا عن «الشهادة» بحسب ما كان يعتقد، لكنه وجد شيئا غيّر كل المفاهيم وصحح كل الاعتقادات، فقرر النجاة والهروب في ليلة ظلماء، نصب له أفراد الكتيبة التي تورط معها كمينا لتسليمه إلى النظام، بعد حجز كل ممتلكاته وجميع أوراقه الثبوتية، وفي أولها جواز السفر وبطاقة الهوية الوطنية. مهندوف.. تردد كثيرا في كشف أوراقه وسرد قصة المأساة للإعلام، ولم يوافق على هذا الحوار إلا بعد شروط فرضها علينا صراحة، وقال «الضمان هو موافقتكم على شروطي»، التي تركزت في طمس ملامح وجهه من صوره في ساحات القتال، وعدم الإشارة إلى منطقته، ولا إلى اسم القبيلة.. مقابل الحديث بشفافية عن كل ما جرى له، من النشأة والتفكير في السفر للقتال، إلى ما دار داخل أروقة التحقيق. وافقنا واتفقنا، وكان الموعد في أحد مقاهي شارع (التحلية) في الرياض، فلم أتردد وتخليت عن كل التزاماتي حتى الضروري منها، وغادرت من جدة إلى العاصمة، في أقصر رحلة عمل، لم تتجاوز الساعات، جزء منها ذهب في الطريق بين المطار والمقهى ذهابا وإيابا، وعندما التقينا كان المتبقي لإقامة صلاة العشاء عشر دقائق، فأمضيناها على فوح رائحة (الاسبريسو) في حديث مطلق ليتعرف أكثر ويطمئن لإجراء هذا الحوار، فننطلق في تفاصيله بعد الصلاة، ولا ننتهي إلا مع مطلع اليوم التالي. مهندوف.. وهو يكشف كل هذا لا محفز له إلا توضيح الصورة الحقيقية الغائبة عن الكثيرين من الشباب ممن يتابعون وسائل الإعلام، وينجرفون وراء دعوات (الجهاد الزائف)، ويدعو من ورائها إلى انتهاز مهلة استقبال العائدين التي وجهت بها وزارة الداخلية لمراجعة النفس والعودة إلى حضن الوطن، إذ لم يتبق منها سوى سبعة أيام فقط، وقال «لو كنت طامعا للظهور إعلاميا لأبرزت اسمي وصورتي، لكنني لا أريد سوى توجيه رسالة صادقة».
● دعنا ننطلق في مكاشفاتنا هذه بوضعك الأسري والحالة الاجتماعية التي تعيشها.. - أنا يتيم الأب، ووالدي توفي وأنا طفل لم يتعد عمري الثانية، فأنا من مواليد سنة 1405هـ، ووالدي توفي سنة 1407هـ، وكالعادة في مثل هذه الظروف تولى أخي الأكبر تربيتنا أنا وإخواني وأخواتي، وهي أفضل تربية ولله الحمد، ولم يقصر في شيء أبدا.
● إذن لست الطفل الوحيد .. فما ترتيبك بين إخوتك؟ - أنا أصغر الأبناء.
● آخر العنقود يعني؟ - نعم، آخر العنقود، والحمد لله أكملت دراستي حتى أنهيت المرحلة الثانوية، في إحدى المناطق الشمالية، وبحكم قرب الأردن منا سجلت في الجامعة الأردنية على حسابي الخاص، أو بمعنى أصح على حساب أخي، وأمضيت في الدراسة عاما كاملا، إلا أنني توقفت بسبب تزايد مصروفات الدراسة والمعيشة هناك، فعدت ولازمت البيت، بعدها حاولت الالتحاق بأي دراسة أو وظيفة، ولكن لم أجد شيئا، لا علم ولا عمل.. فانتهى المطاف بي بالبيت
. ● في أي سنة حصل هذا؟ - تخرجت من المرحلة الثانوية سنة 1427هـ، وجميع ما حصل كان من سنة 1428هـ وما بعد ذلك.
● دعني أقطع استرسالك وأتساءل.. هل أنت أعزب؟ - نعم، ما زلت أعزب.
● واسمح لي أيضا أن أسألك عن وضع الأسرة المادي إن لم تمانع.. كيف هو؟ - الحمد لله الحال معقولة، تستطيع أن تقول عنها متوسطة.
● ولم يسبق لك العمل في أي موقع؟ - أبدا، لم يسبق لي العمل نهائيا.
● من تخرجك سنة 1427هـ إلى الآن 1435هـ.. نحن نتحدث عن ثمانية أعوام.. طوال هذه المدة من كان «يصرف عليك»؟ - الوالدة حفظها الله هي التي تصرف علي، وتسد كل احتياجاتي.
● الوالدة تعمل؟ - لا والله، ولكن يجيء لها بعض المال من تقاعد الوالد -رحمه الله- ومن إخواني الآخرين، وباعتباري الابن الأصغر الذي لا يعمل لا تقصر في شيء تجاهي، حتى دخلها تقسمه مناصفة بيني وبينها.. والحمد لله على كل حال.
● دعنا نقف عند ظروف نشأتك، فأنت ذكرت أن أخاك الأكبر من تولى رعايتك.. هل يبدو لدى أخيك نزق المتشددين والاندفاع نحو القتال؟ - ليس له ميول نحو هذه الأمور أبدا، وهو إنسان طيب جدا ورحيم لأبعد حد، ولم يتخيل للحظة أن يراني أتبنى هذا التوجه وأذهب للقتال. بعد أن لاحظت تأثره من تداعي الذكريات حاولت كسر هذا التوتر بسؤاله:
● ألاحظك «مخفف اللحية على درجة 2»؟ - أيوه.. (يضحك).
● إذن ليس كما نراها صبغة لدى المقاتلين؟ - لا والله.
● أم خففتها بعد عودتك؟ - تحصيل العلم الشرعي بالنسبة لي فهو ضئيل ومحدود.
● أقصد؛ هل عندما ذهبت إلى سوريا كنت ملتحيا؟ - منذ البداية وبمجرد تفكيري بالجهاد أطلقت اللحية
. ● وهل كانت تجربتك الأولى مع القتال هي سورية؟ أم سبق لك القتال في مكان آخر؟ - لا، لم يسبق لي القتال في أي مكان، وهذه هي تجربتي الأولى.
● وما الدوافع التي جعلتك تقدم على دخول مثل هذه التجربة القاسية والخطيرة؟ - الذي يتابع بعض وسائل الإعلام، ويتنقّل من قناة إخبارية لأخرى، لا يرى إلا القتل، قتل الأطفال والنساء، فهناك ظروف ارتبطت ببعض، كالبطالة و(عطالتي) عن العمل، وجلستي أمام التلفزيون، فأنا دائما أستيقظ عند الساعة العاشرة صباحا، وأبدأ يومي بمشاهدة التلفزيون، وليس لدي شيء سوى (شاهي وقهوة وتلفزيون)، ومتابعة القنوات الإخبارية، فأنا أشاهد الأخبار بكثافة، وأجد هذا الطفل يقتل، وتلك الفتاة تغتصب، وذاك الرجل المسن يهان وتسلب كرامته، فقط لأنه (مسلم وسني).
● هل أفهم من هذا أنك ذهبت وحدك وبقرار من تلقاء نفسك؟ أم هناك من كان يدفعك لذلك؟ - الذهاب إلى سوريا كان قراري أنا وحدي، وكنت أحادث نفسي في هذا الأمر، وفي هذه المرحلة تحديدا انعزلت عن الناس وانفصلت من الدنيا، وصرت منكفئا على المواقع الإلكترونية، وأقضي وقتي في متابعة مقاطع الجهاد في سورية، وأرى ما ينكل بالمسلمين، وما يحصل لهم، فأثارني ذلك لحد أنني دخلت مرحلة التفكير بالجهاد بجدية.
● هذا ما يتعلق بالقرار.. وماذا عن الذهاب إلى سورية.. هل نفهم أنك ذهبت وحدك أيضا بلا صديق ولا زميل ولا قريب؟ - فكرت وحدي، واتخذت القرار وحدي، وعزمت على السفر وحدي، وذهبت وحدي.
● أنت اتخذت القرار، وعزمت على السفر.. ماذا صنعت لتنتقل للخطوة التالية؟ - كان لي معرف على مواقع التواصل الاجتماعي، في فيس بوك وتويتر، فتواصلت مع شخص عبر فيس بوك برسائل، كنت أسأله غالبا عن الأوضاع وما يجري في سورية.
● ما جنسية هذا الشخص؟ - سوري الجنسية.
● لماذا اخترته هو تحديدا بين عشرات الآلاف من السوريين المسجلين في فيس بوك؟ - لأنه موجود باستمرار على الموقع، ويضع صورا مستفزة ومثيرة للمشاعر.
● ولماذا لا يكون هذا الشخص من النظام وتقع أنت في فخه؟ - أنا حسبت كل هذه الأمور، ولكن لم أتعمق فيها كثيرا بسبب الصور التي أشاهدها، وتأكد لي أنه تابع للجيش الحر، فتواصلت معه وشرح لي الوضع، وكان يقول لي إنهم يمرون بحالات سيئة من الجوع والخوف والتنكيل ومن.. ومن.. وأنهم يحتاجون إلى الرجال والمال، فأخبرته أنني لا أملك أغلى من نفسي، وأبديت له رغبتي في الذهاب إليه، فرحب بالفكرة وقال «أهلا وسهلا.. الوقت الذي تسافر فيه كلمني وسوف أنسق معك ونلتقي»، في هذه الفترة لم يكن لدي مال كفيل بالحجز والسفر، فكلمت أحد أصحابي وطلبت منه مبلغا من المال.
● وهل بينت لصاحبك رغبتك بالسفر؟ - لم أبين له أي شيء أبدا.
● كم أخذت منه؟ - 2500 ريال.
● هل قدرت التكاليف قبل أن تطلب المبلغ وتدرك أن 2500 ريال توصلك إلى سورية؟ - هذا هو الموجود، وكنت أتوقع أنه يكفي، لأن ذاك الشخص السوري قال لي «أول ما توصل الحدود السورية التركية سنكون هناك، ونأخذك معنا، واعتبر أنك لن تحتاج إلى شيء أبدا»
. ● محفول مكفول يعني؟ - نعم، محفول مكفول.
● وصاحبك الذي أخذت منه المال ألم يستغرب من طلبك؟ - بلى، وسألني عن السبب، وقلت له إنني أحتاج إليه في بعض الأمور الخاصة، ولم يلاحظ علي شيئا، وفي الوقت ذاته لم يلح على استشفاف السبب.
● الآن العزيمة موجودة والمبلغ موجود.. ماذا حصل بعد ذلك؟ - هنا فكرت في السفر، وإلى أين أتجه، فقررت أن أسافر إلى الأردن.
● بالطائرة؟ - لا، بل برا، عبر سيارات الأجرة التابعة للمكاتب السياحية، فوصلت إلى العاصمة عمان ومكثت فيها خمسة أيام، وهناك شرعت في ترتيبات الحجز من عمان إلى تركيا.
● إلى أي مدينة في تركيا؟ - إلى اسطنبول
. ● وأين أقمت طيلة الأيام الخمسة في عمان؟ - استأجرت في أحد الفنادق.
● كم سعر الليلة؟ - 15 دينارا أردنيا، أي ما يعادل 80 ريالا.. والفندق بدرجة نجمتين ومستواه بسيط
. ● والآن حانت ساعة السفر؟ - نعم، حجزت عبر الخطوط التركية، من مطار الملكة علياء في عمان، إلى مطار أتاتورك في اسطنبول، بما يعادل 1200 ريال، وأقلعت الطائرة عند الواحدة ليلا، ووصلنا عند الساعة 4.30 صباحا بتوقيت اسطنبول، نزلت إلى المطار وأنا تائه ووحيد، لا أعرف أحدا، وهناك اشتريت شريحة اتصال تركية، فوقفت على باب المطار لدقائق، واتصلت على الشخص السوري الذي تواصلت معه سابقا، فسألته «وينك؟ أنا الآن موجود في مطار اسطنبول»، فقال لي «أنت الآن بعيد، نحن على الحدود السورية التركية، ناحية أنطاكية
». ● أي يتوجب عليك السفر من أقصى شمال تركيا إلى أقصى الجنوب؟ - نعم.. فسألته «من وين أطلع؟ وإلى وين أطلع؟»، فقال لي اذهب إلى محطة رقم (6) من محطات الحافلات المركزية «الأوتو كار»، فذهبت من المطار إلى هذه المحطة، وهناك شاهدت مجموعة من الحافلات يتضح فعلا أنها نقطة انطلاق للرحلات، فوجدت عدة مكاتب، دخلت لأول مكتب، وقلت له إنني أرغب في السفر إلى أنطاكية، فقال رحلة أنطاكية الساعة 2.00 ظهرا، وكان الوقت حينها الساعة 7.00 صباحا، فأكدت الحجز بمبلغ 85 ليرا تركية (143 ريالا). ● إذن «خلصت» الـ2500 ريال؟ - تقريبا، وأتذكر أنه حينما وصلت لم يبق معي سوى 50 ريالا وبعض الريالات.
● أكمل.. - بعد تأكيد الحجز ذهبت إلى مطعم وأكلت فيه، ومن ثم تجولت في السوق إلى الساعة 11.00 صباحا، فعدت إلى المكتب، وهناك وجدت أشخاصا نائمين على المقاعد في انتظار الرحلة، فجلست وارتحت ونمت «نومة عدوك.. أنام وأصحى.. أنام وأصحى» إلى أن بلغت الساعة 2.00 ظهرا، وهناك صعدت إلى الحافلة، واتجهنا إلى أنطاكية، وأشرقت شمس اليوم التالي ونحن ما زلنا في الطريق، فاتصلت بذاك الشخص السوري، وسألته عن موقعه، فقال «أول ما توصل الكراجات (موقف الحافلات) في أنطاكية بتحصلني أنتظرك أنا هناك»، وعند الساعة 8.00 صباحا وصلنا موقف الحافلات، وهناك كان في استقبالي أربعة شباب، من بينهم هذا الشخص الذي كنت أتواصل معه عبر فيس بوك.
● كل هذا حصل ولم يعلم أحد من أهلك أين أنت؟ - نهائيا.
● ورقمك السعودي معك؟ - كان معي، ولكنني أغلقته، واكتفيت بالشريحة التركية.
● ولم تحسب حساب الوالدة التي صرفت لك الغالي والنفيس طيلة حياتك؟ - أنا كنت في حالة لا تجعلني أفكر بشيء غير (الجهاد في سبيل الله)، ولم يكن لدي هدف سام أسعى إلى تحقيقه سوى كسب الآخرة، لأنني فكرت بكل شيء قبل أن أغادر، فوصلت إلى قناعة بأنه لا يوجد لدي شيء أخسره أساسا، بعد أن حاولت كثيرا أن أعمل أو يكون لي أي دور في الحياة بأي مجال دون جدوى.

.
.
.
تابع عصابة لتهريب مهندوف إلى سوريا.
عكاظ إفلاسي حوّل ابتسامة قائد الكتيبة إلى «تكشيرة» .. مهندوف:
https://d2s63a22uzwg40.cloudfront.net/1/4/0/9/5/5/0/5327ddf285442.jpg
حوار: محمد الأحمدي
المقاتل «مهندوف» يواصل في هذه الحلقة استكمال سرد رحلة تهريبه إلى الأراضي السورية عبر الحدود مع تركيا، بعد أن كشف في الحلقة الأولى أمس عن تجاوزه حدود أربع دول من أجل الوصول إلى ساحات القتال.
لاحظت على مهندوف أن سرد الذكريات بالنسبة له أمر مؤلم، فكلما استرسل في الحديث توقف برهة من الزمن، وسرح بعيدا وهو يردد «سبحان الله.. استغفر الله.. وين وصلنا؟»، خاصة عندما يكشف في هذه الحلقة قصة إسكانه داخل مقر الكتيبة، وتهيئته عسكريا وتسليمه «كلاشنكوف».
وقبل أن نخوض في تفاصيل الحوار، أشير إلى الجدل الواسع الذي احتدم أمس بين السوريين أنفسهم، خصوصا المقاتلين عبر صفحات فيس بوك وتويتر، كردة فعل أعقبت نشر الحلقة الأولى من الحوار، فضلا عن الرسائل التي تلقيتها عبر البريد الإلكتروني أو الهاتف المحمول، تؤكد التناقضات وإرتباك الأخلاقيات التي فضحها مهندوف في الحلقة الأولى من الحوار، وكان مقابل اتهامنا من قلة بـ«الادعاء»، توالت علينا أصداء إيجابية تؤكد على أهمية تنوير عقول شبابنا وتحصينهم من الانجراف وراء الدعوات الباطلة.
● دعنا نستعيد الحكاية.. أنت الآن وصلت أنطاكية للقاء الشخص السوري الذي نسقت معه سلفا.. فماذا حصل هناك؟
- عند نزولي من مواقف سيارات الأجرة في أنطاكية استقبلني أربعة شباب، جميعهم سوريون، بما فيهم الشخص الذي كنت أنسق معه، إلا أن السائق تركي الجنسية ومن سكان أنطاكية، ويتكلم باللغة العربية، التقينا للمرة الأولى وتبادلنا السلام، وصار ذاك المنسق يعرفني على الشباب الذين معه قائلا «هذا نسيبي، وهذا جاري ساكن في نفس المنطقة اللي حنا فيها بسورية»، فرحبوا بي، وأول شيء صنعه ذاك المنسق أن طلب مني جواز السفر الخاص بي وأوراقي الثبوتية، فسلمتها إياه بحسن نية، بعدها اصطحبوني معهم إلى قرية على الحدود، ودخلنا في بيت ريفي، وقدموا وجبة الإفطار، وبعد الإفطار أفسحوا لي المجال للاستحمام وتغيير ملابسي، وأبلغوني بقدوم شخص آخر بعد ساعة، مهمته تهريبي إلى الأراضي السورية، وأعلن المنسق «ساعة ويجينا المهرب وندخل سوريا».
● ماذا كان في حقيبتك تحديدا.. مثلا كم كمية الملابس التي حملتها معك؟
- حملت بعض أغراضي وجميع أوراقي، على اعتبار أنني ذاهب بلا عودة.
● بلا عودة؟
- نعم بلا عودة، بمعنى أنني ذاهب ذاهب، وأنا اتخذت القرار على أنني «رايح ما عادني راجع نهائيا».
● عندما تقول بلا عودة.. هل تعني بذلك أن تنتهي حياتك في القتال وتعتبر نفسك «شهيدا»؟
- كان هذا هو الهدف بعينه، لكسب آخرتي، وكنت أؤمن بأن الدنيا لا فائدة منها، كنت في حالة يأس مطلق، فالدنيا لم أستفد منها شيئا نهائيا.
● أكمل.. هل بدلت ملابسك في ذاك البيت الريفي؟
- نعم، أفطرنا وغيرت ملابسي، ومكثنا في ذلك البيت ساعتين، وليس ساعة واحدة كما قال في السابق، وبعدها جاء المنسق وقال «يلا.. حنا رايحين للحدود مع سوريا»، فركبنا مع المهرب، الذي وصل بدون عذر متأخرا عن موعده ساعة كاملة، وسلكنا طريقا سريعا بجوار نهر، إلى أن دخلنا في غابة كبيرة، فتوقف السائق وقال «أكثر من كذا ما أقدر أمشي، والآن أنتم كملوا المشوار مشي».
● وأين موقعكم بالتحديد.. داخل الأراضي التركية أم السورية؟
- على نهاية الحدود التركية، ولم ندخل بعد الأراضي السورية، وكنا في منطقة وعرة جدا، حيث سلكنا مع المهرب في البداية طريقا معبدا، إلا أننا أمضينا مسافة على طريق ترابي تحفه الأشجار من كل مكان، فقال الشخص المنسق «يلا بنكمل مشي»، فنزلت ومعي شنطتي وأغراضي، وصرنا نمشي مسافة تقارب الكليو ونصف الكيلو متر، وبدأت ألاحظ وجود حياة في الموقع، فصرت أشاهد أطفالا وعجائز وشبابا ومسنين «ناس رايحين جايين»، وبعد أن كنا نمشي بين الأشجار، قطعنا طريقا صغيرا «مسفلت»، وبعد دقائق توقف المنسق، وصافحني وقال لي «مبروك.. أنت الآن داخل سوريا».
● هل لا يزال معكما الشباب السوريون المرافقون.. أم أنت وهو فقط؟
- نعم، ما زالوا معنا، وغادر المهرب التركي، وصرنا نسير داخل الأراضي السورية، فواجهنا قناة تخرج من نهر العاصي فقطعناها، وهناك يوجد مخيم للاجئين، فشاهدت الأسر والأطفال والنساء حول المخيم، وكلما خطونا قليلا توقف الشباب الذين يصطحبوني للسلام على زملاء آخرين لهم في الموقع، تبدو هناك معرفة سابقة بينهم، وهناك بعض مخيمات أعدت لأغراض تجارية، حيث يبيع داخلها السوريون القهوة والشاي ووجبات أيضا، فتوقفنا وطلبوا قهوة، وفيما كنا جالسين عند بائع القهوة قال المنسق «أنا باتصل على شخص يجي ياخذنا»، فاتصل، وبعد ساعة إلا ربع (45 دقيقة) وقفت عندنا سيارة، ونزل منها شخص يرتدي زيا عسكريا، ويحمل سلاحا رشاشا.
● قد نقول أن الوقت الآن أصبح ظهرا.. أليس كذلك؟
- بلى، الظهر تقريبا.. فسلم علي ذاك الشخص وعلى الشباب، وركبنا معه في السيارة، وطوال الطريق يعرفونني على المواقع والمناطق التي نمر بها، إلى أن وصلنا بلدة اسمها «الغسانية» بمدينة جسر الشغور، تابعة لمحافظة إدلب، وبعد السير لمدة 10 دقائق، بدأت أشاهد حواجز عليها مسلحون وسيارات مجهزة بأسلحة وذخائر، قالوا لي إن هذه حواجز الجيش الحر، والمناطق كلها محررة، وصرت أقرأ على الحواجز والبنايات أسماء الكتائب، فأيقنت أنني الآن داخل ساحات قتال.
● وحتى الآن أنت لا تعرف إلى أين ذاهب؟ ولا إلى أي كتيبة سوف تنضم؟
- لا أعلم أبدا، حتى أن المنسق قال لي سوف أضمك إلى الكتيبة التي أتبع لها.
● ولم يفصح لك عن اسمها؟
- لم يقل لي شيئا، ولكن لم أمانع أنا لأن الاسم ليس مهما بالنسبة لي.
● وهل يعقل أن تذهب دون معرفة اسم الكتيبة ولو على الأقل من خلال مشاركات المنسق على فيس بوك؟
- أنا اندفعت بمجرد أنني تأكدت من انتمائه للجيش الحر، بعد وصولي عرفت كل شيء.. فالمهم صرنا نعبر من خلال الحواجز فبعد كل 200 متر إلى 300 متر نواجه حاجزا، والمسلحون الواقفون على الحواجز يسألون المارة لمعرفة حقيقتهم، وهذا ما حصل معنا.
● وما الحوار الذي يدور بينكم عند كل حاجز؟
- أنا لم يدر بيني وبين أولئك المسلحين عند الحواجز أي حوار، بل كان يحدثهم الشباب الذين يقلوني معهم «يتكلمون وأنا ساكت».
● وهل عرفوا أنك سعودي؟
- نعم، أبلغوهم بذلك.
● هل تتذكر عدد الحواجز التي عبرتم من خلالها؟
- نعم، أربعة حواجز، وواصلنا المسير حتى بلغنا منطقة مرتفعة على رأس جبل، وهناك توقفنا عند بناية من ثلاثة طوابق، فقالوا «وصلنا الآن.. هذا مقر الكتيبة.. الله محييك»، وصاروا يسلمون علي ويقولون «الحمد لله على السلامة»، وأنا بادلتهم السلام والعبارة ذاتها.. دخلنا البناية ووجدت أن قادة الكتيبة وأفرادها موزعون على شقق الطابق الأول والثاني فقط، وفيما كنت في الطابق الأول (الأرضي)، وجدت غرفة بها أدوات نظافة وبجانبها مجلس، فدخلت المجلس ووجدت فيه حوالي عشرة أشخاص، جميعهم سوريون، فاستقبلوني بحفاوة، وسلموا علي، وبدأوا يشرحون لي أوضاعهم، وماذا يجري لهم، وقالوا «كل شيء ينقصنا، فينقصنا الرجال والمال والغذاء، ونمر بحالة تنكيل من النظام»، فسمعت من الكلام ما أثار مشاعري كثيرا.
● وطوال هذه الجلسة .. لم تواجه أي سؤال من أحد هؤلاء العشرة؟
- بلى، يتردد كثيرا سؤالهم عن الأوضاع المالية التي تخصني «وكل شوي يسألونني عن الأوضاع المالية، كيف وضعك المالي؟» فشرحت لهم الوضع وقلت لهم «يا عيال الحلال، أنا لا أملك شيئا نهائيا، والله يعلم أنا كيف وصلت هنا، لكنني والله لا أملك شيئا أغلى من نفسي، أما المال فلا أملكه»، فطلب مني أحدهم إجراء اتصالات بمعارفي لتحويل المال، فأجبتهم وأنا صادق معهم لأبعد حد «والله ماني خابر شي الحين».
● وما شعرت أن الموضوع يبدو فيه شيء من الاستغلال؟
- الوضع بالنسبة لي حينها كان طبيعيا، فأنا توجست قليلا، ولكن قدرت ذلك بأن هؤلاء يعانون من ظروف تضغط على حياتهم واستقرارهم، فهم فهموا الآن أنني لا أملك شيئا بالفعل.
● وما ردة الفعل التي لاحظتها حينئذ على وجوه عناصر الكتيبة؟
- أول ردة فعل كانت من قائد الكتيبة، فكان في البداية يتبسم في وجهي كثيرا، وبعد أن أوضحت عدم قدرتي على دفع المال تغيّر تماما، وصارت نظراته نحوي غريبة.
● ما عاد هنالك ابتسامة؟
- أبدا، فأحسست فعلا أن الشخص تغير علي، فقال قائد الكتيبة لأفراد «خذوه، وأعطوه الدور الأخير»، فحملوا الشنط، وأصعدوني إلى الطابق الثالث الأخير.
● كم شقة في الطابق الواحد؟
- شقتان.
● وكم غرفة في الشقة؟
- غرفتان وصالة، والشقة التي أنزلوني فيها كان الزجاج يغلب على حيطانها، فصرت أتأمل المشهد من الشقة، وأراقب الغابات والبنايات، وهناك جلست أقرأ القرآن الكريم، وصليت، ومن ثم نزلت إلى الأسفل، حيث يوجد الشخص المنسق الذي تواصلت معه سابقا، وليس لأفراد الكتيبة علاقة بشؤوني غيره هو، حيث يتكفل بالتواصل معي، وإيصال الأكل إلى شقتي في الأعلى، ويسأل عن ما يلزمني من أمور.
● هل أحضر لك الغداء أم لا؟
- نعم، أحضر الغداء وتغدى معي.
● ماذا كان الغداء؟
- كان شربة عدس مع فتة خبز، وجلست بعد الغداء في خلوة مع النفس، أقرأ القرآن وأحدث نفسي، وبعد ساعتين جاء المنسق وقال «يلا نطلع برا نغيّر جو»، فخرجنا وسرنا في أرجاء الغسانية، وهناك أطلعني على آثار القصف على المباني، وكان كل شيء واضحا أمامي، فالطابق الأخير من كل المباني منهار أو آيل للسقوط، بسبب البراميل التي يلقيها النظام على المنازل.
● هل أدركت الآن لماذا أنزلوك في الطابق الأخير؟
- يا سلام عليك (يضحك).. أنا الآن حللت الموقف، وبدأ الشك يساورني بشكل جدي، وبدأت أشعر بأن هناك شيئا قادما، ومع ذلك هونت على نفسي، وأحجمتها عن التسرع لحين فهم الوضع أكثر.
● أين وصلتم في الجولة؟
- كانت جولتنا في المنطقة المحيطة بمقر الكتيبة فقط، وقبل عودتنا إلى المقر ألح على الاندماج مع عناصر الكتيبة وقال «لازم تحكي وتضحك»، لأنه لاحظ علي أنني منطوٍ داخل الغرفة، وعندما عدنا أسدل النهار ستاره، وصرت وحدي في الشقة، بينما هو في شقته في الطابق الأول، فخلدت للنوم لتنتهي أول ليلة «جهادية» لي.
● نمت الساعة كم؟
- نمت مبكرا في حدود الساعة السابعة مساء، لأنني كنت متعبا للغاية، فأنا أحمل عناء السفر والطريق، ولم أنم كثيرا في الحافلة التي أقلتني من اسطنبول إلى أنطاكية، فالمهم «حطيت راسي ونمت»، واستيقظت عند صلاة الفجر، وصليت وحدي، إذ لم أسمع حركة توحي بأن هناك أحدا مستيقظا في البناية، وعند الساعة الثامنة جاءني المنسق.
● بالمناسبة.. كم يبلغ هذا المنسق من العمر؟
- أنا أقدر أنه في الخامسة والثلاثين من عمره.
● أكمل.. ماذا بعد أن جاءك؟
- قال لي الآن سنذهب إلى السوق كي نجهزك عسكريا، ونشتري لك أحذية.
● تقصد (بسطار)؟
- نعم، البسطار العسكري.
● ورداؤك كان عسكريا أم ماذا؟
- ما زلت أرتدي الزي المدني الذي كان معي واشتريته من المملكة.
● هل أفهم من كلامك أن البلدة مأهولة وبها أسواق ومتاجر؟
- في البداية لم أشاهد سوى كتائب للجيش الحر، فالوضع أقرب للاحتلال، فكل كتيبة تجد بناية مهجورة بلا سكان تستحلها وتتخذها مقرا لها، وجميع البنايات في تلك البلدة ليس فيها أحد من سكانها المالكين، خصوصا أن هذه المنطقة أغلبها مسيحيون، هربوا بسبب الحرب وتركوا الكنائس والبنايات خاوية وراءهم.. سبحان الله.. سبحان الله.. استغفر الله.. سبحان الله يا أخي «وين وصلنا؟».
● يبدو أنك سرحت بعيدا؟
- لولا هذا الحوار لما استعدت كل هذه الذكريات..
● تلك مرحلة وانتهت.. كنت تتحدث عن ذهابك للسوق.
- نعم، قال لي نشتري لك أحذية، ونزلنا إلى الطابق الأول، فدخل شقته، حيث يسكن هو وزوجته وأطفاله، وخرج محملا بسلاح، وقال لي «تفضل، هذا سلاحك».
● ما نوع السلاح؟
- رشاش من نوع «كلاشنكوف».
● وصل الحال إلى أنكم تتأهبون للتسوق بسلاح؟
- نعم، فأردفني معه في «دباب» يملكه هو، وكان الوضع نفسه نمشي والبنايات مدججة بالكتائب، وعندما بلغنا وسط البلدة وجدنا رجالا ونساء في السوق، ولكن الحركة غير طبيعية، فالكل في حالة ترقب وهلع، حتى أن الباعة يقفون عند أبواب المحلات، فهناك الكل يمشي بسلاحه، وفجأة تمر سيارات منصوب عليها أسلحة ذات عيارات ثقيلة، فالمنطقة منطقة حرب.. فدخلنا واشترينا الحذاء.
● مَن دفع قيمته؟
- هو المنسق.
● كم كان سعره؟
- كان بسعر 150 ليرا سورية.
● أي عشرة ريالات؟
- تقريبا..
● لاحظت على مهندوف يستغرق كثيرا في التفكير، وبين فترة وأخرى يكرر علي جملة «وين وصلنا»، إذ يبدو متأسفا على تلك التجربة ولا يريد استحضارها، فحاولت إخراجه من هذه الأجواء وطلبت أن نغير المكان لطاولة أخرى.. وهناك سألته:
تبدو الأحذية رخيصة إذا فعلا هي بعشرة ريالات.. فالأسعار ليست أسعار حرب؟
- (يضحك) أي والله رخيصة.. أرخص حذاء. بعدها ذهبنا إلى محل آخر لتفصيل البدل العسكرية، ودخلنا وهناك اختار لي الزي العسكري المناسب لي، فتبين أنه أوسع من جسمي، فقال «مو مشكلة، بنروح الخياط يقيفه ويضبطه»، وبالفعل ذهبنا وأنجزنا ما يتعلق بالزي.
● وكم سعر البدلة؟
- والله لا أذكر.
● بماذا شعرت وأنت ترتدي البدلة العسكرية في ذلك الظرف؟
- كانت أول بدلة عسكرية في حياتي، فالشعور كان أقرب إلى الحلم «وأنا تارك الأمور تمشي مثل ما تمشي»، لبست البدلة مع الحذاء والسلاح فاكتمل كل شيء، وأنا الآن «مجاهد رسمي»، فعدنا.. وعند وصولنا إلى المقر حصل لي موقف مع قائد الكتيبة.
ماذا حصل في لقاء مهندوف وقائد الكتيبة
تابع