الـــــذوق
سبحانه له دعوة الحق حرص عليها وأوجب التبشير بها : (وَلْتَكُن ْمِنْكُم ْأُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) "آل عمران : 104
و أشهد أن لا إله إلا الله ة حده لا شريك له وضع الحجة و أتم المحجة ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا رسول الله بلغ الرسالة و أدى الأمامة، ونصح الأمة وكشف الغمة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صل اللهم عليه و على آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه الذين آمنوا ولم يلبسو إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
أما بعد:
أيها الأخوة المسلمون عندما ننظر في دين الله العظيم نرى عجبا، فديننا مليئ بالذوق الإنساني الراقي في كل التعاملات و المعاملات؛ و لذلك نستطيع أن نوجز الدين كله في هذه الكلمة : "الدين المعاملة" بشقيها: معاملة الخالق، و معاملة المخلوق.
فإكرامك للمخلوق فكأنك تكرم دين الله فيه، و تكرم فضل الله فيه، و تكرم خلقة رب العبادسبحانه و تعالى في هذا المخلوق الذي تريد أن تكرمه أو تريد أن تعامله بذوق قد ضاع من كثير منا. قلب صفحات الحياة و انظر عظمة هذا الدين..
تبدأ من البيت، فالأب و الأم و أعطاهما رب العباد حقا عجيبا على الأولاد بعد قضية البر: إذا بلغ الأطفال الحلم لابد أن يستأذن الولد و البنت في غرفة الأب و الأم ، لايفتح الباب ويدخل وإنما يطرق الباب. و لا تلج قدمه داخل الغرفة إلا إذا أذن له، و حددها الإسلام في مواقع محددة : من قبل صلاة الفجر و بعد صلاة الظهيرة و هي فترة القيلولة ، و من بعد صلاة العشاء هذه أوقات يسميها العلماء أوقات غير شرعية للزيارةز
المعنى أنك أنت لا تذهب إلى أخيك المسلم في وقت من هذه الأوقات. و الله عز وجل جعل الليل لباسا و النهار معاشا وقال لنا: لا سهر بعد العشاء، ولكن الناس لا يحلو سهرهم إلا بعد الحادية عشرة و الثانية عشرة و الواحدة ليلا، فمن ذا الذي يقوم الليل و من ذا الذي يصلي و من الذي ينام ، هذه الأوقات لا أسأل عنك فيها و لا تُسأل أنت عني فيها ؛ لأنها أوقات محظورة حتى على الأبناء و البنات داخل البيت فلا يلج الغرفة عليك ويدخل دون إذن مسبق.
هل تجد هذا في المذاهب الفكرية العالمية أو في الملل و النحل الأخرى ؟ و هل هذا الذوق الرفيع موجود إلا في دين محمد صلى الله عليه و سلم ؟
تجد قضية الذوق ما بين الرجل و المرأة ذوقا عاليا. كانت عائشة تداعب النبي صلى الله عليه وسلم – كما روى أبو نعيم في (الحلية)- كيف أنا عندك يا رسول الله ؟ فكان يبتسم و يقول (كعقدة الحبل). أي: شيئ مرتبط لا ينفك ، فكل مدة تداعبه و تقول : كيف العقدة ؟ فيجيب : (كما هي يا عائشة). هذا ذوق من الزوجة لزوجها.
و كان يقم البيت، أي يكنسه، و في مهنة أهله يمزق معهن اللحم، ويخسف نعله ، و يرقع ثوبه صلى الله عليه و سلم، كأنه واحد منا و أننا منه.و هكذا تصفه السيدة عائشة في بيته صلى الله عليه و سلم : (فإذا حاء وقت الصلاة كأنه لا يعرفنا و لا نعرفه)، حتى إن قطا بريا كان في بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، كان يستأنس بأن تضع أم المؤمنين عائشة له الطعام ، فكان يستأنس داخل البيت ، كان يمزق الستور و الوسائد و يلعب هنا و هناك – كما هي عادة القطط - فكان إذا دخل النبي صلى الله عليه و سلم سكن في ركن الحجرة أو في ركن البيت فلا يتحرك حتى يخرج النبي صلى الله عليه و سلم. هذا ذوق من النبي صلى الله عليه و سلم في التعامل لم يقل: أخرجوا القط أو كذا ، ويقول عن الهررة: ( هن من الطوافين عليكم و الطوافات) أي من كثيرات الزيارة، حتى أنه أباح العماء أن نتوضأ مما شربت منه الهرة، لكن لم يبح لنا الإسلام أن نشرب من سؤر أسد أو حيوانات مفترسة لأنها ربما فيها نجاسة.
هذه عظمة الإسلام وذوقيات الإسلام ، تجد الذوق في التعامل بين صحابة النبي صلى الله عليه و سلم، تلمحه و هو داخل إلى المدينة في الهجرة ، كان أبو بكر طوال الرحلة على مدى خمسة و خمسين و أربعمئة كيلومتر يسير أمامه ثم يسير خلفه ، ثم عن يمينه ، ثم عن يساره ، فيتعجب الرسول سائلا: (مالك يا أبا بكر)؟ فيقول أتذكر الرصد ممن أمامي، أي أتذكر أن نحن مرصودون مطلوبون ، فيأتي أمام النبي حتى إن كان هناك من ضرر فيقع على الصديق وينجو النبي صلى الله عليه و سلم.
و كان الصديق رضي الله عنه يقول: بهلاكي أنا هلاك رجل واحد، وبهلاكك أنت هلاك أمة بأسرها يا رسول الله !!فلما اقتربو من المدينة ، جٌلُّ أهل المدينة لم يروا الرسول صلى الله عليه وسلم – أي لم ير الرسول إلا اصحاب بيعة العقبة، إثنان و سبعون رجلا وإثنتا عشرة امرأة، و مارأى الرسول من أهل المدينة إلا أربعة و ثمانون فقط - كان أهل المدينة كل يوم يخرجون إلى حدود المدينة، فأبو بكر يتقدم لأنه داخل على أرض جديدة و ناس جدد و الحذر مطلوب و الحذر على من؟ على أكرم إنسان عرفته هذه البشرية صلى الله عليه وسلم. فلما أحس أبو بكر أن أهل المدينة قادمون للسلام عليه على أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان أبوبكر في قمة الذوق الإنساني ، فهو لا يريد أن يقول أنا لست محمد ، انا لست رسول الله ، و إنما تأخر قليلا وظلل بثوبه رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ففهم الأنصار أن هذا رسول الله. هذا أدب عال،
و أيضا قال أبو بكر عندما خرج عليه بعض من أعداء الرسول و الإسلام فقالوا: من هذا يا أبوبكر؟ قال : هذا رجل يهديني الطريق . و خير هادي هو الهادي صلى الله عليه و سلم. هذه ذوقيات عالية.
إن الذوق الإسلامي في قضية الضيوف عجيب ، فقد ثبت عن الرسول الله صلى الله عليه و سلم أنه ما استقبل بابا بعد أن طرقه مرة ، يعني لما يطرق الباب لا يظل واقفا هكذا ، و إنما يستدير إما على يمين الباب أو يسار الباب ، أو أنه كان يعطي ظهره للباب عليه الصلاة و السلام، هكذا علمنا هذا الذوق العجيب. و إذا دخلت كضيف إجلس في المكان الذي طلب مني صاحب البيت أن أجلس فيه ، و لا أجلس إلا إذا أذن لي بالجلوس.
حتى وصل الأمر أن أحد الصحابة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم و أربعة من الصحابة للأكل عنده، و يمر صحابي آخر فيرى النبي صلى الله عليه و سلم ومعه أربعة فتبعهم ، فلما طرق الباب و خرج صاحب الدار قال الرسول صلى الله عليه و سلم به ( لقد دعوتنا خمسة وهذا تبعنا ، فإن شئت قبلته، وإن شئت أرجعته)، فقال : قبلناه من أجلك يا رسول الله ، هذا أدب.
حتى يصل الأمر إلى : (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا). و لا داع لأن تقولها لي بلسانك، فمثلا أسألك: هل عندك وقت فراغ الآن ؟ تقول لي : و الله أنا مشغول ، ولا وقت لدي الآن ، و الله عندي مراجعة أمر ما مع الأولاد ، جزاك الله خير.أما إن قال لك بعد هذا : سوف أجلس معك ساعتين فقط إن شاء الله فهذا من قلة الذوق.
(وما اخذ بسيف الحياء فهو حرام) كما ورد في الأثر. إن بعض الأخوة الذي لم يدرسوا حقيقة الإسلام يمسك الهاتف الذي معك و يقول ماشاءلله هاتف جميل ، هل تأذن لي بمكالمة قصيرة؟!!بالله عليكم ماذا تقول؟ هذا حرام ؛ لأنك تستغل حياء الطرف الآخر لتستغل ماله و أغراضه أو أدواته فينا لا يحل لك . فهذه الذوقيات في قضية الضيف، و كان صلى الله عليه و سلم إذا دعي – حتى في بيته وهو يأكل ، كان لا يرفض موجودا و لا يتكلف مفقودا.
لقد وضع الإسلام أدب الضيافة في كل حركة من حركات الحياة و إنما فيها من الذوق، حتى دخل رجل إلى المسجد النبوي فلما سلم أوسع له الرسول صلى الله عليه و سلم له ، فتعجب الأعرابي و قال : المسجد غير مزدحم يارسول الله، قال صلى الله عليه و سلم (يجب أن نتفسح لإخواننا إكراما لهم ) ، أي : انا في المسجد و أنت في المسجد ، كيف أظهر إكرامي لك و احترامي لك ؟ أتزحزح قليلا ، ( إِذَا قِيل َلَكُم ْتَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ)المجادلة : 11.
لكن من قلة الذوق أنك تأتي متأخرا، و لتفرق بين الناس و تتخطى الرقاب حتى (أني شخصيا الإمام)؛ كنت أتمنى لو أن بناة المساجد يصنعوا بابا للإمام حتى لا يتخطى الرقاب، لأنني و الله أشعر بالحرج و أنا أتخطى الرقاب من آخر المسجد إلى أوله. فهذا ليس من الدين ، لأن الإسلام دين نظام ، يصل الأولون يجلسون في أول صف فيمتلئ، ثم يبدأ الصف الثاني ثم الثالث، فلا داع أن تأتي آخر الناس و تريد أن تصلي أول صف، فهذا ليس من الذوق وليس من الأدب الإسلامي ، لأنك إن جاءك أحد وضايقك بأن تخطى الرقاب ، أو أراد أن يزيحك بعيدا، فأنت تشعر بشيئ في نفسك ، فما تضيق منه لا داع لأن تصنعه مع للناس.
أيضا من ضمن عدم الذوق الموجود في كثير من البيوت ، أنه كلما غضب الزوج من زوجته يقول لها: أنا سوف أتزوج عليك، و أنا سوف أطلقك ، أنا سوف آتي بأبيكِ لكذا، فيحيل حياتها نكدا بعد أن يكون الوئام سائدا في الأسرة.لا داع لذلك يا أخ الإسلام ، - لأن النساء العربيات المسلمات و الحمدلله - أذكى خلق الله ، تعرف أن من يتكلم لا ينفذ، لذلك لا داع لهذا الكلام و أنت لست أهلا له، و لا داع أن تدخل النكد إلى البيوت دون حاجة ، فأنت تريد أن تستلهم منها جانب الخير ، فلماذا تثير فيها جانب الشر فزوجتك – وأنت معها أيضا - كزجاجة فيها ماء و فيها بعض من الرمال، ونامت الزجاجة على جنبها، هدأت الرمال في الأسفل و سكن الماء في كل الزجاجة ، فلا داع أن تحرك الزجاجة من وقت إلى وقت برجلك، أي لا داع للغبار أن يتصاعد، كما أن المريض لا يحب لأت يتحرك كثيرا ، لا يجب أن تخرج سيء الأخلاق في لحظة من الهيجان النفسي أو الغضب ؛ لأن الإسلام كله عبارة عن ذوق.
كان النبي صلى الله عليه و سلم أمام بعض من صويحبات عائشة، يريد ان يعلمهن مدى المحبة و العاطفة و الرقة ، فكان يشرب من المكان الذي شربت منه عائشة من الكوب صلى الله عليه وسلم، فيريهن كيف يكون التعامل ، هذا أيضا من الذوق.
منقوووووووووووووووووووول للفائده
الصفحة الأخيرة
الآفة التي أتناولها الآن، هي: عدم ستر المسلم، وفضحه بين الناس بما رآه من زلاته وعيوبه، والإنسان عندما يرى على أخيه عيباً من العيوب، وجب عليه الستر؛ لأنه لو سمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رويَ عن أي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يستر عبدٌ عبداًً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة""
وفي الحديث من طريق عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة"
فالمسلم بطبيعته كما نحفظ من الحديث جميعاً: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره الشريف ثلاثاً" ثلاث مرات، "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"هكذا روى الإمام مسلم في صحيحه.
فستر المسلم، و ستر عيوبه، وستر ما يقبح من أخلاقه ولا يراه أحد إلا قليل من الناس وجب عليك أن تستره، فهذا من شيم أهل الإيمان، ووجوب الستر على أهل المعاصي من المسلمين من الواجبات الشرعية، والأخلاق الإيمانية التي يجب أن يتحلى بها أهل الإيمان.
إن الله تعالى يقول: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور:19)، فالمسلم لا يحب أبداً أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
فالتسّرع في إلقاء التهم، وإلصاقها بالناس، حتى وإن رأى بعينيه عورة لأخيه، فما عليه إلا أن يكون كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم: " لو سترته بثوبك لكان خيراً لك"
لماذا ؟ لأن الإنسان عندما يستر مسلماً فهو يعينه على العودة إلى رحاب الله مرة أخرى، يعينه على التوبة إلى الله توبةً خالصةً نصوحة.
و الشيطان يمكث للإنسان بالمرصاد، فربما لو رأى العبد أن أمره قد افتضح، يعني: السر الذي كان لا يراه أحد افتضح أمام العامة، عندئذ ربماٍ يستمرئ المعصية، أو يقول: هكذا يقال عني كذا وكذا، أو تقول المرأة: يقال عني كذا وكذا، عندئذ قد يعتاد المعصية ويألفها، وقد لا يبالي، ويتبخر الحياء، ويضيع من عنده، عندئذٍ لا يكون الإنسان عوناً مع الشيطان على أخيه، فتتبع العورات سبيل لإفساد صاحب العورة، والله سبحانه وتعالى نهانا عن التجسس؛ فقال تعالى: ( وَلا تَجَسَّسُوا )(الحجرات: من الآية12).
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم"
فهذه امرأة تشك في زوجها في سلوك ما، فلا يجب عليها أبداً أن تتابعه، أو تتقصى أخباره، أو أن تتحرى هاتفه مثلاً، وترى الأرقام المسجلة عليه، والأرقام التي تتصل به لتصل إلى قناعة معينة بما في ذهنها، أو بما شكت فيه؛ لأن الإنسان إذا تجسس سوف يعود عليه هذا التجسس بشيء يؤذيه، سوف يضره، وسوف لا يقنع بل ولن يرضى عن الطرف الآخر الذي يتعامل معه لكن:
ليس الغبي بسيد في قومه بل إن سيد قومه يتغابا
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفضي الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيّروهم ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله"
أخَ الإسلام ،أختَ الإسلام، أبنائنا وبناتنا، ما الذي سوف يستفيده مسلم عندما يفضح أخاه؟ ما الذي تستفيده مسلمة عندما تفضح سر أختها المسلمة أو تهتك سترها؟
أولاً: انظر إلى ثمرات هذا العمل، ماذا يجني من يفضح هذا السر، ويهتك هذا الستر؟ ينال غضب الله عز وجل، ويصبح من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، والله سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(النور:19).
ثم هل تظن أن الذي أشعت عنه هذا الأمر أو هذا السلوك الذي كان مخبوءً ومخبأ عن الناس هل تظن أنه يحبك؟ بل على العكس سوف توغل أنت قلبه بالعداوة وبالبغضاء وبالنزاع، ويبدأ الناس في فقدان الثقة بعضهم ببعض، سيقول الإنسان مثلاً، سبحان الله! هذا الذي كان يصلي معنا؟ هذه هي المحجبة؟ هذا هو الملتزم؟ تلك هي الملتزمة؟ ويبدأ الناس بفقد الثقة فلا نرى قدوة ولا نرى أسوة.
إن أصحاب مرتكبي الذنوب عندما يسمعون هذا عن المسلمين المستقيمين، والمؤمنات المستقيمات، ربما يرفعوا ستر الحياء، أو حجاب الحياء عنهم، وقد نساعدهم بهذا على المجاهرة بالعاصي.
والسؤال الذي يطرحه كل واحد منا: إن رأى إنسان أخاه على معصية ما فماذا يصنع؟
أولاً: "الدين النصيحة"
ولكن النصيحة على الملأ فضيحة، من الواجب أن أهمس في أذنه بما أريد أن أنصح وأسدل عليه كنفي وستري، ولله المثل الأعلى، كما يسدل الله عز وجل كنفه وستره على كل عاصي. فتأخذه بعيداً عن أعين الناس، وتقول له: يا فلان، حاذر من هذه المعاصي، استغفر الله سبحانه وتعالى، عد إلى ربك، كل بني آدم خطاء، تفتح له باب الخوف وباب الرجاء، عسى أن يعود، وعسى أن يؤوب، وعسى أن يستمع إليك. ولا يخلو الموضوع هنا من حالين:
· إما أن يرعوي، وتنزل كلماتك الصادقة في قلبه، فيتقي الله رب العالمين، ويعود ولا يصير سادراً في غيه، ولا يتمادى فيما يصنع، ويقول: والله، جزاك الله عني خيراً أنك أهديتني هذه النصيحة الغالية، وأنا كنت أريد من إذا رآني غافلاً ذكرنّي، وإن رآني ذاكراً أعانني، عندئذٍ تكون أنت سبباً في هداية هذا الإنسان، فإذا كنت سبباً بهذه النصيحة في هدايته كانت كل أعماله الصالحة ثوابها له، ثم لك، بإذن الله رب العالمين. كلما صنع شيئاً بعد موقف التوبة هذا سوف يكون لك كفل من هذا الخير، قال تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا )(النساء: من الآية85) تكن لك هذه لأنك تشفعت أو شفعت إلى هذا الإنسان أن يستقيم على طريق الله. وكأنك تشفعت بنفسك إلى نفسه وإلى قلبه فعاد إلى رب العباد سبحانه وتعالى.
· الحال الثانية: وهي أن يماشيك، ويقول: إن شاء الله رب العالمين، ثم يعود إلى المعصية مرة أخرى.
يا أخً الإسلام، ما عليك إلا أن تعيد النصيحة بلباقة وبأدب، و بمحبة، وتجعل جسراً بينك وبينه، عبارة عن جسر المحبة وجسر المودة، حتى ينصت قلبه لك، وينصت عقله إليك، ويأخذ الكلام مأخذ الجد، ويحاول أن يكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وإما أن يقوم هذا الإنسان برفض ما تقول، عندئذٍ يجوز أن تهمس في أذن العالم الذي يلقي درساً كل أسبوع أو خطبة جمعة، وتقول له: لي إنسان معين، يعز علي، وهو يصلي معنا، أو يحضر الجمعة، ويسمع الخطبة التي تلقيها، فوددنا مثلاً أن تكلمنا عن فضائل التوبة، وثمرات التوبة، وثمرات الأوبة إلى الله، والعودة إليه سبحانه تعالى، ربما يقع كلام الشيخ في قلبه موقع القبول، إن شاء الله رب العالمين، عندئذٍ تكون قد صنعت خيراً، وصرت مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر.
ثانياً: الإنسان مبتلى ومعافى، فلنحمد الله على العافية ولنرحم أهل البلاء، أكبر بلاء ينزل بالإنسان هو البلاء في الدين؛ لأن الصحة تذهب وتأتي، والمال يذهب ويأتي، كل ما في أيدينا يذهب و يأتي، إن أصبنا به، إلا المصيبة في الدين، فتلك أعظم مصيبات الحياة؛ أن يصاب الإنسان في دينه، أن يضل بعد هدى، أو أن ينحرف بعد استقامة، أو أن يفتر بعد عزيمة، أو أن يبتعد بعد قرب من الله ومن رسوله ومن كتاب ربه ومن الصالحين ومن أهل العلم.
فالابتلاء في الدين هو من أشد أنواع الابتلاء، فمن الواجب أن تقف بجوار أخيك؛ لأنه في محنة.
فالإنسان منا لو مرض مرضاً شديداً لعاده أصحابه وأقاربه وأصدقاؤه، ولو مرضت المرأة مرضاً شديداً لعادتها صديقاتها وقريباتها، لماذا؟ لأنهم يخشون عليه أو عليها من أن تكون هذه هي النهاية، فهم يقفون بجواره، أو يقفون بجوارها ساعة المرض.
ألا نرى أن مرض القلوب هو أشد الأمراض؟ وأن مرض الذنوب هو أشد الأمراض الفتاكة بقلب العبد؟
ولذلك لما ذهب أحد الناس إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما وقال له: يا ابن بنت رسول الله مريض أبحث عن دواء، قال: ما مرضك؟ قال: مرضي هو البعد عن الله رب العالمين كلما أردت أن أتوب عدت إلى الذنوب مرة أخرى، فقال له الإمام الحسين رضي الله عنه: يا هذا إن أردت أن تعصي الله فاعصه في ملك غير ملكه واعصه في مكان لا يراك فيه، وإذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله وإن أردت أن تعصيه وجاءك ملك الموت فقل له: أخرني حتى أتوب وإن أردت أن تعصيه وحشرت بين يديه يوم القيامة، وقال لك عبدي: لم عصيتني؟ قل: أنا لم أعصك يا رب. قال الرجل: أأكون كذاباً في الدنيا وأكذب على الله في الآخرة! والله قد تبت إلى الله توبة خالصة نصوحة
فالعبد يستطيع أن يمهد، وأن يفتح باب الرحمة لأخيه المسلم العاصي، ويفتح باب الخير لهذا الذي ابتعد عن طريق الله عز وجل حتى يجد هذا الصدر الحنون وتقرأ عليه آيات الرحمة وآيات المغفرة، كقوله تعالى: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(غافر:3).
تذكر له الأحاديث العظيمة التي وردت على لسان الميسر البشير النذير صلى الله عليه وسلم والتي تبشر أهل التوبة والإنابة إلى الله تعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أذنب العبد ذنباً ثم تاب، قال عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنوب أشهدكم إني قد غفرت له، فإن عاد إلى الذنب مرة ً أخرى وأستغفر، قال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنوب أشهدكم أني قد غفرت له، إلى أن يقول أشهدكم أني قد تبت عليه فلن يعود إلى الذنب مرة أخرى"، ( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا )(التوبة: من الآية118)
أخوة الإسلام، إننا إذا سترنا على المسلمين ستر الله علينا في الدنيا والآخرة، وكل بنيّ آدم خطاء، ولا معصوم إلا الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، فوجب علينا أن نستر على إخواننا حتى يسترنا الرب سبحانه وتعالى.
اللهم يا من سترتنا لا تفضحنا على رؤوس الأشهاد يوم القيامة واسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض إنك على كل شيء قدير.