أغلقوا الشاشات .. بالتراب:-
المدح غرض من أغراض الشعر، بل هو الأكثر والأهم، وليس في الشعر عيب عندما يمدح الشاعر أهله وقبيلته وأصحاب الخصال الحميدة، ويثني على صفحات الكرم والشجاعة والعزة والاباء .. فقد مُدح النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، بل مدح هو جملة من أصحابه، ونَهى عن المديح في الوجه وشدد في شأنه، وسبيل الجمع بينها أن النهي محمول على المجازفة في المدح والزيادة في الاوصاف الذي تحصل منه الفتنة للممدوح أو المدح الذي يظهر فيه الغلو والكذب المفرط .
لكن الأمر في زمننا اختلف، فبدأت قوافل الشعر والشعراء تسير إلى غرض المديح بكل ذله وإسفاف، فيمدح الشاعر أقواماً بصنوف من المدح الذي لا يصلح لأحد من البشر.. ولست أبالغ إذا قلت إن بعضهم جعل الممدوح في صف الرب ( تعالى الله عما يقولون ) فالممدوح عندهم يسير سحائب الكرم ويمطر بالجود وفي ذمة احد الكاذبين منهم ( ما مهدت النساء مثله ) وأحدهم يمناه تمد الخير وكلتا يديه يمين، وآخر تسبح الملائكة على وجهه في كل حين، ومنهم من يمدح بصفات النبوة، ومنهم من يمدح بذلة واستخفاف.. أوصاف لا أستطيع نقلها لأنها من السفالة بمكان، حتى إن بعضهم وصل به الحال إلى أن يشرح شكواه ويعرض فقره ويمد مسألته التي لن ينتشلها غير هذا الممدوح.. يا سيدي من لي يعزز وجودي... يا راعي اليمنى تراني نصيتك .. يا ..... ألفاظ مشحونة بالذلة والإهانة للنفس .
إن إذلال الإنسان نفسه للآخرين لا يجوز مهما كان الشخص.. ومها بلغ من العلم أو المكانة أو المنزلة، فكيف إذا كان هذا الذل الصادر من الشاعر لأقوام عرفوا بالخطأ وربما الظلم والتعالي والتباهي؟!.
إن عزة الإنسان تأبى أن يدفعه المديح إلى إذلال نفسه وإهانتها حتى يصرح الواحد منهم على الملأ بفقره وأنه يناشد الممدوح أن ينتشله من هذا الفقر وإن يمد له يد الكرم ويبسط عليه رداء العطاء، فأي ذلة أعظم من هذه الذلة، وأي نفوس يحملها هؤلاء الذين قتلوا فينا ذائقة الشعر من خلال مسابقات شعرية شهيرة عندما صارت الافتتاحية لكل واحد منهم وبوابة الدخول أن يقف بكل ذلة ومهانة قبل البدء ليعرض شكواه ويفغر فاه طالبا المال باسفاف .
إن المسلم عزيز بربه ودينه، لا يهين نفسه ولا يهضم حق غيره، فمن يستحق المدح يمدح ولا شيء في هذا، لكن دون أن يصل الأمر إلى إذلال النفس واحتقارها.
لقد كان السلف رحمهم الله ينهون عن هذه الصورة، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأي أقواما يمشون خلف أبي بن كعب رضي الله عنه - على ماله من الفضل- يحفون به ويحترمونه فضربهم بالدرة، وقال: (( إنها ذلة للتابع وفتنة للمتبوع ))، فأي عظمة يملكها عمر، وهو صاحب المقولة المشهورة ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ) وكان الإمام مالك رحمه الله ينهي عن قبلة اليد ويقول ( هي السجدة الصغرى ) ويرى بعض أصحاب مذهبه أنه لا يجوز تقبيل اليد لأي أحد حتى للوالدين.. فكيف بمن سواهما؟؟
إن العزة مطلوبة وإكرام النفس دليل على حسن المعدن وصلاح السريرة، لذا فإن الناس يستبشرون بمن يرفض صور الإذلال ويحترمون من يمنع تصرفات الذلة وربما كتبوا الشعر في تبجيله، وهذا ما أكده الشاعر التميمي بقوله:
ترى غناة النفس هي كنز الفتى *** أما حطام المال عجل ينفدي
موتك جوع بالمعزة والشرف *** أعز من عيش بذل ترغدي
وكسبك حلالٍ نيل من سلت العرق *** يغنيك عن نذل تمد له اليدي
يقوله اللي ما استذل ولا خنع *** ولا قال لأحدٍ في حياته سيدي
ولا تخضع كود للفرد الصمد *** اللي له المسلم يطيع ويسجدي
ولقد أبدع أحدهم في شعره الحر عندما رأى هؤلاء الشعراء فقال عنهم :
الذل في الرئتين
في العينيين والأذنين
في النافوخ والأطراف
في الأقوال والأفعال
في الأشعار والموال
في الأبدان والأموال
في نطفة الأرحام .. فينا كالدماء
الذل جلدك ملبس ... لا ينسلخ
وخير من كلامهم جميعاً كلام رسولنا صلى الله عليه وسلم ( إذا رأيتم المداحين فأحثوا في وجههم التراب ) لكن ماذا نفعل إذا كنا بعيدين عنهم وبيننا وبينهم الشاشات ؟! ... لا حل سوى إغلاق الشاشات في وجه الذل والاستذلال.. أو أغلقوا الشاشات ... بالتراب.
فهد بن عبدالعزيز السنيدي
إعلامي سعودي

أديــــبـــة @adyb_3
محررة ماسية
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

أديــــبـــة
•
لا إله إلا الله ........




جزاك الله خير على النقل
بس اللي عندها معلومه تقول لنا انا ابوس جدي دايم على يده هل تعتبر هذي البوسه من السجده الصغرى زي ما هو مكتوب في المقال ؟
بس اللي عندها معلومه تقول لنا انا ابوس جدي دايم على يده هل تعتبر هذي البوسه من السجده الصغرى زي ما هو مكتوب في المقال ؟
الصفحة الأخيرة