أقوال... ومواقف .... وعبر

الملتقى العام



أقوال .. ومواقف ... وعبر

في هذا المبحث نسوق لك أيها الأخ الكريم بعض أقوال ومواقف أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة ، الصريحة في تحريم الخروج على أئمة الجور والظلم ، ووجوب السمع والطاعة ، والانضواء تحت لوائهم ، والجهاد تحت رايتهم ، وإقامة الجمعة والجماعة والأعياد معهم ، والدعاء لهم ، ولزوم جماعة المسلمين ، وعدم مفارقتهم قيد شبر ، كما أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، لعل الله أن ينفع بها الجميع ، وأن ينور بها البصائر ، ويهدينا صراطه المستقيم ، ويرينا الحق حقا ويوفقنا لأتباعه ، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ، إنه سميع مجيب 0
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره ، فأخذ دوره في سوق الركب ليلا ، ويقول : جندب وما جندب والأقطع الخير زيد ، فقيل له : إنك قلت كذا وكذا ، فقال : رجلان من أمتي ، أما أحدهما فيضرب ضربة تفرق بين الحق والباطل ، وأما الثاني فرجل تقطع يده في سبيل الله ثم يلحقها جسمه 0 أو كما قال عليه الصلاة والسلام 0
فأما جندب : فإنه قتل الساحر الذي فتن الناس وادعى أنه يحيى الموتى ، فضرب عنقه بالسيف ، وقال : أحي نفسك إن كنت صادقا 0
وأما زيد : فهو زيد بن صوحان ، وقد قطعت يده في سبيل الله ، ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله 0
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجله ويرحله ، ويقول : افعلوا هكذا بزيد يا أهل العراق 0
وكان له المنزلة العالية بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، حتى إن سلمان الفارسي إذا كان أميرا على جيش يقدمه لإمامة الصلاة 0
ومع جلالته وعلو قدره وخيريته ، فإنه لما دخل على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأنكر عليه علنا أمام مشهد من الناس ، قال له عثمان : أسامع مطيع ، قال : نعم ، قال : اذهب إلى الشام ، فطلق زوجته ، وسمع وأطاع ، وذهب إلى الشام ، امتثالا لأمر ولي الأمر 0
فانظر رحمك الله إلى هذا الخليفة الراشد كيف جازى وأدب هذا التابعي الجليل لما تطاول على مقام الخلافة ، وما النصيحة علنا إلا فضيحة !! ومثيرة للقيل والقال !!
وكما قال أسامة بن زيد لما قيل له في ذلك ، قال : وما يدريكم ؟ أم تريدون أن يقال قال أسامة 0
وجاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فاخذ عمر يسأله والرجل يجيب ، وقال : حفظ القرآن كذا وكذا ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : والله ما أحب أن يسارعوا يومهم هذا بالقرآن هذه المسارعة ، فنهره عمر ، فعاد إلى أهله حزينا كئيبا ، ثم أرسل إليه عمر ، وقال : ما الذي أنكرت مما قاله الرجل ؟ فاخذ يعتذر ، فقال : لتخبرني ، قال : متى يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا ، ومتى يحتقوا يختصموا ، ومتى يختصموا يختلفوا ، ومتى يختلفوا يقتتلوا 0 قال عمر : لله أبوك ، لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها 0
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، الذي قال فيه ابن مسعود رضي الله عنه : أحسب أن تسعة أعشار العلم ذهب بموت عمر 0
وقال : لو وضع علم عمر في كفه ، ووضع علم أحياء الأرض في كفة أخرى ، لرجح علم عمر بعلمهم 0
قال الأعمش : فذكرت ذلك لإبراهيم ، فقال : لا تعجب من هذا ، فقد قال عبد الله : إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب يوم ذهب عمر 0
وجاء عن حذيفة مثل قول عبد الله 0
قلت : ومع ذلك كان يجمع للنازلة كبار المهاجرين والأنصار ، وقد تعلم وحفظ سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة ، وكذلك ابنه عبد الله في ثمان سنين 0
ولا تعجب من ذلك ، فقد قال بعض أهل العلم : سورة البقرة فضلها عظيم ، وثوابها جسيم ، ويقال لها : فسطاط القرآن ، وذلك لعظمها وبهائها وكثرة أحكامها ومواعظها 0
قال ابن العربي : سمعت بعض أشياخنا يقول : فيها ألف أمر ، وألف نهي ، وألف حكم ، وألف خبر 0 انتهى 0
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز الواحد منهم عشر آيات حتى يحفظها ، ويتعلم معانيها ، وما دلت عليه ، ويعمل بمقتضاها 0 هذا هو الذي جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كالنجوم .
وما خشيه عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم من المسارعة بالقرآن وعدم تدبره وتعلم معانيه والعمل بمقتضاه ، هو الذي جعل أوباش الأمصار ، وتلامذة عبد الله بن سبأ اليهودي ، يهجمون على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويذبحون أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه 0
وكذلك عبد الله بن وهب الراسبي ومن معه من الخوارج ، يكفرون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن معه من المهاجرين والأنصار ، ويستحلون دمائهم وأموالهم ، كيف بعلم هؤلاء الضلال ومن معهم من الهمج الرعاع مقابل علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم 0
فيا ترى : أهؤلاء أهدى سبيلا وأقوم طريقا أم الضلال والهوى ؟
وكان مذهب عمر رضي الله عنه يمنع الفتيا إلا لمن أذن له ، حتى قال لأبي مسعود البدري : نبئت أنك تفتي الناس ولست بأمير ، فول حارها من تولى قارها 0
كذلك كان يمنع التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قال لأبي هريرة رضي الله عنه : لتتركن الحديث أو لأبعثنك إلى بلاد دوس 0
وقال لكعب الأحبار : لتتركن الحديث أو لأبعثنك إلى بلاد القردة والخنازير 0
ولما جاء صبيغ التميمي إلى المدينة ، وبلغه أنه يسأل عن بعض المتشابه ، دعاه وضربه ، ولما برأ ظهره ، دعا به وضربه مرة ثانية ، وهكذا الثالثة ، ثم أذن له بالعودة إلى العراق 0
وكتب إلى أبي موسى الأشعري : أن لا يكلمه احد 0
وانظر إلى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، الذي يشبه فقهه فقه عمر ، حينما عارض أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه في إتمام الصلاة في منى ، فصلى معه على الإتمام ، فقيل له : كيف تعارض وتصلي ؟ فقال : الخلاف شر 0
كذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حينما خطب معاوية بحضرة الصحابة وغيرهم ، وقال : من أحق بهذا الأمر منا ؟ يعرض بابن عمر ، قال عبد الله : هممت أن أحل حبوتي ، وأقول أحق به من قاتلك وأباك على الكفر ، فخشيت تفرق الكلمة وإثارة الفتنة ، فتركت ذلك 0 هذا هو العلم ، وهذا هو الصراط المستقيم ، والسبيل الأقوم الحكيم ، فتدبروا يا أولي الألباب 0
قال أبو بكرة رضي الله عنه لبلال بن مرداس أحد الخوارج لما قال انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق - يعني عبد الله بن عامر - قال : اسكت ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : من أهان سلطان الله أهانه الله 0
قلت : وهكذا من كان مسلكه في دعوته الإنكار علنا بين الشباب ، وإثارة الفتن والقيل والقال ، وإيغار قلوب السامعين على ولاة الأمر والعلماء ، وزرع الكراهية والحقد في القلوب ، فان هذا المسلك يخالف ما عليه سلف الأمة وأئمتها من أهل السنة والجماعة ، فتأمل أيها اللبيب وافهم ، ولا تغتر وتنجرف وراء الأقوال المنمقة والمموهة ، وما وراءها إلا السراب ، فقد أعطوا اللسن والجدل ، كما قال غير واحد من السلف ، وما يغني ذلك من الحق شيئا ، فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض 0
قال علي رضي الله عنه : الفهم الفهم في كتاب الله عز وجل 0
وإليك هذا التوجيه الكريم من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه حينما دخل المدينة المنورة بعد عام الجماعة ، فصعد على المنبر ، وحمد الله ، وقال :
أما بعد : فإني وليت أمركم حين وليته وأنا اعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها ، وإني لعالم بما في نفوسكم ، ولكن خالستكم بسيفي هذا مخالسة ، ولقد أردت نفسي على عمل أبي بكر وعمر فلم أجدها تقوم بذلك ، ووجدتها عن عمل عمر أشد نفورا ، وحاولتها على مثل سنيات عثمان فأبت علي ، وأنى مثل هؤلاء !! هيهات أن يدرك فضلهم !! غير أني سلكت طريقا لي فيه منفعة ، ولكم فيه مثل ذلك ، ولكل فيه مواكلة حسنة ومشاربة جميلة ما استقامت السيرة ، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم ، والله ما أحمل سيفي على من لا سيف معه ، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني ، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا ببعضه ، فإنها ليست بقائية قوبها ، وإن السيل إن جاء تترى ، وإن قلَّ أغنى ، وإياكم والفتنة فلا تهموا بها ، فإنها تفسد المعيشة ، وتكدر النعمة ، وتورث الاستأصآل ، واستغفر الله لي ولكم 0
وعن ابن شهاب عن عروة : أن المسور بن مخرمة بن نوفل بن عبد مناف بن زهرة الإمام الجليل القرشي الزهري ، أخبره : أنه لما قدم إلى معاوية ، قال له معاوية : يا مسور ، ما فعل طعنك على الأئمة ؟ قال : دعنا من هذا ، وأحسن فيما جئنا له ، قال : لتكلمني بذات نفسك بما تعيب علي ؟ قال : فلم أترك شيئا إلا بينته ، فقال : لا ابرأ من الذنب ، فهل تعد لنا مما نلي من الإصلاح في أمر العامة ؟ أم تعد الذنوب وتترك الإحسان؟ قلت : نعم ، قال : فإنا نعترف لله بكل ذنب ، فهل لك ذنوب في خاصتك تخشاها ؟ قال : نعم ، قال : فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني ، فوالله ما آلي من الإصلاح أكثر مما تلي ، ولا أخير بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على سواه ، وإني على دين يقبل فيه العمل ، ويجزى فيه بالحسنات ، قال : فعرفت أنه قد خصمني ، قال عروة : فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه .
روى الإمام احمد وغيره ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنهم أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، وأقومها هديا ، وأحسنها حالا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، ولإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوا آثارهم ، فإنهم على الهدى المستقيم 0
وروى أبو داود الطيالسي عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : إن الله نظر في قلوب العباد ، فنظر قلب محمد خير قلوب العباد ، فبعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فاختارهم لصحبة نبيه ونصرة دينه ، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح 0
فخير قلوب العباد أحق الخلق بإصابة الحق والصواب ، فكل خير وإصابة وحكمه وعلم ومعارف ومدارك ومكارم إنما عرفت لدينا ووصلت إلينا من الرعيل الأول والسرب الذي عليه المقول ، فهم الذين نقلوا العلوم والمعارف عن ينبوع الهدى ومنبع الاهتداء 0
قال حذيفة رضي الله عنه : يا معشر القراء ، خذوا طريق من كان قبلكم ، فوالله لإن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا ، ولإن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا 0
قال ابن القيم رحمه الله : ومن المحال أن يكون الصواب في غير طريق من سبق إلى كل خير على الإطلاق 0
ثم قال : فظهر بهذا أن الصحابة رضي الله عنهم أولى الأمة بالإصابة فيما ثبت عنهم ، وإنهم رضي الله عنهم كانوا أبر قلوبا ، وأعمق علما ، وأقل تكلفا ، وأقرب إلى أن يوفقوا للصواب من غيرهم ، لما خصهم الله به من توقد الأذهان ، وفصاحة اللسان ، وسعة العلم ، وسهولة الأخذ ، وحسن الإدراك ، وسرعة وحسن القصد ، وتقوى الرب ، العربية طريقتهم وسليقتهم ، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم 0
ثم انظر إلى ما جرى بين أمير المؤمنين علي بن أبى طالب رضي الله عنه وبين معاوية رضي الله عنه ، مع أن القتال مع أمير المؤمنين علي بن أبى طالب قتال على الحق ، لكن السلامة منه أسلم ، فمن لم يدخل فيه لا يلام ولا يعاب ، بل يعد من مناقبه الحميدة
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : كففت يدي ولم أندم ، والقتال على الحق أفضل 0
وبعث علي بن أبى طالب رضي الله عنه عبد الله بن عباس والأشعث إلى جرير بن عبد الله البجلي وهو بقرقسيا ، فقالا : إن أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويقول : نعم ما رأيت من مفارقتك معاوية ، وإني أنزلك بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أنزلكها ، فقال جرير : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إلى اليمن أقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها حرمت دماؤهم وأموالهم ، فلا أقاتل من يقول لا إله إلا الله 0
وقال أمير المؤمنين علي بن أبى طالب رضي الله عنه لأسامة بن زيد رضي الله عنه : ما نعدك يا أسامة إلا منا أهل البيت ، فلمَ تدخل معنا ؟ قال : يا أبا الحسن ، إنك والله لو أخذت بمشفر الأسد لأخذت بمشفره الآخر حتى نهلك جميعا أو نحيا جميعا ، فأما هذا الأمر الذي أنت فيه فوالله لا أدخل فيه أبدا 0 وذلك من أسامة وفاء بالعهد الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما بعثه إلى الحرقات من جهينة ، ورأى مرداس بن نهيك وقد أحر قتلا بالمسلمين ، فلما أهوى عليه أسامة بالسيف ، قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقتله أسامه ، فلما رجعوا إلى المدينة أخبر أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : كيف تصنع يا أسامة بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟ من لك يا أسامة بلا إله إلا الله ؟ قال أسامة : فما زال يرددها حتى وددت أن ما مضى من إسلامي لم يكن يومئذ أني أسلمت ، فقلت : استغفر لي يا رسول الله وإني أعطي الله عهدا أن لا أقتل رجلا يقول لا إله إلا الله أبدا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بعدي يا أسامة ، قال : بعدك يا رسول الله 0
وهذا محمد بن مسلمة الأوسي الأنصاري الصحابي الجليل اعتزل الفتنة ، وكان قد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سيفا ، وقال : قاتل به المشركين ، فإذا رأيت المسلمين قد أقبل بعضهم على بعض ، فاضرب به أحدا حتى تقطعه ، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة 0
وقال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد ستكون فرقة وفتنة واختلاف ، فاكسر سيفك واقطع وترك واجلس في بيتك 0
قال حذيفة رضي الله عنه : ما من أحد إلا وأنا أخاف عليه الفتنة إلا ما كان من محمد بن مسلمة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تضره الفتنة 0
وهذا سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه ، وحسبك به ، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ، لم يدخل في القتال بين علي ومعاوية ، ويعد هذا من مناقبه هو ومن لم يدخل في ذلك 0
وكذلك عمران بن حصين الإمام أبو نجيد ، الذي كانت تسلم عليه الملائكة ثم اكتوى فأمسكت عن السلام عليه ، فترك الكي فعاد السلام ، وكان ممن اعتزل الفتنة 0 وغيرهم كثير.
وانظر رحمك الله تعالى إلى فعل هذا السيد العظيم والإمام الكبير والخليفة الراشد ، ومن نوه الرسول صلى الله عليه وسلم بفضله وسيادته وحسن عمله وسداد رأيه ، ألا وهو الإمام الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وأرضاهما ، حينما رأى أن الفتنة ستطول والانشقاق سيتسع ويسفك فيه دماء وتقطع أرحام وييتم فيه أطفال ويرمل فيه نساء ويعقم أرحام وتقطع سبل وغير ذلك من المفاسد العظيمة ، ولما رأى أن المصلحة الكبرى للأمة هو الاجتماع وإطفاء نار الفتنة ، تنازل عن الإمامة العظمى وهو أحق بها وأجدر ، لمعاوية رضي الله عنه ، وسمي ذلك العام عام الجماعة ، وأصلح الله به الأمة ، وجمع به الشمل ، وقد تحمل رضي الله عنه في سبيل تقديم المصلحة العظمى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير ، مصداقا لقول جده صلى الله عليه وسلم إن بني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين 0
وكان من حوله يعارضونه ويلومونه على ما فعل ، حتى أقرب الناس إليه أخوه الحسين رضي الله عنه ، لما هم بهذا الأمر أخبره بما رأى ، فعارضه ولامه على ذلك ، فلما رأى شدة معارضته له ، قال : والله لقد هممت أن أبني بيتا لا باب له وأضعك فيه حتى أنهي هذا الأمر ، فلما رأى جد أخيه وعزمه ، قال : أنت أخونا الكبير ، وولي أمرنا فافعل ما ترى 0 على كره منه لذلك0
فقارن أخي الكريم بين تنازل هذا السيد الكبير والإمام الراشد الكريم عن الإمامة العظمى ، ومعه جماجم العرب ، منهم اليمانية بقيادة بن الأشعث مائة وعشرون ألف فارس ، سوى غيرهم من بني تميم وبني أسد ، وبقية الناس يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه ويضربون بسيفه من عصاه وينقادون لطاعته ، إيمانا بالرسالة السماوية وحبا لله ولرسوله ولأهل بيته رضي الله عنهم 0
وبين هؤلاء الذين يخرجون على ولاة المسلمين وعلمائهم وجماعتهم وهم مجتمعون ، فيطعنونهم في عقر دارهم ومن باطنهم ، ويثيرون الفتن والقلاقل ، ويقتلون ويهلكون الحرث والنسل ، ويجعلون ذلك جهادا في سبيل الله ، أعاذنا الله من الضلال والغلو والتطرف والانحراف عن سبيل الصراط المستقيم 0
وقال مروان بعد موت يزيد لابن عمر : هلم يدك نبايعك ، فإنك سيد الناس وابن سيدهم ، قال له : كيف أصنع بأهل المشرق ، قال : نضربهم حتى يبايعوا ، قال : والله ما أحب أنها دانت لي سبعين سنة ، وأنه قتل بسيفي رجل واحد 0
ولما بويع يزيد ، قال : إن كان خيرا رضينا ، وإن كان بلاء صبرنا 0
وكتب له رجل : أن أكتب لي العلم كله ، فكتب إليه : إن العلم كثير ، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء المسلمين ، خميص البطن من أموالهم ، كاف اللسان عن أعراضهم ، لازما لأمر جماعتهم ، فافعل 0
وقد عرض عليه عثمان رضي الله عنه القضاء ، فقال : أو تعفيني من ذلك ، قال : فما تكره من ذلك وقد كان أبوك يقضي ، قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من كان قاضيا فقضى بالعدل فبالحري أن ينقلب كفافا 0 فما أرجو بعد ذلك0
وقال له رجل : ألا تسمع إلى قوله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما.. الآية ) فقال : لئن اعتبر بهذه الآية فلا أقاتل ، أحب إلي من أن اعتبر بالآية التي قال الله فيها ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاءه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما ...الآية ) فقال الرجل : ألا ترى أن الله قال ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) قال : قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلا ، وكان الرجل يفتن في دينه إما أن يقتلوه وإما أن يسترقوه ، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة 0 فلما رأى أنه لا يوافقه ، قال : فما قولك في عثمان وعلي ، قال : أما عثمان فكان الله عفا عنه وكرهتم أن يعفوا الله عنه ، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه 0
قال الذهبي : كادت أن تنعقد له البيعة يومئذ ، ولو بويع لم يختلف عليه اثنان ، ولكن الله حماه وخار له 0
قال ابن عمر : ما أحب أنها أتتني يعني الخلافة ورجل يقول : لا ، وآخر يقول : بلى ، وإني أرجو أن اخرج من الدنيا ويدي بيضاء نقية 0
وقال : من قال حي على الصلاة أجبته ، ومن قال حي على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله ، فلا 0
هذا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، وحسبك به 0
وهذا حفيده الإمام القدوة الزاهد العابد أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، قال مصعب الزبيري : ما أدركت بالمدينة رجل أهيب منه ، وكان هارون الرشيد يتلقى قوله " بنعم يا عم " 0
شخص إليه بالعراق ، فرجفت لمجيئه الدولة ، حتى لو كان نزل بهم من العدو مائة ألف ما زاد من هيبته 0
قال له موسى بن عيسى : يُنهى إلى أمير المؤمنين أنك تشتمه وتدعو عليه ، فبما استجزت هذا ؟ قال : أما شتمه فوالله هو أكرم علي من نفسي ، لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما الدعاء عليه ، فوالله ما قلت : اللهم قد أصبح عبئا ثقيلا على أكتافنا فلا تطيقه أبداننا ، وقذا في عيوننا لا تطرف عليه جفوننا ، وشجى في أفواهنا لا تستسيغه حلوقنا ، فاكفنا مؤنته ، وفرق بيننا وبينه ، ولكن قلت : اللهم إن كان تسمى بالرشيد ليرشد فأرشده ، أو لغير ذلك فراجع به ، اللهم إن له في الإسلام بالعباس على كل مؤمن كفا وحقا ، وله بنبيك صلى الله عليه وسلم قرابة ورحما ، فقربه من كل خير ، وباعده من كل شر ، وأسعدنا به ، وأصلحه لنفسه ولنا ، فقال موسى : رحمك الله يا أبا عبد الرحمن كذاك الظن بك 0
وفي تاريخ ابن جرير بإسناد : أن الرشيد قال " والله ما أدري ما آمر في هذا العمري ، أكره أن أُقدم عليه وله سلف ، وإني أحب أن أعرف رأيه فينا ، فقال عمر بن يزيع والفضل بن الربيع : نحن له ، فخرجا من العرج إلى موضع له في البادية في مسجده ، فأناخا وأتياه على زي الملوك في حشمة ، فجلسا إليه ، فقالا : نحن رسل من وراءنا من المشرق ، يقولون لك : اتق الله إن شئت فانهض ، فقال : ويحكما فيمن ولمن ؟ قالا : أنت ، قال : والله ما أحب أني لقيت الله بمحجمة دم مسلم واحد وإن لي ما طلعت عليه الشمس ، فلما أيسا منه ، قالا : إن معنا عشرين ألف دينار تستعين بها ، قال : لا حاجة لي فيها ، قالا : أعطها من رأيت ، قال : أعطياها أنتما ، فلما أيسا منه ذهبا ، ولحقا بالرشيد فحدثاه بذلك ، فقال : ما أبالي ما صنع بعد هذا 0
وهاك موقف له مع الرشيد في أيام الحج ، حيث كان الرشيد يسعى بين الصفا والمروة على دابة ، وكان العمري يسعى ، فعرض له وأخذ بلجام الدابة ، فأهووا إليه ، فكفهم الرشيد ، وكلمه ، فرؤي الرشيد تسيل دموعه ، قال العمري : يا أمير المؤمنين ترى هذا الخلق الكثير : فمن يحصيهم ؟ قال : لا يحصيهم إلا الله عز وجل ، قال : كل واحد مسئول عن نفسه ، وأنت مسئول عنهم وعن جميع رعيتك يوم القيامة ، فبكى الرشيد ، ثم قال له : يا أمير المؤمنين إذا أسرف الرجل في ماله أيستحق الحجر عليه ، قال : نعم ، فقال : فكيف بمن يسرف في مال غيره ، فبكى الرشيد 0
وكان هذا العمري في أول أمره دعاه أهل الحجاز إلى الخروج ، فجاء إلى الإمام مالك يستشيره ، فنهاه الإمام مالك ، وذكر له ما كان من جده عبد الله بن عمر ، وكذلك ما قال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز – كما سيأتي - فنفعه الله بذلك ، وهكذا من يشاور الرجال الكمل عقولا وعلما ودينا ، فإنه يسلم من المهالك والمعاطب ، كما أمر الله عز وجل في كتابه العزيز بقوله ( وشاورهم في الأمر ) وكما روى عنه عليه الصلاة والسلام حينما سئل عن الرأي الصائب ، قال : أن تستشير ذا الرأي وتطيعه 0
وقال أبو العالية - رفيع بن مهران ، الإمام المقرئ الحافظ المفسر ، أحد الأعلام ، حفظ القرآن وقرأه على أبى بن كعب ، وتصدر لإفادة العلم ، وبعد صيته ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه على السرير وقريش أسفل من السرير ، وقال : هكذا العلم يزيد الشريف شرفا ويجلس المملوك على الأسرة ، قال أبو بكر بن أبى داؤد : ليس احد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبى العالية - : إن الله انعم علي بنعمتين لا أدري أيهما أعظم أن هداني للإسلام ، ولم يجعلني حروريا 0
فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام : كيف قرن نعمة الإسلام بنعمة السلامة والعصمة من مذهب الخوارج الضال 0
وقال أيضا : لما كان زمن علي ومعاوية كنت شابا القتال أحب إلي من الطعام الطيب والشراب ، فتجهزت بجهاز حسن حتى أتيتهم ، فإذا صفان ما يرى طرفاهما ، إذا كبر هؤلاء كبر هؤلاء ، وإذا هلل هؤلاء هلل هؤلاء ، فراجعت نفسي ، فقلت : أي الفريقين أنزله كافرا ؟ ومن أكرهني على هذا ؟ قال : فما أمسيت حتى رجعت وتركتهم 0
وقال أبو العالية : تعلموا القرآن ، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه ، وإياكم وهذه الأهواء فإنها توقع العداوة والبغضاء بينكم 0
قال عاصم الأحول : فحدثت به الحسن ، فقال : قد نصحك والله وصدقك 0
وقال أيضا : إني لأرجو أن لا يهلك عبد بين نعمتين ، نعمة يحمد الله عليها ، وذنب يستغفر الله منه 0
وقال الشعبي : كان مسروق الأجدع - الإمام العلم والقدوة الهمداني ، صاحب ابن مسعود رضي الله عنه - إذا قيل له أبطئت عن علي وعن مشاهده ، يقول : أرأيتم لو أنه حين صف بعضكم لبعض فنزل ملك ، فقال : (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) أكان ذلك حاجزا لكم ؟ قالوا : نعم ، قال : فوالله لقد نزل بها ملك كريم على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنها لمحكمة ما نسخها شيء 0
وقال الإمام المفسر مجاهد رحمه الله : لا ادري أي النعمتين علي أعظم أن هداني للإسلام وعافاني من هذه الأهواء 0
قال الشعبي : سمو أهل الأهواء ، لأنهم يهوون في النار 0
قلت : فإذا كان القتال مع أمير المؤمنين علي بن أبى طالب رضي الله عنه ومعه من معه من كبار الصحابة وغيرهم ، وهو على الحق ، ومع ذلك فالسلامة من ذلك اسلم ، كما تقدم من قول عبد الله بن عمر ، فكيف بمن يدعو إلى إثارة الفتن ، ويوغر صدور الشباب على ولاة الأمر وعلماء الأمة ، ويزعزع الثقة بهم ، ويزرع في قلوبهم الكراهية والبغضاء والحقد ، كما هو المشاهد اليوم في مجتمعاتنا ، ويا ليتهم سلموا من هذه الصحوة الضالة 0
قال الإمام مالك رحمه الله لعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر : إن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله حينما احتضر ، قيل له : إنك في أخر أيامك من دنياك وأول أيامك من لقياك ربك ، وإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم اليوم في عنقك ، وأنت أول من أنكرت على بني عمك ، فكيف تردها إليهم مرة ثانية ؟ فقال : نعم إن بني أمية لا يتركون هذا الأمر حتى يسفك فيه دماء ، وإني أبرء إلى الله عز وجل أن أفتح الفتنة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم 0
فانظر هداك الله ووفقك للحق وجنبك الباطل والهوى إلى هذا الإمام العظيم ، ودقة فقهه ، وتقديمه أدنى المفسدتين دفعا لأعلاهما 0
وذلك وفقا للقاعدة الشرعية ، وهي ارتكاب أدنى المفسدتين دفعا لأعلاهما 0
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه : ليس العاقل من يعرف الخير من الشر ، إنما العاقل من يعرف خير الشرين 0
قال الإمام مالك رحمه الله : عليك بالبين المحض ، وإياك وبنيات الطرق ، وعليك بما تعرف ، واترك ما لا تعرف 0
وكان إذا جاءه بعض أهل الأهواء ، يقول : أما أنا فعلى بينة من ربي ، وأما أنت فشاك ، فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه ، ثم قرأ (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) 0
وكان إذا ذكر له أهل الأهواء ، يقول : قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله " سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا ، الأخذ بها إتباعا لكتاب الله واستكمالا لطاعة الله ونزولا على دين الله ، ليس لأحد بعد هؤلاء تبديلها ولا النظر في شيء يخالفها ، من اهتدى بها فهو مهتد ، ومن استنصر بها فهو منصور ، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا " 0
وكان إذا تحدث بها ارتج سرورا 0 رحمهم الله
جاء في مصنفات الإمام الحسن بن علي بن خلف البربهاري - أحد الأمة العارفين ، والحفاظ المتقنين والثقات المأمونين وفيها شرح السنة ذكر فيه : " واحذر صغار المحدثات في الأمور ، فإن صغار البدع تعود حتى تصير كبارا ، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيرا يشبه الحق ، فاغتر بذلك من دخل فيها ثم لم يستطع المخرج منها ، فعظمت وصارت دينا يدان به ، فخالف الصراط المستقيم وخرج من الإسلام 0
فانظر رحمك الله كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة ، فلا تعجلن ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر : هل تكلم فيه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من العلماء ؟ فإن أصبت فيه أثرا عنهم فتمسك به ، ولا تجاوزه لشيء ، ولا تختر عليه شيئا فتسقط في النار 0
واعلم رحمك الله تعالى أنه لا تتم السلامة لعبد حتى يكون متبعا مصدقا مسلما ، فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يذكرناه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذبهم ، وكفى بهذا فرية وطعنا عليهم ، فهو مبتدع ضال مضل محدث في الإسلام ما ليس فيه 0
واعلم رحمك الله أنه ليس في السنة قياس ، ولا تضرب لها الأمثال ، ولا تتبع فيها إلا ما هو سنة ، وهو التصديق بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم " إلى أن قال فيها : وكان الدين إلى خلافة عمر الجماعة كلها ، وهكذا في زمن عثمان ، فلما قتل عثمان جاء الاختلاف والبدع ، وصار الناس أحزابا وصاروا فرقا ، فمن الناس من ثبت على الحق عند أول التغيير وقال به وعمل به ودعا إليه 0
ثم قال : واعلم أن العلم ليس بكثرة الرواية والكتب ، ولكن العالم من اتبع العلم والسنة وإن كان قليل العلم والكتب 0
وقال فيها : وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى ، وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم انه صاحب سنه إن شاء الله 0
يقول الفضيل بن عياض رحمه الله : لو كان لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان ، فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح ، ولم نؤمر أن ندعو عليهم وإن جاروا وإن ظلموا ، لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم وعلى المسلمين ، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين 0
إلى أن قال : وإذا رأيت الرجل يجلس مع كل رجل من أهل الأهواء فاحذره واعرفه ، فإن جلس معه بعد ما علم فاتقه فإنه صاحب هوى ، وإذا رأيت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ، فلا تشك أنه رجل قد احتوى على الزندقة ، فقم من عنده ودعه 0
ثم قال : واعلم أن الأهواء كلها رديئة ، وتدعو إلى السيف ، وإذا ظهر لك من إنسان شيء من البدع فاحذره ، فان الذي أخفى عنك أكثر مما أظهر لك 0
وقال : وإذا رأيت عابدا مجتهدا متقشفا محترفا بالعبادة صاحب هوى ، فلا تجلس معه ، ولا تسمع من كلامه ، ولا تمشِ معه في طريق ، فإني لا آمن أن تستحلي طريقته فتهلك معه 0
قال الإمام مالك بن أنس : من لزم السنة وسلم منه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مات ، كان من الصديقين والشهداء والصالحين ، وإن قصر في العمل 0
وقال بشر بن الحارث : السنة هي الإسلام ، والإسلام هو السنة 0
وقال الفضيل بن عياض : إذا رأيت الرجل من أصحاب السنة فكأنما رأيت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا رأيت رجلا من أهل البدع فكأنما رأيت رجلا من المنافقين 0
وكان عون يقول عند الموت : السنة السنة ، وإياكم والبدع ، حتى مات 0
وقال : قال الإمام احمد بن حنبل - رحمه الله - مات رجل من أصحابي ، فرؤي في النوم ، فقال : قولوا لأبي عبد الله عليك بالسنة ، فإن أول ما سألني ربي عز وجل عن السنة 0
وقال أبو العالية : من مات على السنة مستورا فهو صديق ، والاعتصام بالسنة نجاة.
قال الإمام سفيان الثوري : من أصغى بإذنه إلى صاحب بدعة خرج من عصمت الله تعالى ، ووكل إليها - يعني إلى البدعة 0
وقال الفضيل بن عياض : من جلس مع صاحب بدعة لم يؤت الحكمة 0
وقال أيضا : من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ، ومن تبسم في وجه مبتدع فقد استخف بما انزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن زوج كريمته بمبتدع فقد قطع رحمها ، ومن تبع جنازة مبتدع لم يزل في سخط الله تعالى حتى يرجع 0
إلى أن قال : مثل أصحاب البدع مثل العقارب ، يدفنون رؤوسهم وأبدانهم في التراب ويخرجون أذنابهم ، فإذا تمكنوا لذعوا ، وكذلك أهل البدع مختفون بين الناس ، فإذا تمكنوا بلغوا ما أرادوا 0 انتهى
كذلك كان الإمام مالك رحمه الله يمنع الحديث بالمدينة ، ويحبس عليه 0
قال ابن اوديس وأبو مصعب : ما كان يتهيأ لأحد في المدينة أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات مالك 0
قال مالك : قال عمر بن عبد العزيز من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل 0
وقال مالك : ليس الجدال في الدين بشيء 0
وقال : المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم من قلب العبد ، ويقسي القلب ، ويورث الضغن 0
وقيل لمالك : الرجل عنده علم بالسنة يجادل عنها ، قال : لا ، ولكن يخبر بالسنة ، فإن قبل منه وإلا سكت 0
كذلك كان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان في عداد العلماء ، وكان يمنع الفتيا في مكة إلا من عطاء بن رباح 0
فانظر رحمك الله إلى من كان معاصرا لهؤلاء من العلماء وغيرهم ، لم يقيموا الدنيا ويقعدوها ويعارضوا ، بل سمعوا وأطاعوا وسكتوا امتثالا لأمر الله وأمر رسوله وطاعة لأمر ولاتهم وأئمتهم ، هذا هو الصراط المستقيم ، وطريق أهل السنة والجماعة 0
وهذا خلاف من نصبوا أنفسهم حماة ومحامين عن حقوق الأمة ، وكأنهم ولاة أمر ، ووصاة على بني ادم ، وخلاف من اجتمعوا في احد المساجد بجماهيرهم وخطباءهم ، معلنين صمودهم ومضيهم في دعوتهم ، متحدين ولاة الأمر ، ولو لا لطف الله عز وجل لانقدح زند الفتيل ، ولصار ما صار من الهرج والمرج ، ترى : أهؤلاء أهدى سبيلا مما سبق في أول هذا المبحث 0
وتأمل أخي الكريم في قول الإمام أحمد حين اجتمع فقهاء بغداد إليه في ولاية الواثق ، وشاوروه في ترك الرضى بإمرته وسلطانه ، فقال لهم : عليكم بالنكرة في قلوبكم ، ولا تخلعوا يدا من طاعة ، ولا تشقوا عصى المسلمين ، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين .. وذكر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إن ضرب ظهرك واخذ مالك فاصبر 0
وقال الواثق في ولاية أبيه المعتصم وهو يعذب الإمام احمد بالسياط : لماذا لا تقول بقول أمير المؤمنين ؟ فقال الإمام احمد وهو تحت السياط : لأن مقالته باطلة ، قال الواثق : لأن كانت باطلة أحرقني الله بالنار ، فمات في تنوره الذي عمله له وزيره الزيات ، لتعذيب الناس فيه ، فمات الوزير وخليفته كلاهما معذبين بالنار في هذا التنور 0
فتنوا الناس إلى هذه المقالة الضالة ، مع ما في هذه العقائد من الفساد والاعتزال ، وما ادخلوا على المسلمين من كتب اليونان التي أفسدت على المسلمين عقائدهم وفرقتهم وفتنتهم 0
فانظر إلى نهي الإمام احمد رحمه الله عن الخروج على ولاة الأمر ، وكانوا في ذلك الوقت على شئ من عقيدة الاعتزال ، ويدعون العلماء إلى القول بخلق القران بالقوة والسياط ، ويعذبونهم اشد العذاب ويسجنونهم ، كما جرى للإمام أحمد وغيره ، حتى مات علماء من جراء ذلك 0
كل ذلك لأن في الخروج عليهم من المفاسد ما يفوق ذلك ، كما قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى :
الله يدفع بالسلطان معضلة عن ديننا رحمة منه ورضوان
لولا الأئمة لم تؤمن لنا سبل وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
وكما قال الإمام مالك والإمام سفيان الثوري رحمهما الله تعالى : سبعون سنة بإمام ظلوم غشوم ، خير من أمة سائبة ساعة من ليل أو نهار 0
وروى علي بن المديني بسنده عن داوود بن قيس ، قال : كان لي صديق يقال له شمر ذو خولان ، فخرجت من صنعاء أريد قريته ، فلما دنوت منها وجدت كتابا مختوما إلى أبي شمر ، فجئته فوجدته مهموما حزينا ، فسألته عن ذلك ، فقال : قدم رسول من صنعاء فذكر أن أصدقاء لي كتبوا لي كتابا فضيعه الرسول ، قلت : فهذا الكتاب ، فقال : الحمد لله ، ففضه فقرأه ، فقلت : أقرءنيه ، فقال : إني لاستحدث سنك ، قلت : فما فيه ، قال : ضرب الرقاب ، قلت : لعله كتبه إليك ناس حرورية في زكاة مالك ، قال : من أين تعرفهم ؟ قلت : وأصحابا لي نجالس وهب بن منبه ، فيقولون لنا : احذروا أيها الأحداث الأغمار هؤلاء الحرورا ، لا يدخلونكم في رأيهم المخالف ، فإنهم عرة لهذه الأمة ، فدفع إلي الكتاب فقراءته ، فإذا فيه : سلام عليك ، فإنا نحمد إليك الله ، ونوصيك بتقواه ، وأن دين الله رشد وهدى ، وأن دين الله طاعة الله ، ومخالفة من خالف سنة نبيه ، فإذا جاءك كتابنا هذا فانظر أن تؤدي إن شاء الله ما افترض الله عليك من حقه تستحق بذلك ولاية الله وولاية أولياءه ، والسلام 0
قلت له : إني أنهاك عنهم ، قال : فكيف اتبع قولك واترك قول من هو أقدم منك ، قلت : فتحب أن أدخلك على وهب بن منبه حتى تسمع قوله ، قال : نعم ، فنزلنا إلى صنعاء ، فأدخلته على وهب بن منبه - ومسعود بن عوف وآلٍ على اليمن من قبل عروة بن محمد - فوجدنا عند وهب نفرا ، فقال لي بعض النفر : من هذا الشيخ ؟ قلت : له حاجة ، فقام القوم ، فقال وهب : ما حاجتك يا ذا خولان ؟ فهرج وجبن ، وقال لي وهب : عبر عنه ، قلت : إنه من أهل القرآن والصلاح ، والله أعلم بسريرته ، فاخبرني أنه عرض له نفر من أهل حروراء ، فقالوا له : زكاتك التي تؤديها إلى الأمراء لا تجزيء عنك ، لأنهم لا يضعونها مواضعها ، فأدها إلينا ، ورأيت يا أبا عبد الله أن كلامك أشفى له من كلامي 0
فقال : يا ذا خولان أتريد أن تكون بعد الكبر حروريا تشهد على من هو خير منك بالضلالة ، فما أنت قائل لله غدا حين يقفك الله ومن شهدت عليه ؟ فالله يشهد له بالإيمان وأنت تشهد عليه بالكفر ، والله يشهد له بالهدى وأنت تشهد عليه بالضلالة ، فأين تقع إذا خالف رأيك أمر الله وشهادتك شهادة الله ؟ أخبرني يا ذا خولان ماذا يقولون لك ؟
فتكلم عند ذلك ، وقال لوهب : إنهم يأمرونني أن لا أتصدق إلا على من يرى رأيهم ، ولا استغفر إلا له ، فقال : صدقت ، هذه محنتهم الكاذبة ، فأما قولهم في الصدقة : فإنه قد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن امرأة من أهل اليمن دخلت النار في هرة ربطتها ، أفإنسان يعبد الله وحده ولا يشرك به أحب إلى الله أن يطعمه من جوع هرة ، والله قال (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) .
وأما قولهم : لا يستغفرون إلا لمن يرى رأيهم 0 أهم خير أم الملائكة ، والله قال (ويستغفرون لمن في الأرض) فوالله ما فعلت الملائكة ذلك حتى أمروا به (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) وجاء مفسرا (ويستغفرون للذين آمنوا) 0
يا ذا خولان إني أدركت صدر الإسلام ، فوالله ما كانت الخوارج جماعة قط إلا فرقها الله على شر حالاتهم ، وما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقه ، ولو مكن الله لهم من رأيهم لفسدت الأرض وقطعت السبل والحج ، ولعاد أمر الإسلام جاهلية ، وإذن لقام جماعات كل منهم يدعو إلى نفسه الخلافة ، مع كل واحد منهم أكثر من عشرة آلاف ، يقاتل بعضهم بعضا ، ويشهد بعضهم على بعض بالكفر ، حتى يصبح المؤمن خائفا على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله لا يدري مع من يكون ، قال الله تعالى (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) وقال تعالى ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا)(غافر: من الآية51). فلو كانوا مؤمنين لنصروا وقال تعالى: ( وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات:173) 0
ألا يسعك يا ذا خولان من أهل القبلة ما وسع نوحا من عبدة الأصنام إذ قال له قومه (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) إلى أن قال ، فقال ذو خولان : فما تأمرني ، قال : انظر زكاتك فأدها إلى من ولاه الله أمر هذه الأمة وجمعهم عليه ، فإن الملك من الله وحده ، وبيده يؤتيه من يشاء ، فإذا أديتها إلى والي الأمر برأت منها ، وإن كان فضل فصل به أرحامك ومواليك وجيرانك والضيف ، فقال : اشهد إني نزلت عن رأي الحرورية .
فانظر رحمك الله وهداك إلى هذا التوجيه الحكيم البين الواضح من هذا الإمام العظيم الحكيم ، وأمعن النظر فيه ، فإنه صريح النصح ، واضح الدلالة ، عظيم الهداية ، أسأل الله أن يلهمك الرشد والهدى وطريق الحق والصواب ، تسلم كما سلم ذو خولان .
وقال الإمام عبد الله بن فروخ صاحب الإمام مالك وقد سئل عن المعتزلة ، فقال : وما سؤالك عن المعتزلة فعلى المعتزلة لعنة الله قبل يوم الدين وبعد يوم الدين وطول دهر الداهرين ، فقال السائل : وفيهم قوم صالحون ، فقال : ويحك ، وهل فيهم رجل صالح ؟
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في علماء أهل الأهواء : أعطوا علوما ولم يعطوا فهوما ، وأعطوا ذكاء ولم يعطوا زكاء 0
وانظر إلى الضلال والنكوب عن الصراط المستقيم ، وما قاله الحافظ بن كثير رحمه الله في خروج وفتنة عبد الرحمن بن الأشعث على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ، يتبين لك أن هؤلاء على غير صواب ، ومخالفين للسنة والكتاب 0
قال رحمه الله : والعجب من هؤلاء الذين بايعوه بالإمارة - أي ابن الأشعث - وليس من قريش وإنما هو كندي من اليمن ، وقد احتج الصحابة يوم السقيفة على أن الإمارة لا تكون إلا من قريش ، واحتج عليهم الصديق بالحديث ، حتى إنَّ الأنصار سألوا أن يكون منهم أمير مع أمير المهاجرين ، فأبى عليهم الصديق ذلك ، فكيف يعمدون إلى خليفة قد بويع له بالإمارة على المسلمين منذ سنين فيعزلونه - وهو من صلبية فريش - ويبايعون لرجل كندي بيعة لم يتفق عليها أهل الحل والعقد ، ولهذا لما كانت هذه زلة وفلتة ، نشأ بسببها شر كبير ، وهلك فيها خلق كثير من العلماء وغيرهم ، ولم ينج منها سوى محمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وخيثمة ومطرف بن عبد الله بن الشخير الإمام القدوة0
قال : كنا نأتي زيد بن صوحان ، فأتيته ذات يوم وقد كتبوا كتابا ، ونسقوا كلاما من كان معنا كنا وكنا ومن خالفنا كانت يدنا عليه ، وجعل يعرض الكتاب عليهم واحدا واحدا ، فيقولون : أأقررت يا فلان حتى انتهوا إلي ، فقالوا : أأقررت يا غلام ؟ قلت : لا ، قال زيد : لا تعجلوا على الغلام ، ما تقول يا غلام ؟ قلت : إن الله قد أخذ علي عهدا في كتابه ، فلن أحدث عهدا سوى العهد الذي أخذه علي ، فرجع القوم من عند آخرهم ، وكانوا زهاء ثلاثين رجلا 0
قال الإمام أيوب السختياني رحمه الله : وفي القراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث لا أعلم أحدا منهم قتل إلا رغب له عن مصرعه ، أو نجى إلا ندم على ما كان 0
وتأمل أخي في موقف عبد الملك بن مروان ، الخليفة الأموي ، والفقيه المحدث ، من عمران بن حطان ، وقد كان الأخير من رؤساء العلماء ومن أهل السنة والجماعة ، لكنه تزوج بامرأة خارجية ، فأدخلته في منهاج الخوارج - وقد نهاه العلماء عنها مخافة ما وقع فيه من الضلال ، لأن مخالطة أهل الأهواء والبدع من أمراض القلوب التي تعدي أشد من عداوة الأمراض الجسدية المعدية كالجرب وغيره – فكان من شعره يمدح عبد الرحمن بن ملجم ، قاتل علي بن أبي طالب :
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا
فأهدر الخليفة دمه ، فهرب إلى عمان 0
وقد رد عليه الفقيه الطبري بقوله:
يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليهدم من ذي العرش بنيانا
إني لأذكره يوما فالعنه إيها والعن عمران بن حطانا
وكذلك محمد بن احمد الطيب رد عليه بقوله:
يا ضربة من غدور صار بها أشقى البرية عند الله إنسانا
إذا تذكرت فيه ظلت العنه والعن الكلب عمران بن حطانا
وكان ابن فروخ يرى الخروج على أئمة الجور ، فلما خرج إلى مصر وشيعه الناس ، التفت إلى من شيعه ، فقال : اشهدوا إني قد رجعت عن ما كنت أقول به من الخروج على أئمة الجور ، وتائب إلى الله منه 0
وقال الإمام الحسن البصري - رحمه الله - في فتنة يزيد بن مهلب : كلما نعق ناعق اتبعوه 0
وخطب فقال : اللهم اصرع يزيد بن المهلب صرعة تجعله نكالا ، فإنهم عرة لهذه الأمة 0
وقال الإمام وهب بن منبه - رحمه الله - : احذروا أيها الأغمار الأحداث هؤلاء الحروراء ، لا يدخلونكم في رأيهم المخالف 0
وقال الإمام مالك والإمام سفيان الثوري رحمة الله عليهما : سبعون سنة بإمام ظلوم غشوم ، خير من أمة سائبة ساعة واحدة من ليل أو نهار 0
وذلك لأن فساد ساعة واحدة بالفوضى والهرج والمرج وسفك الدماء وسلب الأموال وهتك الأعراض ، أكبر وأعظم وأشد ضررا وفسادا للأمة مما يجري على الأمة من ظلم الحاكم 0
وكان الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله كثيرا ما يردد هذه الأبيات ، التي نظمها بقوله :
الله يدفع بالسلطان معضلة عن ديننا رحمة منه ورضوانا
لولا الأئمة لم تؤمن لنا سبل وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
ولما بلغ أمير المؤمنين هارون الرشيد هذه الأبيات ، سر بذلك ، ولما مات رحمه الله حزن عليه ، وقال : أأذنوا للناس بأن يعزونا فيه ، أليس القائل : الله يدفع بالسلطان معضلة 0
وقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله حين سأله رجل عن شيء من البدع والأهواء : عليك بدين الأعراب ، والغلام في الكتاب ، والهُ عما سوى ذلك 0
وفي معنى ذلك قال الجويني والرازي وغيرهم حين بلغتهم الوفاة : أموت على عقيدة عجوز من عجائز نيسابور 0
قال عليه الصلاة والسلام : (إنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه) وفي رواية (لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله الكلَب) بالتحريك داء يعرض للإنسان من عضة الكلْب الكلب ، فيصيبه شبه الجنون ، فلا يعض أحدا إلا كلب 0 نسأل الله العافية 0
روى أيوب عن أبى قلابة ، قال لي : مسلم بن يسار - وكان ابن الاشعث أخرجه مكرها في فتنته - إني أحمد الله إليك أني لم أرم بسهم ، ولم أضرب فيها بسيف ، قلت له: فكيف بمن رآك بين الصفين ؟ فقال : هذا مسلم بن يسار لم يقاتل إلا على حق ، فقاتل حتى قتل ، فبكى والله حتى وددت أن الأرض انشقت فدخلت فيها 0
وقال الامام مالك رحمه الله : لن يصلح أخر هذه الامة إلا بما صلح به أولها 0
وإن لنا من هذه المقولة العظيمة التساؤل التالي : بمَ صلح به أول هذه الأمة حتى امتد سلطانها من أطراف الصين شرقا إلى المحيط الاطلسي غربا ، ودكت بسلطانها أعظم امبراطوريتين في زمانها ، وهما فارس والروم 0
والجواب : أن هذا لم يقع إلا بكمال التسليم وحسن الانقياد لقول الحق سبحانه (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ، انقياد واستسلام ، وعبودية وذل ، وسمع وإذعان لله بالطاعة الكاملة ، ولكتابه العزيز الذي فيه خبر من قبلنا ، وحكم ما بيننا ، ونبأ من بعدنا ، وما هو غيب عنا ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران:7) .
ثم تصديق وحسن انقياد لرسوله الكريم ، الذي بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده 0
وذلك يتمثل في مواقف لا تحصى نذكر منها :
مبادرة أبي بكر الصديق إلى التصديق بالإسراء حين قال المشركون : هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس ، قال أو قال ذلك ؟ قالوا نعم ، قال : لقد صدق إني لأصدقه بأبعد من ذلك بخبر السماء غدوة وروحة 0
ولما باع أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم جمله ، وذهب الرسول ليجيء بالثمن ، جاء رجل وزاد في ثمن الجمل ، ولم يعلم أن الأعرابي باعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما جاء رسول الله بالثمن أنكر الأعرابي البيع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطلب البينة ، فقال أبو خزيمة : أنا اشهد انك بعته على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تشهد ولم تكن حاضرا؟ قال : كيف أصدقك على خبر السماء ولا أصدقك على شراء جمل ، فجعل شهادته تعدل شهادة عدلين 0
وفي غزوة الحديبية لما عارض المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ، وفي كتابة محمد رسول الله ، وغير ذلك مما شرطوه في الصلح على الرسول والمسلمين من العودة إلى المدينة ، ورد من أسلم من مكة ، ورد أبي جندل من المسلمين وقد أتى هاربا يرسف في قيده ، وأمر الرسول صحابته بالحل والحلق ونحر الهدي ، فوجدوا في أنفسهم حتى قال عمر : أو نرضى الدنية في ديننا ، وقال أيضا : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، وجاء إلى أبي بكر مستنكرا ، فقال له أبو بكر رضي الله عنه : أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : بلى ، قال : اسمع وأطع ، هكذا الاستسلام والانقياد والطاعة في كل شيء ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36) (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً) (الأحزاب:6)
ثم التزام وطاعة لمن أمرنا الله الالتزام بطاعته ، وهم ولاة أمور المسلمين ، وذلك يتمثل في أقوال ومواقف لا تحصى ، قدمنا شيئا منها ، ونذكر منها أيضا :
ما وقع في غزوة مؤته : لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مولاه زيدا ، وفيهم ابن عمه جعفر ابن ابي طالب ، وخالد ابن الوليد ، سمعوا وأطاعوا ، أما المنافقون فطعنوا 0
ولما أمر حبه وابن حبه أسامة ابن زيد على كبار المهاجرين والأنصار ، وكان عمره آنذاك ما بين الثمانية عشر إلى العشرين ، وكان فيهم أبو بكر وعمر ، سمعوا وأطاعوا ، وأما المنافقون فطعنوا في إمارته ، حتى قال عليه الصلاة والسلام : إن يطعنوا فيه فقد طعنوا في أبيه من قبل ، وأيم الله إنه لخليق بالامارة 0
ولما أسلم عمرو بن العاص أمره الرسول صلى الله عليه وسلم على كبار المهاجرين والأنصار في غزوة المريسيع ، ولما نهاهم عن إيقاد النيران وكانت الليلة باردة ، ونهاهم عن اتباع المنهزمين وجمع الغنائم ، جاءوا إلى أبي بكر ، وقالوا له : كيف يمنع الناس عن منافعهم ؟ قال : أليس أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : بلى ، قال : اسمعوا وأطيعوا 0
ولما عادوا إلى المدينة شكوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رضي الله عنه : أما منعهم عن إيقاد النيران فإننا أمام العدو والنار تكشفنا لهم وتعمينا وتبصرهم ، وأما منعهم من اتباع المنهزمين ، فقد تكون الهزيمة خدعة ، وكذلك الاشتغال بالغنائم عن الصمود للعدو وعدم إعطائه الفرصة للكر على المسلمين ، كما حصل للرماة في غزوة احد .
كذلك لما فتح الرسول عليه الصلاة والسلام مكة أمر على مشيخة قريش وكبرائها عتاب بن أسيد - وكان شابا صغيرا اسلم بعد فتح مكة وعمره ما بين الثمانية عشر إلى العشرين - سمعوا وأطاعوا 0
فتأمل أيها الناصح لنفسه المتبع للحق فيما سقته لك من أقوال أهل العلم من الصحابة والأئمة ، ومواقفهم تجاه الولاة والسلاطين ، فهذا والله هو الحق والصراط المستقيم ، والعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، فتمسك به ، وعض عليه بالنواجذ تسلم 0
قلت : وقد أدركنا مشائخنا رحمة الله عليهم أجمعين ، الشيخ محمد بن إبراهيم ، والشيخ عبد الله بن حميد ، والشيخ عبد العزيز بن باز ، والشيخ محمد بن عثيمين ، وغيرهم ممن مضى ، وممن هم على قيد الحياة متعهم الله بالصحة والعافية ، ووفقهم لكل خير ، ونفع بعلمهم الأمة ، وهم على طريقة سلفهم من أئمة هذه الدعوة المباركة في دروسهم وتوجيهاتهم وخطبهم ومحاضراتهم وفتاواهم ، لم يخرجوا عما كان عليه السلف الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أئمة التابعين وتابع التابعين ، ومن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم وأتباعهم الذين أجمعت الأمة على هدايتهم ودرايتهم (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) 0
ألهمنا الله وإياكم حسن المتابعة ، وجنبنا الهوى والمخالفة ، والله الهادي إلى سواء السبيل 0






18
1K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

متفائله رغم الهموم
جزاك الله خير

بحث قيم
ولكنه طويل نوعا ما
ليتك جزأته حتى يسهل قراءته
بورك فيك
عاشقة الصداقة
متفائلة حيااك الله انا اختك اقرئيه شوي شوي ,,
الله يسعدك واسعدني مرورك ,,
عاشقة الصداقة
في هذا المبحث نسوق لك أيها الأخ الكريم بعض أقوال ومواقف أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة ، الصريحة في تحريم الخروج على أئمة الجور والظلم ، ووجوب السمع والطاعة ، والانضواء تحت لوائهم ، والجهاد تحت رايتهم ، وإقامة الجمعة والجماعة والأعياد معهم ، والدعاء لهم ، ولزوم جماعة المسلمين ، وعدم مفارقتهم قيد شبر ، كما أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، لعل الله أن ينفع بها الجميع ، وأن ينور بها البصائر ، ويهدينا صراطه المستقيم ، ويرينا الحق حقا ويوفقنا لأتباعه ، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ، إنه سميع مجيب 0
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره ، فأخذ دوره في سوق الركب ليلا ، ويقول : جندب وما جندب والأقطع الخير زيد ، فقيل له : إنك قلت كذا وكذا ، فقال : رجلان من أمتي ، أما أحدهما فيضرب ضربة تفرق بين الحق والباطل ، وأما الثاني فرجل تقطع يده في سبيل الله ثم يلحقها جسمه 0 أو كما قال عليه الصلاة والسلام 0

فأما جندب : فإنه قتل الساحر الذي فتن الناس وادعى أنه يحيى الموتى ، فضرب عنقه بالسيف ، وقال : أحي نفسك إن كنت صادقا 0
وأما زيد : فهو زيد بن صوحان ، وقد قطعت يده في سبيل الله ، ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله 0
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجله ويرحله ، ويقول : افعلوا هكذا بزيد يا أهل العراق 0
وكان له المنزلة العالية بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، حتى إن سلمان الفارسي إذا كان أميرا على جيش يقدمه لإمامة الصلاة 0
ومع جلالته وعلو قدره وخيريته ، فإنه لما دخل على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأنكر عليه علنا أمام مشهد من الناس ، قال له عثمان : أسامع مطيع ، قال : نعم ، قال : اذهب إلى الشام ، فطلق زوجته ، وسمع وأطاع ، وذهب إلى الشام ، امتثالا لأمر ولي الأمر 0
فانظر رحمك الله إلى هذا الخليفة الراشد كيف جازى وأدب هذا التابعي الجليل لما تطاول على مقام الخلافة ، وما النصيحة علنا إلا فضيحة !! ومثيرة للقيل والقال !!
وكما قال أسامة بن زيد لما قيل له في ذلك ، قال : وما يدريكم ؟ أم تريدون أن يقال قال أسامة 0
وجاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فاخذ عمر يسأله والرجل يجيب ، وقال : حفظ القرآن كذا وكذا ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : والله ما أحب أن يسارعوا يومهم هذا بالقرآن هذه المسارعة ، فنهره عمر ، فعاد إلى أهله حزينا كئيبا ، ثم أرسل إليه عمر ، وقال : ما الذي أنكرت مما قاله الرجل ؟ فاخذ يعتذر ، فقال : لتخبرني ، قال : متى يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا ، ومتى يحتقوا يختصموا ، ومتى يختصموا يختلفوا ، ومتى يختلفوا يقتتلوا 0 قال عمر : لله أبوك ، لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها 0
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، الذي قال فيه ابن مسعود رضي الله عنه : أحسب أن تسعة أعشار العلم ذهب بموت عمر 0
ركايز
ركايز
الله يجزاك خير يارب
ضايعة بدونك
ضايعة بدونك
الله يجزاك خير حبيبتي بس سامحيني ما كملته لان طويل شوية بارك الله فيك