(في ذكرى مولده: 15 من ذي القعدة 1028هـ)
أحمد تمام
أصيب الملك "شاه جهان" أحد السلاطين العظام لدولة المغول الإسلامية في الهند بمرض عضال أقعده عن مباشرة الحكم سنة (1068هـ = 1657م) فاستدعى "داراشكوه" أكبر أبنائه لينهض بشئون الدولة ويصرّف أمورها، فلما أمسك بزمام الحكم أخفى نبأ مرض أبيه عن إخوته الثلاثة: أورنجزيب، ومراد، وشجاع، وكان كل منهم يحكم ولاية من مملكة أبيهم، فثاروا على أخيهم وتجهزوا لإقصائه عن الحكم، فلما أفاق أبوهم من مرضه ساءه ما فعلوه، وأرسل إليهم ينصحهم بالهدوء، غير أنهم لم يلتزموا بالنصيحة، وأفقد بريق السلطان رشدهم ولبهم، فاحتكموا إلى السيف، ودارت بينهم عدة معارك أشعل ضراوتها الرغبة في الحكم والانفراد بالسلطة ولو كان ثمن ذلك آلاف القتلى من المسلمين، وتقطيع أواصر الرحم وصلة الدم بينهم، وانتهت هذه الفتنة بانتصار أورنجزيب ودخوله مدينة أكرا عاصمة الدولة، فأرسل إليه أبوه المريض يهنئه بالنصر وبعث له بسيف مرصّع بالجواهر ونقش عليه اللقب الذي منحه إياه وهو لقب "عالمكير" أي آخذ العالم وسيده. ولما استقر الأمر لأورنجزيب أمسك بزمام الحكم واستبد بالسلطة دون أبيه الذي وضعه في القلعة، وأحاطه بكل أنواع التقدير، دون أن يكون له يد في مباشرة الدولة، وشاء الله أن تطول مدة مكثه في هذه القلعة، فظل حبيس المرض والاعتقال ثماني سنوات حتى قضى نحبه، غير أن انتصار أورنجزيب ودخوله إلى العاصمة لم يسلس له الحكم، وعاود إخوته منازعته ولم يدينوا له بالخضوع والطاعة، وقضى عامين في حروب معهم، حتى نجح في القضاء على خطرهم والانفراد بالحكم دون منازع، وأقام لذلك احتفالاً بجلوسه على العرش وإعلان نفسه ملكًا خلفًا لأبيه وذلك في (رمضان 1096هـ = 1659م).
المولد والنشأة
ولد أورنجزيب في بلدة "دوحد" في كجرات بالهند في (15 من ذي القعدة 1028هـ = 24 من أكتوبر 1619م)، ونشأ في بيت جاه وسلطان، فأبوه شاه جهان أحد سلاطين دولة الهند العظام، وأمه "أرجمند بانو" المعروفة باسم "ممتاز محل" صاحبة مقبرة "تاج محل"، إحدى روائع الفن المعماري في العالم، وبلغ من وفاء شاه جهان لهذه السيدة النبيلة أن عزف عن الزواج بغيرها بعد وفاتها على الرغم من امتداد حياته من بعدها خمسة وثلاثين عاما، وأقام لها هذه التحفة المعمارية التي دفنت فيها.
وقد عني شاه جهان بتربية ابنه تربية إسلامية على يد كبار العلماء، حتى برع في كثير من العلوم الإسلامية وتبحر فيها، وأتقن الفارسية والعربية والتركية، وشب متمسكًا بالإسلام حريصًا على الالتزام به، غيورًا عليه، وصاحب تلك الروح الفتية خبرة إدارية وعسكرية اكتسبها من خوضه المعارك مع أبيه، وتوليه شئون بعض الولايات، فلما تولى الحكم كان قد نضجت خبراته واستوت ملكاته الإدارية، فظهر أثر ذلك على الفور، وقدم لدولته على طول عمره المديد ما يشهد على ذلك من قوة وإخلاص وعزيمة وصبر، وتطلع إلى المعالي والرقي.
إصلاح شئون الدولة
عمد أورنجزيب إلى شئون الدولة للنهوض بها بعد أن قضى على ثورة أخيه واستتب له الحكم، وكانت البلاد تعاني من آثار القحط الذي أصابها بسبب حروب الوراثة، وما نشأ عن ذلك من اضطراب في اقتصاد الدولة، فرفع كثيرًا من الضرائب التي أثقلت كاهل الناس، وشجعهم على زراعة الأراضي وعاونهم على إصلاح البور منها.
وأظهر أورنجزيب تمسكه بالإسلام والتزامه بشرائعه، فأبطل الاحتفال بالأعياد الوثنية مثل عيد النيروز، ومنع عادة تقبيل الأرض بين يديه والانحناء له، كما منع دخول الخمر إلى بلاده، وصرف أهل الموسيقى والغناء عن بلاطه، وأمر بتعمير المساجد ومدها بالعلماء والوعاظ، وأجرى الرواتب عليهم وعلى طلابهم، وعني بإقامة نظام الحسبة ودعمه بما يكفل قيامه بوظيفته من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت هذه السياسة ضرورية لإنقاذ الدولة مما أصابها من عوامل الضعف والتفكك، وإصلاح أحوال المسلمين بعد أن ساد بينهم منذ عهد السلطان "أكبر" تهاون شديد في أمور العقيدة.
واتبع أورنجزيب سياسة متشددة مع الهندوس فأعاد فرض الجزية عليهم، وكان السلطان الهندي "أكبر" قد ألغاها عنهم، متمشيًا مع سياسته التي أبعدها عن دائرة الدين. وفي الوقت نفسه تمتع الهندوس مع المسلمين بإلغاء الضرائب عليهم، كما أبعد طائفة كبيرة من الهندوس عن المناصب الرفيعة والوظائف الكبرى في دولته.
القضاء على الفتن والثورات
ولم تخل حياة السلطان أورنجزيب من المتاعب والحروب بل كانت حياته سلسلة مع المعارك والغزوات يقودها بنفسه أحيانًا أو يرسل أحد قادته بجيوشه تارة أخرى، حتى نجح في إقرار السلام في سلطنته الواسعة، فقضى على فتن البرتغاليين في المناطق الشرقية، وعلى ثورات قبائل البطهان والأفغان التي كانت تغير على حدود الهند الشمالية، وسير جيوشه إلى "قندهار" و"بدخشان" لهذا الغرض.
وثار عليه الهندوس وانضم إليهم طائفة الستناميين وهم متصوفة الهندوس، والراجبوتيون، ولم يتغلب على هذه الثورات إلا بعد حروب طويلة وخسائر فادحة، وطالت الحروب بينه وبين جماعة "المرهتها" وهي جماعة من الطبقات الدنيا في المجتمع الهندي يقودها "شيواجي بن شاهجي"، وكانت تسعى إلى ***** ما أسمته "مهاراشترا" أي المملكة الهندية الكبرى، وكان مقامها في الدكن، وظل أورنجزيب يحاربها عشرين عامًا، ويرسل الجيوش إلى أماكن نفوذها وثوراتها حتى ألحق بها خسائر فادحة، بعد أن أثارت القلاقل وخربت القرى وهدمت المساجد، حتى نجح في القضاء عليها سنة (1097هـ=1686م)، واسترد منها بيشاور، واستولى على "راج كره" عاصمة دولة المرهتها.
وبانتهاء هذه الفتنة وما سبقها من ثورات وقلاقل نجح السلطان أورنجزيب في إحكام قبضته على شبه القارة الهندية بعد جهاد دام ستة وعشرين عامًا.
علاقاته مع الإنجليز
كان الإنجليز في عداء مع المرهتها فاستعان أورنجزيب بهم في حروبه معهم، وكافأهم على ذلك بفتح وكالات تجارية في الهند تشرف على مراكزهم التجارية، واستغل الإنجليز هذه السماحة فمدوا نفوذهم إلى بومباي بالساحل الغربي، وعمدوا إلى مناهضة الدولة، فاستولى أورنجزيب على مراكزهم وأموالهم، لكنه تراجع وسمح لهم بالعودة؛ نظرًا لما كانت تجبيه الدولة منهم من رسوم، فأنشئوا مركزًا صغيرًا عند قرية تسمى "كلكتا"، وأخذت هذه القرية تتسع حتى أصبحت عاصمة الإمبراطورية الهندية البريطانية قبل انتقال العاصمة إلى "دلهي". ووحد الإنجليز جهودهم التجارية على ساحل الهند في شركة واحدة هي شركة الهند الشرقية، وخلال نصف قرن حرصوا على البعد عن التدخل في أمور الدولة الداخلية حتى ثبتت أقدامهم في البلاد.
ولم يكن يدري السلطان بما أقدم عليه من سماحة وتساهل مع الإنجليز أنه يمهد الطريق لهم للاستيلاء على الهند جملة، وهم الذين لم يتورعوا عن أحط السبل وأدناها للاستيلاء على هذه البلاد وتحقيق أطماعهم.
إسهاماته الحضارية
تميز عهد أورنجزيب بإضفاء الصبغة الإسلامية على شئون الحياة، حيث كان مسلمًا مخلصًا، ملتزمًا بأحكام الإسلام، عني بإقامة المساجد الكبيرة، ولا يزال المسجد الذي بناه في لاهور المعروف بـ"مسجد بادشاه" قائمًا حتى اليوم شاهدا على حضارة عصره، وازدهار دولته، ولم يكتف ب***** المساجد بل عمرها بالعلماء وطلبة العلم، والخطباء والوعاظ، وازدهر التعليم في عهده، فكثرت المدارس على نحو لم يسبق له مثيل من قبل، وأنشأ دورا للعجزة والمستشفيات وأقام الحمامات والاستراحات لأبناء السبيل.
وعرف أورنجزيب إلى جانب مقدرته الحربية اشتغاله بالعلم، فتحت إشرافه وبأمره ألّفت الهند موسوعة قيمة في الفقه الحنفي عرفت باسم "الفتاوى الهندية" أو العالمكيرية قام بإعدادها نخبة من كبار الفقهاء الأحناف، ولم يمض على ظهورها أكثر من قرن حتى طبعت بمصر سنة (1282هـ=1865م) وبحاشيتها كتابان من أهم المصادر التي اعتمدت عليها، وهما: الفتاوى الخانية، والفتاوى البزازية.
أورنجزيب في التاريخ
ينظر المسلمون إلى هذا السلطان نظرة إجلال وتقدير؛ لجليل أعماله والتزامه قبل غيره بشرائع الإسلام، وحرصه على نشر الإسلام، وقد جر عليه هذا حقد المؤرخين الأوروبيين والهنود فرموه بالتعصب والبعد عن السماحة، نظرًا لجهاده الطويل ضد طوائف الهندوس، وهذا الاتهام غير صحيح؛ لأنه لم يحارب تلك الطوائف إلا لخروجها على النظام وإثارتها للفتن والقلاقل لا ليرغمها على التخلي عن عقائدها، وكما حاربها وقاتلها قاتل غيرها من المسلمين لخروجهم عن طاعته وإعلانهم التمرد والعصيان، بل إنه قاتل إخوته من أجل الاستقرار.
وإذا كان قد اتبع سياسة متشددة مع الهندوس وأعفى كثيرا منهم من مناصبهم، فالمعروف أنه استعان بهم وبالراجبوت والمرهتها في كثير من المناصب المهمة، بل إن بعض قادة جيوشه كانوا من الهندوس، ولو كان متعصبًا لهدم كثيرًا من المعابد القديمة في الهند.
لكن سعي أورنجزيب إلى جعل الهند وحدة إسلامية واتباع سياسة ملتزمة بتعاليم الإسلام، وفرض الجزية على غير المسلمين هو الذي خلق له هذه المتاعب، وألّب عليه هذه القوى، فقابلها بعزيمة وإيمان حتى فرض سيطرته على شبه القارة الهندية، غير أن هذا البناء الذي أقامه لم يجد من حلفائه من يحافظ عليه ويقويه، فضعف وانهار، ووقع في قبضه الإنجليز الذين كانوا ينتظرون هذه الفرصة.
وفاته
يذكر لأورنجزيب أنه عين في كل ولاية نائبًا له، وأعلن في الناس أنه "من كان له حق على السلطان فليرفعه إلى النائب الذي يرفعه إليه" وخصص موظفين يكتبون كل ما يقع من أحوال رعاياه ويرفعونها إليه، وأبطل عادة تقديم الهدايا إليه كما كان يفعل من قبل مع أسلافه، وكان يجلس للناس ثلاث مرات يوميًا دون حاجب يسمع شكاواهم.
وكان يحيا حياة زاهدة متقشفة، فقضى على الأبهة والفخامة التي كانت تحيط بالملك في قصره، وألغى المبالغات المخالفة للشرع في استقبال السلطان وتحيته، واكتفى بتحية الإسلام، وبلغ من تقواه أنه حين حضرته الوفاة أوصى بأن يُدفن في أقرب مقابر للمسلمين وألا يعدو ثمن كفنه خمس روبيات، وتوفي السلطان في (28 من ذي القعدة 1118 هـ= 20 من فبراير 1707م) بعد أن حكم 52 سنة، تاركًا ذكرى عطره لحاكم مسلم لم تشغله دنياه وحروبه المتوالية عن دينه وآخرته، فكان إمبراطورًا لم تشهد الهند مثله في اتساع ملكه وصلاح خلقه، وحسن سيرته وسريرته.
هوامش ومصادر:
- أحمد محمود الساداتي: محاضرات في تاريخ الدول الإسلامية بآسيا ـ دار نافع للطباعة ـ القاهرة (1396هـ=1976م)
- جمال الدين الشيال: تاريخ دولة أباطرة المغول الإسلامية في الهند ـ مكتبة الثقافة الدينية ـ القاهرة ـ (1421هـ=2001م)
- حسين مؤنس: أطلس تاريخ الإسلام ـ الزهراء للإعلام العربي ـ القاهرة (1407هـ=1987م)
- عبد المنعم النمر: تاريخ الإسلام في الهند ـ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ـ بيروت (1401هـ= 1981م)
- عبد العزيز سليمان نوار: الشعوب الإسلامية ـ دار النهضة العربية ـ بيروت ـ 1973م.