إحياء سنة مهجورة
إن التناصح بين المسلمين أمر مطلوب ، حتى وإن كان الناصح مقصراً فيما
ينصح به مع بذله الجهد للامتثال ، وفي هذه الوريقات أذكر نفسي وإخواني بسنة
هجرت ، ففات بهجرانها أجر عظيم ، وليت هجرها من عامة الناس ، بل من
علمائهم وعبادهم ودعاتهم ، فلا تكاد تر هنا إلا في النذر اليسير على أزمنة متفاوتة .
وهذه السنة هي : المكوث في المصلى بعد صلاة الغداة جماعةً ، حتى تطلع
الشمس وترتفع ، ثم أداء ركعتين .
فضلها :
قال الترمذي باب ( ذكر ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح
حتى تطلع الشمس ) ، ثم أورد بسنده عن أنس بن مالك-رحمه الله-قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ثم صلى ركعتين ، كانت له كأجر حجة وعمرة ) ، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( تامة ، تامة ، تامة ) .
وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : ( لأن أقعد أذكر الله تعالى وأُكبره ، وأحمده وأسبحه ، وأهلله ، حتى تطلع الشمس ، أحب إلى من أن أعتق رقبتين أو أكثر من ولد إسماعيل ، ومن بعد العصر حتى
تغرب الشمس : أحب إلى من أن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل ) .
فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها :
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال : ( كان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- إذا صلى الفجر لم يقم من مجلسه حتى تمكنه الصلاة ) ، وقال : ( من صلى
الصبح ثم جلس في مجلسه حتى تمكنه الصلاة ، كان بمنزلة عمرة وحجة
متقبلتين ) .
وفى ( صحيح مسلم ) عن سماك بن حرب قال : قلت لجابر بن سمرة : أَكنت
تجالس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ قال : نعم ، كثيراً ، كان لا يقوم من
مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس ، فإذا طلعت قام .
وهذا الحديث يدل في أقل أحواله على كثرة فعل النبي -صلى الله عليه
وسلم- لها ، إن لم يكن فيه دلالة على مداومة الرسول عليها . إذ أن لفظ ( كان )
يفيد الاستمرار غالباً .
مسائل مختصرة تتعلق بهذه السنة :
الأولى : هل يختص المكوث بالمسجد أو المصلى أم لا ؟
ظاهر الحديث يدل على أن السنة : المكوث في المصلى وعدم الانتقال منه
إلى بيت أو نحوه ، وعلى هذا تراجم العلماء أيضا ، وقد سبق قول الترمذي في
ترجمته لحديث الباب ، ومثله ترجم النووي لحديث صحيح مسلم قال : ( باب :
فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح وفضل المساجد ) ، وقال المناوي في
( فيض القدير ) : ( وفيه ندب القعود في المصلى بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس
مع ذكر الله -عز وجل- ) - ومثله قال المباركفوري .
الثانية : هل هاتان الركعتان هما سنة الضحى ؟
ورد في حديث معاذ الجهني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ( من قعد
في مصلاه حين ينصرف من مصلاه الصبح حتى يسبح الضحى ، لا يقول إلا خيراً ، غفر الله له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر ) . أخرجه أبو داود ، والبهيقي في
السنن الكبرى 3/490 ، وترجم له بقوله : باب : من استحب أن لا يقوم من مصلاه
حتى تطلع الشمس ، فيصلي صلاة الضحى ، ولكن هذا الحديث إسناده ضعيف .
كما أن ظاهر الأحاديث الواردة في هذه السنة لا يدل على أنها صلاة الضحى ، ويؤيده : أن وقت السنة لصلاة الضحى كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- :
( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ) أي : إذا وجد الفصيل - وهو ولد الإبل -
حر الشمس ، ولا يكون ذلك إلا عند ارتفاعها ، وهذا الوقت لا يكون إلا بعد ارتفاع
الشمس بمقدار أكبر من رمح أو رمحين ، كما هو وقت أداء هذه السنة .
ثالثاً : متى تؤدى ؟
من المعلوم أن الوقت بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وترتفع قيد رمح
هو وقت نهي ، فعن عقبة بن عامر قال : ( ثلاث ساعات كان رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا ، حين تطلع الشمس
بازغة حتى ترتفع ... ) رواه مسلم رقم : 831 ..
وورد في أحاديث أخرى تحديد هذا الارتفاع ب : ( قيد رمح أو رمحين ) كما
في حديث عمرو بن عبسة ، وهنا لفظ أبي داود ، ولفظ النسائي : ( ندع الصلاة
حتى ترتفع قيد رمح ويذهب شعاعها ) .
فعلى هذا : يكون وقت أدائها بعد خروج وقت النهي وهو ارتفاع الشمس قيد
رمح ، ولعل هذا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر
المتقدم : ( من صلى الصبح ، ثم جلس في مجلسه حتى تمكنه الصلاة ) ، وكذلك ما
ورد في حديث جابر ابن سمرة : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر ،
تربَّع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناً ) ، قال النووي : (هو بفتح السين وبالتنوين ، أي : طلوعاً حسناً ، أي : مرتفعة) .
وقت مشهود للذكر :
قال النووي في ( الأذكار ) (باب : الحث على ذكر الله تعالى بعد صلاة
الصبح) ، ثم قال : اعلم أن أشرف أوقات الذكر في النهار : الذكر بعد صلاة الصبح . اهـ . ثم أورد حديث أنس المتقدم .
وفي هامش مختصر سنن أبي داود للمنذري : (قيل : وفي فعله فائدتان :
أحدهما : الجلوس للذكر ، فإنه وقت شريف ، وقد جاءت أحاديث في الذكر في ذلك الوقت .
والثانية : أنه لما تعبد الإنسان لله -عز وجل- قبل طلوع الشمس ، لازم
مكان التعبد إلى أن تنتهي حركات الساجدين للشمس إذا طلعت) .
وعن عمرو بن عبسة قال : قلت : يا رسول الله : هل من ساعة أقرب من
الله -عز وجل- من الأخرى ؟ أو : أَهَل من ساعة يبتغى ذكرها ؟ قال : ( نعم ، إن
أقرب ما يكون الرب -عز وجل- من العبد جوف الليل الآخر ، فإن استطعت أن
تكون ممن يذكر الله -عز وجل-في تلك الساعة فكن ، فإن الصلاة محضورة
مشهودة إلى طلوع الشمس ، فإنها تطلع بين قرني شيطان ، وهي ساعة صلاة الكفار ، فدع الصلاة حتى ترتفع قيد رمح ، ويذهب شعاعها ، ثم الصلاة محضورة مشهودة
حتى تعتدل الشمس اعتدال رمح ... ) الحديث . رواه أبو داود والنسائي ، وهذه
رواية النسائي .
قال الشوكاني : (أي : تشهدها الملائكة ويحضرونها ، وذلك أقرب إلى القبول
والرحمة) .
ولعل الإمام ابن تيمية فقه هذا حقَّ الفقه ، يروي عنه تلميذه ابن القيم -رحمه
الله : (كان إذا صلى الفجر يجلس في مكانه حتى يتعالى النار جداً ، يقول : هذه
غدوتي ، لو لم أتغد هذه الغدوة سقطت قواي) .
وما أعجب ما نقله البغوي وغيره عن علقمة بن قيس - وكان أشبه الناس
سمتاً وهدياً بعبد الله بن مسعود - قال : بلغنا أن الأرض تعج إلى الله من
نومة العالم بعد صلاة الصبح .
هل نسير على خُطاهم ؟ :
وبعد أن رأينا الأجر العظيم لهذه السنة ، وحرص سلفنا على فعلها ، استطرد
هنا قائلاً :
إن كثيراً من الدعاة إلى الله فضلاً عن غيرهم في هذه الأيام يشكون كثيراً من
الإحساس بنقص الإيمان وقسوة القلب ، فهم يبحثون دائماً عن علاج لهذا ، وإذا
نظرنا نظرة متجردة لأنفسنا ، فنجدنا تاركين لسنن كثيرة ، مع أن لها أثراً كبيراً في
إحياء قلوبنا ، في الوقت الذي نجدنا حريصين على سنن أخرى ، لغرابتها بين
الناس ، فهي تجلب الأنظار لفاعلها وتصف صاحبها بأنه متبع للسنة ، مع سهولة
أداءها ، متعلقين بقولنا : (نشر السنة وإظهارها واجب ... ) ، أما السنة التي تشق
علينا والتي لا تظهر غالباً للخلق والرقيب عليها هو الله فحسب ، فنحن متهاونون
فيها تاركون لأكثرها .
فما هو مقدار حرصنا على صوم يومي الاثنين والخميس ؟ ! ، وأكون
صريحاً أكثر إن قلت : كم صمنا فعلاً هذين اليومين ؟ وما هو مقدار حرصنا على
التبكر إلى الصلاة وحضور الصف الأول ؟ ! ، أم انشغال الدعاة بالأمور الهامة هو
سبب امتلاء الصفوف الأخيرة بهم ؟ ، وما هو ؟ .. وما هو ؟ .. وغير هذا كثير .
وختاماً : وبعد هذه الذكرى ، فهل سنرى الأمر تغير وأصبحت المساجد
تمتليء بعمَّارها في هذا الوقت ؟ ، أم هل ستكون هذه الذكرى مجرد (علم) أضفناه
إلى (علمنا) أو موعظة جديدة نخاطب بها الآخرين وننسى أنفسنا ؟ .
________________________
(1) رواه الترمذي في1/482و2/586 ، وقال : حديث حسن غريب ، وهو حديث حسن ، حسنه غير واحد منهم : الألباني والأرناؤوط وغيرهم .
(2) في الترغيب والترهيب 294/1 ، رواه أحمد بإسناد حسن ، كما حسنه الألباني في صحيح الترغيب و الترهيب .
(3) قال المنذري في الترغيب والترهيب 292/1 : رواه الطبراني في الأوسط ورواته ثقات ، إلا الفضل بن الموفق ففيه كلام ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب .
(4) رواه مسلم 1/463 ، رقم670 - طبع عبد الباقى .
(5) النووي على مسلم 5/170 .
(6) قاله المعلق على جامع الأصول 400/9 .
(7) الروايات مفصلة في جامع الأصول5/258رقم3338 .
(8) الأذكار للنووى / 70 .
(9) مختصر سنن أبي داود بتعليق الفقي وشاكر 201/7 .
(10) راجع جامع الأصول 257/5 .
(11) النيل 3/ 90 .
(12) الرد لابن ناصر الدين .
(13) انظر ترجمته .
(14) شرح السنة للبغوى 222/3 .
منقول من البريد الإلكتروني
Lina2005 @lina2005
عضوة نشيطة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة