أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض

الملتقى العام

قليلون هم الذين يعرفون حقيقة التدين، ومن ثمّ فهم الذين يعرفون كيفية التعامل مع الناس، بحسب فهم هؤلاء الناس لما يرتبه عليهم دينهم من حقوق وواجبات، وكذلك فهم الذين يستطيعون فهم الدين بمعناه الحقيقي كدستور للحياة، ونظام يضبط سلوك وتصرفات البشر جميعاً.
أما الذين لا يعرفون معنى التدين، فهم أناس يحمّلون الأمور أكثر مما تحتمل، ويقيسون الدين بمقياس الناس، مع أن الأصل هو العكس؛ لأن الدين هو الأصل الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل، أما البشر فإن قلوبهم بيد الرحمن يغيرها متى شاء.
جاء في الحديث الشريف "إن الرجل يصبح مؤمنا حتى ما يكون بينه وبين الجنة ذراعا حتى يسبق عليه القلم فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وأن الرجل يمسي كافراً حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراعاً فيسبق عليه القلم فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" فقلوب البشر بيد بارئها يقلبها كيف يشاء.
من أجل ذلك نقول إننا إذا أردنا أن نحكم على دين من الأديان فلا بد من الحكم على فئة متدينة بالفعل، التزمت هذا الدين موضوع النظر، وهنا تكمن المشكلة في مجتمعنا، أن كثيراً من الناس يحكمون على الإسلام بالنظر إلى فئات يعتبرونها هم متدينة حسب مزاجهم وهواهم، أو عن جهل منهم، ثم يحكمون على الإسلام بناء عليها، ليصلوا إلى الحكم المغلوط الذي يسعون إليه، ويحاولون إقناع أنفسهم وغيرهم أن هذا هو الإسلام.
وعلى ذلك فنظرة الناس إلى التدين تختلف باعتبارات متعددة:
فمن الناس من يعتقد أن الدين هو مجرد مظهر لا روح له ولا قلب، وهو كائن أجوف مفرغ من أي معنى أو أي مضمون، فيرون بناء على ذلك أن الدين هو مجرد لحية طويلة (كثة) وجلباب لا يجوز أن يتجاوز العبين، وأن المتدين هو من توجد به هذه الصفات.
ومنهم من يتصور التدين على أنه تسجيل مكان في السطر الأول من المسجد في (الطابو) والتزامه دوماً وعدم الصلاة في غيره من الأماكن إلا في الملمات، والتزام باقي العبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج ليس إلا.
ومن الناس من يعتقد أن المتدين هو كل من قرأ كتاباً في الرقائق أو قرأ كتاباً لعالم من العلماء، وحفظه غيباً وبدأ يفتي الناس انطلاقاً من هذا الكتاب فقط، مع تجاهل كل تراث الأمة الفقهي الذي يتكون من مجموعة من المصادر والمراجع التي يصعب حصرها أو عدها.
وهذه الصور الثلاثة خطأ، وكلاها ينتج عنه آثار سلبية تنعكس على حياة المجتمع بشكل عام، وعلى حياة الأفراد أصحاب هذا التصور بشكل خاص.
أما التصور الأول فسلبياته تتمثل في اعتبار كثير من الناس متدين، يمثلون الإسلام، ناطقون باسمه، وقد يستفتيهم الكثير، وهم مجرد شيء أجوف لا علم لهم، ولا حظ لهم من الإسلام إلا اسمه فقط، حتى المظهر الذي يعتقدونه ليس هو مظهر المسلم الحق، ومن سلبيات هذا التصور أيضاً، تفريغ الدين من محتواه، وإشغال المجتمع المسلم بقضايا لا أهمية لها بالنسبة لقضاياه الجوهرية والحساسة، إشغاله بقضايا مثل قضية طول الثوب وقصره، وقضية اللحية، وكم شبراً ينبغي أن تكون، وقضية المسبحة، وهل هي بدعة أم لا؟ ... إلى غير ذلك من أمثال هذه القضايا.
وأما التصور الثاني عن الدين وهو أنه مجرد مجموعة من العبادات فقط، فمن أضراره إقصاء القسم الأكبر من الشريعة الإسلامية أو إلغائه، ما عدا العبادات، من مثل المعاملات المالية والأحوال الشخصية والعقوبات والجنايات والجهاد السياسة والحكم والأخلاق، وكل هذه مكونات للشريعة الإسلامية يجهلها كثير من الناس، ويظنون أن التدين هو فقط التزام الصلاة في المسجد، والمحافظة عليها (مع أهمية هذا الأمر) وإيتاء الزكاة وحج بيت الله الحرام، وعلى ذلك فإن هؤلاء الناس لا يحتكمون إلى شرع الله تعالى إلا في أمور العبادات فقط، أما ما عداها من الأمور الحياتية الأخرى، فيرون أن حكمها هو لعاداتهم وتقاليدهم، أو الأعراف والقوانين التي ابتدعها البشر لأنفسهم.
وأما التصور الثالث للتدين، وهو الذي يحصر المتدين فيمن حفظ موعظة ما، أو قرأ كتاباً ما، أو وجد في نفسه ملكة الوقوف أمام الناس في تجمعاتهم من أجل وعظهم، وهو يجهل أدنى آداب الموعظة وأركانها، فينهج للناس منهجاً بعيدا ًعن الإسلام الذي كان للاجتهاد فيه نصيب كبير، والذي به كان ديناً يتصف بالواقعية والمرونة وإمكانية معالجة الواقع بسهولة ويسر، وترى أمثال هؤلاء الناس أن الإسلام هو مجرد هذا الكتاب الذي قرأوه، أو الشيخ الذي تتلمذوا على أشرطته عن بعد، وأن كل ما سواه بدعة ليس من الإسلام، وهذا هو السر في انتشار مصطلح البدعة عند هؤلاء.
من أجل ذلك كله ترى هؤلاء الناس يخطئون كل من يرى غير ما يرون هم، ويتهمونه بالجهل، وفي أحسن الأحوال بالزندقة والتهاون في الدين، وكل هذا لأنهم يجهلون قواعد الدين ومقاصده العامة، ويحصرونه في مصدر واحد فقط، ما أنزل الله به من سلطان.
إن هذا التصور الخطأ للدين انعكس في الحياة العملية على شكل وازدراء للدين وللمتدينين أنفسهم، فكثيراً ما تسمع مقولة: (أنا لا أصلي في المسجد من أجل فلان الذي يصلي في الصف الأول فيه فهو إنسان لا أخلاق له)، فصاحب هذه المقولة يظن أن المتدينين لا أخلاق لهم، لأنه يتصور الدين هو الصلاة في الصف الأول في المسجد كما ذكرنا سابقاُ.
وكذلك كثيراً ما تسمع ما يُقال: (إن الدين يدعو إلى التزمت والجهم، ويدعو إلى الترهل وسوء المننظر) !! يقول هذا لأنه يتصور أن الدين هو كما ذكرنا جلباب قصير، وشعر رأس غسر مسرح، ولحية كثة طويلة لا تعرف أولها من آخرها. مع ملاحظة أنني لا أقصد أصحاب اللحى بأي سوء فهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكني اتحدث عن الفهم الخطأ لإعفاء اللحية وللتدين
.
وعلى ذلك فما هو التدين؟ نقول إن التدين بمفهومه العام هو كل ما يدين به الإنسان لغيره، والتدين في الإسلام هو ما ندين له لله تعالى؛ حيث يقول جلّ وعلا في ذلك: (إن

الدين عند الله الإسلام)، ومعلوم أن الإسلام هو شريعة وعقيدة، شريعة تشمل الأحكام المنظمة لسلوك الناس وتصرفاتهم في كل ما يخطر ببالهم من مجالات الحياة، دونما أي
استثناء، لقوله تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) وقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، شريعة فيها أحكام العبادات

والمعاملات والأحوال الشخصية والقضاء والعقوبات والجنايات والأطعمة والجهاد والأخلاق ونظام السياسة والحكم.
هذه هي الشريعة، أما العقيدة فهي الأحكام التي تنظم علاقة الإنسان بربه سبحانه وتعالى، وما يجب أن يؤمن به الإنسان من أسماء الله تعالى وصفاته وغير ذلك من أركان
العقيدة الإسلامية.
فالدين إذن هو كل هذه الأمور مجتمعة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحصر في التصورات الخطأ التي تحدثنا عنها سابقاً، ومما يدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين المعاملة"، أوضح عليه الصلاة والسلام أن أحكام الإسلام يجب أن يلتزم بها في جانب المعاملات كما يلتزم بها في جانب العبادات؛ أي أن يحكّم الفرد شرع الله تعالى في كل معاملاته مع غيره على اختلافها وتنوعها، وكذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"، فكما أن الدين يشمل المعاملة وهي المتعلقة بالأفعال الصادرة عن الناس، فإنه أيضاً يشمل الأقوال الصادرة عنهم، حيث عبر عنها الرسول بالنصيحة، حيث النصيحة قول.
وبناء على ذلك فالتدين في مفهومه الصحيح هو التزام شرع الله كله، كما بينا من قبل، ولن يقبل من الإنسان أقل من ذلك، ولن يقبل منه أن يلتزم جزءاً منه دون جزء آخر، فقد أعاب الله تعالى على اليهود ذلك، وذمهم عليه بقوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، ومن لم يلتزم أحكام الإسلام، ودان بدين آخر فهو في نظر الإسلام غير متدين، لقول الله تعالى: (ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه).
3
341

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

همم فوق القمم
همم فوق القمم
جزاك الله خير
محد مثلي أنا
محد مثلي أنا
جزاك الله خير حبيبتي ............... وبارك الله فيك ....... رائع رائع رائع
الخيــزران
الخيــزران
جزاك الله خير... فعلاً بعض النماذج اللي ذكرتيها موجودة بالمجتمع الله يهدينا جميعاً