كنت أتأمَّل في سورة العلق؛ التي هي أول ما نزل من القرآن الكريم، فرأيت أن من مقاصدها؛ محاربة الاستكبار وتضخّم الأنا الذي هو أعظم سبب للتكذيب، ورفض دعوة الحق.
تأمّلت الأمر بالقراءة فوجدته كشفا لمجاهل النفس ودوافعها، ووعيا يحدّ من تسلطها وطغيانها.
ولكن المشكلة أن الطغيان ربما كان اغترارا بالعلم، ولذا ربط القراءة (بِاسْمِ رَبِّكَ)(العلق: من الآية1)؛ لتكون علماً نافعاً يلامس شغاف القلب، ويهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
كثيرون ينطلقون بدوافع يظنونها حسنة، وبها يظلمون ويُفسدون، ويستغلون سلطتهم ومواقعهم، ويصمّون آذانهم.. والمعرفة الصحيحة تُسلّط الأضواء على مكامن الأنا ومساربها داخل النفس الإنسانية؛ ليعرف المرء دوافعه، ويتعامل معها بوضوح.
الحديث عن العلق الذي خُلق منه الإنسان هو هجوم على منطقة الداء، وتطهير لها من تضخّم غير حميد قد يضربها ويمتد منها إلى مناطق أخرى.
يكفي الحديث عن الأصل الذي يعود إليه الإنسان ليجد أن لا شيء يدعو للتعاظم والأبهة (كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ)(المعارج:39)، (مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ)(المرسلات: من الآية20).
فإلى أين تذهب وتشمخ بأنفك، وتتطاول وتنظر في عِطفيْك، وتزدري عباد الله؟ ألست من الطين؟!
نسي الطين ساعة أنه طين ... حقير فصال تيهاً وعربد
وكسا الخز جسمه فتباهى ... وحوى المال كيسه فتمرد
يا أخي لا تمل بوجهك عني ... ما أنا فحمة ولا أنت فرقد
أنت مثلي من الثرى وإليه ... فلماذا يا صاحبي التيه والصد؟!
وكل فضل أو عطاء أو كمال فهو من ربك الأكرم، وهو خليق أن يقابل بالشكر والتواضع، ومعرفة النفس ووضعها في موضعها الذي تستحقه؛ بعيداً عن الكبرياء والاستعلاء بغير حق.
ما الذي يمنع الإنسان من كشف عيوبه ومعرفة حقيقته؟ ما الذي يجعله يطغى؟
(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(العلق:7،6).
ليس الغنى هو ما يُطغيه، ورُبَّ غني بعلم أو مال أو جاه أو سلطان وهو محافظ على نفسه لا يسمح لهبة ريح من الغرور والعجب والتكبُّر أن تغيّرها.
الذي يُطغيه رؤيته لغناه؛ أن يرى نفسه مستغنياً، هنا تكمن الأنا المؤذية المزهوّة بنفسها، ذات الادّعاء العريض، والانتفاخ الموهوم، والتعاظم الأجوف (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)(القصص: من الآية78)، (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)(الزخرف: من الآية51)، (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)(الأعراف: من الآية12).
العجيب أن فرعون هو صاحب المقولة المنقولة في كتاب الله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)(النازعـات: من الآية24)، وسورة العلق كانت تعالج عدواناً وطغياناً واجه النبي الكريم -عليه السلام- بمكة، وحاول تعويق مسيرة الدعوة، كان حامل رايته ومُتولِّي كبره أبو جهل، وهو الذي نزلت فيه هذه الآيات، وهو فرعون هذه الأمة.
وكما وعظ موسى فرعون الأول، فقد وعظ القرآن فرعون العرب، وأبلغ في موعظته، وكان أبو جهل يُمعن في جريمته، ويُعلنها حرباً بلا هوادة على المؤمنين المستضعفين.
حين جهر ابن مسعود بالقرآن وتلا سورة الرحمن (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ)(الرحمن:41)، وهو نص يكشف حالة المستكبرين يَوْمَ الْقِيَامَةِ حين يحشرون أَمْثَالَ الذَّرِّ يطؤهم الناس حتى يدخلوا النار.
فقام إليه أبو جهل فوطأه وآذاه وضربه.
ولذا جاء التهديد هنا مباشراً وصريحاً، وموجَّهاً بصفة شخصية لذاته المعطوبة المليئة بالتورُّم (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)(العلق:8) أيّ معنى يكفّ النفس عن غلوائها ويعيدها إلى صوابها، ويحفظ توازنها كهذا المعنى؟! أن يتذكَّر الخلق من علق، ثم الرجعى إلى الموت والقبر والتراب، ثم البعث والحساب.
يا ابن التراب ومأكول التراب غدا ... أقصر فانك مأكول ومشروب
ولأن الخطاب هنا لمتكبِّر جاء السياق له بفرضية «ماذا لو؟»، «افترض أن»؛ لأن الكِبْر عادة ما يُغلق منافذ التفكير، ويعمى صاحبه عن الحقيقة، (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى)(العلق:12،11)، إذا كان الأمر كذلك، وأنت تحاربه وتمنع أتباعه من حريتهم في العبادة والصلاة، أتظن أن الله عنك غافل؟ ألا تدري بأن الدهر دول، وأن الأيام حبلى بالمفاجآت؟
إذاً فلتعلم بأن هذا المؤمن؛ الذي ضربته وآذيته، سيصعد على صدرك وأنت صريع، وقد عاينت الرجعى، وزال عنك فخرك، فتقول له: لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم! هذا وأنت في رمقك الأخير.. تداري عن كبريائك الجاهلية، وتسأل لمن الدائرة اليوم؟
بينما كان أخوك فرعون مصر يقول في مثل حالك: (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(يونس: من الآية90).
أيُّ صلفٍ وعناد هذا الذي تغلغل في نفسك وحجبك عن الحق حتى هذه اللحظة؟!
لقد هدد السياق هذا المستكبر إن لم ينته أن يسفع بناصيته -أي: مقدم رأسه-، وهكذا كان، فلقد سُحب أبو جهل الطاغية إلى قليب بدر؛ ليكون لمن خلفه من الطغاة آية!
وعاد التوجيه الإلهي يُربِّي النبي والمؤمنين على الخضوع والخشوع والتواضع لعظمة الله والتذلل بين يديه، وأن لا يطغوا إن مُكِّنوا فتحقّ عليهم السنَّة، وتجري عليهم الآية (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(هود:1121).
ولا شيء يصنع الكبر والطغيان مثل أن يوكل الإنسان إلى نفسه وضعْفه، ولا شيء يدفعه ويحمي النفس من غوائله مثل الإخبات لله، والقرب منه، والركون إليه.. و« أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ »، فاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ.
د.سلمان العودة
ام الحكاوي @am_alhkaoy
محررة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
امي حب دائم
•
جزاك الله خيرا
الصفحة الأخيرة