قال الله تعالى في الآية التاسعة عشرة من سورة النساء : ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) .
يعني جل ثناؤه بقوله : وعاشروهن بالمعروف ، وخالقوا ، أيها الرجال ، نساءكم وصاحبوهن بالمعروف ، يعني بما أمرتكم به من المصاحبة ، وذلك : بتوفية حقها من المهر والنفقة والكسوة ونحو ذلك ، فيجب على الزوج لزوجته المعروف من مثله لمثلها في الزمان والمكان ، وهذا يتفاوت بتفاوت الأحوال .
وبتطييب القول لها ، فلا يكون فظا ولا غليظا ، وقد قيل : المرأة تسمن من أذنها .
وبتحسين الفعل والهيئة بحسب القدرة ، وإدخال السرور عليها ، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب، ولا يظهر ميلا إلى غيرها .
وأن يحتمل أذاها ، ولا يحملها من كلف خدمته ما يتعبها ،
كما يحب ذلك كله منها ، فيفعل بها مثله ، كما قال تعالى: ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) فإن ذلك أهدأ للنفس وأهنأ للعيش .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ ، وأنا خَيْرُكُم لأهْلي " ، وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جَمِيل العِشْرَة دائم البِشْرِ ، يُداعِبُ أهلَه ، ويَتَلَطَّفُ بهم ، ويُوسِّعُهُم نَفَقَته ، ويُضاحِك نساءَه ، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يَتَوَدَّدُ إليها بذلك . قالت : سَابَقَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَبَقْتُهُ ، وذلك قبل أن أحملَ اللحم ، ثم سابقته بعد ما حملتُ اللحمَ فسبقني ، فقال : " هذِهِ بتلْك " ، ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها . وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد ، يضع عن كَتِفَيْه الرِّداء وينام بالإزار ، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يَسْمُر مع أهله قليلا قبل أن ينام ، يُؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .
وقوله تعالى : ( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) .
قوله تعالى: ( فإن كرهتموهن ) لِعَيْبٍ في أخلاقهن أو خَلْقهن ، أو لتقصير في العمل والواجب عليهن كخدمة البيت وغير ذلك ؛ أو لميل منكم إلى غيرهن ، من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز ؛ فاصبروا و لاتَعْجلوا بمفارقتهن ، فإن كراهة الأنفس للشيء لا تدل على انتفاء الخير منه ، كما قال تعالى : ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ) ، ولعل ما كرهت النفس يكون أصلح في الدين وأحمد في العاقبة ، وما أحبته يكون بضد ذلك . ولا تحملكم الكراهة على سوء المعاشرة ؛
( فَعَسَى ) أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة ، وتبدلها بالمحبة ، فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة ، وحصول الأولاد ، فيكون الجزاء على هذا محذوفاً مدلولاً عليه بعلته ... وانظر إلى فصاحة فعسى أن تكرهوا شيئاً ، حيث علّق الكراهة بلفظ شيء الشامل شمول البدل ، ولم يعلق الكراهة بضميرهن ، فكان يكون فعسى أن تكرهوهن .
والضمير في فيه عائد على شيء أي : ويجعل الله في ذلك الشيء المكروه ؛ وقيل: عائد على الكره وهو المصدر المفهوم من الفعل .
وقيل : عائد على الصبر .
ولذلك اختلفت عبارات المفسرين في معنى الآية ؛ فقيل : المعنى أنكم إن كرهتم صحبتهن فأمسكوهن بالمعروف فعَسَى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن ؛ فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة ، كما قال ابن عباس في هذه الآية : هو أن يَعْطف عليها ، فيرزقَ منها ولدًا . ويكون في ذلك الولد خير كثير ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر" أو قال : " غيره " . المعنى: أي لا ينبغي له أن يبغضها بغضا كليًا يحمله على فراقها. بل يغفر سيئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره لما يحب. وقلّ أن ترى متعاشرين يرضى كل واحد منهما جميع خلق الآخر ، ويقال : ما تعاشر اثنان إلا وأحدهما يتغاضى عن الآخر ، وأنشدوا في هذا المعنى :
ومن لا يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبع جاهداً كل عثــرة ... يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
وهذا التفسير على سبيل التمثيل لا الحصر ؛ فقد يفسر من قال بأن الضمير في قوله ( فيه ) يعود إلى الصبر على الصحبة : الخير الكثير : تارة بولد نجيب يحصل ، أو مال كثير لليمن في صحبتها ؛ فتنقلب الكراهة محبة ، والنفرة رغبة ، وتارة بأنه لما كره صحبتها ثم تحمل ذلك المكروه طلبا لثواب الله ، وأنفق عليها وأحسن إليها على خلاف الطبع ، استحق الثواب الجزيل في العقبى والثناء الجميل بحسن الوفاء وكرم الخلق في الدنيا .
وقيل : المعنى إن كرهتموهن ورغبتم في مفارقتهن ، فربما جعل الله في تلك المفارقة لهن خيرًا كثيرًا ، وذلك بأن تتخلص تلك المرأة من هذا الزوج وتجد زوجا خيراً منه ، أو أوفق منه . ولذلك جاء بعده : ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ) .
وقيل : معنى الآية : ويجعل الله في فراقكم لهنّ خيراً كثيراً لكم ولهن ، كقوله : ( وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته ) ، وهذا القول بعيد من سياق الآية ، ومما يدل عليه ما قبلها وما بعدها .
وهذا كله مع الإمكان في الإمساك وعدم المحذور ؛ فإن كان لا بد من الفراق ، وليس للإمساك محل ، فليس الإمساك بلازم .

خادمة الحرمين @khadm_alhrmyn_1
عضوة جديدة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️