اخباار الزهااد اين نحن منهم !!!!!!

الملتقى العام

الزهد في حقيقته هو الإعراض عن الشيء ، ولا يطلق هذا الوصف إلا على من تيسر له أمر من الأمور فأعرض عنه وتركه زهداً فيه ، وأما من لم يتيسّر له ذلك فلا يقال إنه زهد فيه ، ولذلك قال كثير من السلف : إن عمر بن عبد العزيز كان أزهد من أويس رحمة على الله الجميع ، وقال مالك بن دينار عن نفسه : الناس يقولون مالك زاهد ، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز ، أي إنه هو الزاهد حقيقة ، فإن الدنيا كانت بين يديه فلم يلتفت إليها .


وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا ، وأقلهم رغبة فيها ، مكتفياً منها بالبلاغ ، راضياً فيها بحياة الشظف ، ممتثلاً قول ربه عز وجل :{ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} (طه : 131) ، مع أن الدنيا كانت بين يديه ، ومع أنه أكرم الخلق على الله ، ولو شاء لأجرى له الجبال ذهباً وفضة .


وقد ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره عن خيثمة أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبياً قبلك ، ولا نعطي أحداً من بعدك ، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله ، فقال : اجمعوها لي في الآخرة ، فأنزل الله عز وجل في ذلك : {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا } (الفرقان : 10) ، وخُيِّر صلى الله عليه وسلم بين أن يكون ملِكاً نبياً أو عبداً رسولاً ، فاختار أن يكون عبداً رسولاً .


وأما حياته صلى الله عليه وسلم ومعيشته فعجب من العجب ، يقول أبو ذر رضي الله عنه :كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرّة المدينة ، فاستقبلَنا أحدٌ ، فقال : ( يا أبا ذر : قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا ، تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار ، إلا شيئاً أرصده لدين ، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه ، ثم مشى فقال : إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه وقليل ما هم ) . رواه البخاري ، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم :( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا - وفي رواية - كفافا ) ، ودخل عليه عمر رضي الله عنه يوماً ، فإذا هو مضطجع على رمالٍِ وحصيٍر ليس بينه وبينه فراش ، وقد أثّر في جنبه ، قال عمر : فرفعت بصري في بيته ، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر ، فقلت : ادع الله فليوسع على أمتك ، فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله ، فقال : ( أوَفي شك أنت يا ابن الخطاب ، أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا) ، وكان يقول : (ما لي وللدنيا ، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ، ثم راح وتركها ) ، وكان فراشه صلى الله عليه وسلم من الجلد وحشوه من الليف .


وأما طعامه فقد كان يمر عليه الهلال ثم الهلال ثم الهلال ، ثلاثة أهلة ، وما توقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار ، وإنما هما الأسودان التمر والماء ، وربما ظل يومه يلتوي من شدة الجوع وما يجد من الدَّقل - وهو رديء التمر - ما يملأ به بطنه ، وما شبع صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز برٍّ حتى قبض ، وكان أكثر خبزه من الشعير ، وما أُثر عنه أنه أكل خبزاً مرقّقا أبدا ، ولم يأكل صلى الله عليه وسلم على خِوان - وهو ما يوضع عليه الطعام - حتى مات ، بل إن خادمه أنس رضي الله عنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يجتمع عنده غداء ولا عشاء من خبزٍ ولحم إلا حين يأتيه الضيوف .


ولم يكن حاله في لباسه بأقل مما سبق ، فقد شهد له أصحابه رضي الله عنهم بزهده وعدم تكلّفه في لباسه وهو القادر على أن يتّخذ من الثياب أغلاها ، يقول أحد الصحابة واصفاً لباسه : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلّمه في شيء فإذا هو قاعد وعليه إزار قطن له غليظ ، ودخل أبو بردة رضي الله عنه إلى عائشة أم المؤمنين فأخرجت كساء ملبدا وإزارا غليظا ، ثم قالت : قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين الثوبين ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية .


وإن المرء ليقف متعجبا أمام ما يذكره علماء السير من وصفٍ لبيوت النبي صلى الله عليه وسلم وقلة متاعها ، فلم يكن فيها شيءٌ يملأ العين من الأثاث ونحوه ، وما ذلك إلا زهداً في الدنيا وإعراضاً عنها.


ولم يترك صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة ، قالت عائشة رضي الله عنها :" توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في رفِّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفٍّ لي ، فأكلتُ منه حتى طال عليَّ " ، ومات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهوديّ مقابل شيءٍ من الشعير .


إن ما ذكرناه في هذه العجالة هو شيء يسير من أخبار إمام الزاهدين وسيد العابدين صلى الله عليه وسلم ، وغيرها كثير لم يذكر ، وستظل هذه الأخبار شواهد صدق على نبوته وزهده وإيثاره ما عند الله عز وجل ، وإن فيها دعوة للأمة وللأجيال المؤمنة للزهد في الدنيا والحذر من فتنتها ، فلو كانت الدنيا دليل محبة الله لصاحبها ، لفاز بها خير الخلق وأكرمهم على الله .

مواقف تدل على زهد ابو بكر الصديق رضى الله عنه ،،،،


كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- من أزهد الناس وأورعهم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد سطرت الروايات عنه قصصاً تكتب بماء الذهب في التجرد لله تعالى والإخلاص له، وعدم الاغترار بهذه الحياة الدنيا، إذ كان همه الدار الآخرة وكيف النجاة منها.
روى البخاري في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «كَانَ لأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلاَمُ: تَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ، قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ؛ إِلاَّ أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ».

وأخرج أبو نعيم الأصبهاني عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: « أتت عائشة أبا بكر وهو يجود بنفسه، قال: فقالت : يا أبتاه هذا كما قال حاتم : إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر، قال : يا بنية، لا ، بل قول الله أصدق: ﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ﴾ إذا أنا مت فاغسلي أخلاقي -أي ثيابي- هذه التي علي فاجعليها أكفاني، قالت : قد رزق الله وأحسن، نكفنك في جدد، قال : إن الحي هو أحوج إلى أن يصون نفسه ويقنعها من الميت، إنما يصير إلى البلاء والصديد» (معرفة الصحابة لأبي نعيم 1/ 119)

وروى الطبراني في الكبير عَنْ الْحَسَنِ بن عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ : لَمَّا احْتُضِرَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ، قَالَ : يَا عَائِشَةُ ، انْظُرِي اللِّقْحَةَ الَّتِي كُنَّا نَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا ، وَالْجِفْنَةَ الَّتِي كُنَّا نَصْطَبِحُ فِيهَا، وَالْقَطِيفَةَ الَّتِي كُنَّا نَلْبَسُهَا، فَإِنَّا كُنَّا نَنْتَفِعُ بِذَلِكَ حِينَ كُنَّا فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا مِتُّ، فَارْدُدِيهِ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ، أَرْسَلْتُ بِهِ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبْتَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكَ. (المعجم الكبير للطبراني 1/ 14)
زهد أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه

أخرج ابو الفرج عبدالرحمن علي بن محمد ابن الجوزي المتوفي سنة 597 هـ في الجزء الرابع من المنتضم في تاريخ اللأمم و الملوك باسناده اخبرنا المحمدان ابن ناصر وابن عبد الباقي قالا: اخبرنا حمد بن احمد بن عبدالله الأصفهاني، حدثنا ابو عمرو بن حمدان , حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا عمرو بن منصور البصري حدثنا عبد الواحد بن زيد بن اسلم الكوفي عن مرة الطيب عن زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر الصديق مملوك يقل عليه فأتاه ليلة بطعام فتناول منه لقمة فقال له المملوك : مالك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني اليلة ؟ قال حملني على ذلك الجوع ، من أين جئت بهذا ؟ قال: مررت بقوم في الجاهليه فرقيت لهم فوعدوني فلما كان اليوم مررت بهم فاذا عرس لهم فاعطوني ، فقال أفٍ لك ، كدت ان تهلكني ، فأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ وجعلت لا تخرج، فقيل له: إنّ هذه لاتخرج الا بالماء ، فدعا من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها ، فقيل له : يرحمك الله ، كل هذا من أجل هذه اللقمة ، قال : لولا تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" كل جسد نبَتَ من سحت فالنار أولى به" فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة .1 وروى ابن الجوزي باسناده عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي : أيُّ الناس خير بعد رسول الله صلى الله علية وسلم قال أبو بكر قلتُ : ثُمّ مَن ؟ قال ثُمّ عُمر ، وخَشِيْتُ أن أقول : ثُمّ مَن ؟ فيقول عُثمان ، فَقُلتُ ثُمّ أنتَ ؟ قال : ما أنا إلا رجلٌ من المسلمين " وهذا الحديث في صحيح البخاري . وأخرج ابن حجر العسقلاني في الإصابة في تمييز الصحابة أنّ يعقوب بن سفيان قال في تاريخه: " حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا هشام ، عن أبيه : أسلم أبوبكر وله أربعون ألفاً فأنفقها في سبيل الله ، وأعتق سبعةً كلهم يُعذ ّب في الله : أعتق بلالا ، وعامر بن فُهَيرة ، وزِنّيرة ، والنهدية ، وابنتها ، وجارية بني المؤمّل , وأم عُبَيس ." 2 ولخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم مناقب وصفات أخلاقية تدلّ على نقاوة سريرته و صفائه وعلمه ومعرفته بأحوال الناس . ويكفيه مفخرة صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومكوثة معه في الغار أثناء الهجرة النبوية حيث أنزل الله فيهما قرآناً يُتلى و هو قوله تعالى : " إلا تنصروه فقد نصره الله ، إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا ." { التوبة : 40 } والمعروف بلا نزاع أنّ صاحبه هو أبوبكر الصّدّيق رضي الله عنه وأرضاه . وأخرج ابن حجر في الإصابة أنه ثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وهما في الغار : ما ظنّك باثنين الله ثالثهما . وأضاف ابن حجر أن الأحاديث في كونه كان معه في الغار كثيرة شهيرة ، ولم يشركه في هذه المنقبة أحد . ولكي نتبين أهمية الإمام أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه في مجال الزهد الإسلامي ، فإنه يجبُ علينا أن نستمع إلى ما أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء " عن زيد بن أرقم عن أبيه قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك مال عندي ، فقلت اليوم أسبق أبابكر ، إن سبقته يوماً ، قال فجئت بنصف مالي ، قال فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ماأبقيت لأهلك " قال فقلت مثله ، وأتى أبوبكر بكل ما عنده : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أبقيت لأهلك ؟" قال : أبقيت لهم الله ورسوله . قلت : لا أسابقك إلى شيء أبداً ."3 وإنك ترى في هذا الحديث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسابقون في الخيرات ويخرجون من أنصاف أموالهم بل ومن أموالهم كلها في سبِيل الله ولا يخافون لومة لائم لأنهم قد علموا علم اليقين , وعين اليقين ، بل حق اليقين أن الله لن يضيع أجرهم وأنهم في ذلك يدَّخِرُون للآخرة . وهل هناك شيء اسمه الزهد بعد هذا ؟؟ وهنا يجب أن نقول عنهم كما قال الله تعالى مُخبراً عن الرسول والمؤمنين : " آمن الرسول بما أُنزِلَ إليه من ربِّه والمؤمنون كلٌ آمَنَ بالله وملائكته وكُتبه ورُسلِه ، لا نُفرِّقُ بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا ، غُفرانك ربَّنا وإليك المصير ." { البقرة : 285 } ونحنُ كذلك نقول لا نفرق بين أحدٍ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلهم عدول وقد أثنى الله عليهم في القرآن من غير تخصيص وعلَّمَنا ماذا نقول في حقهم و كيف نقول ، وذلك بقوله سبحانه وتعالى : " ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا في الإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ، ربَّنا إنك رؤوفٌ رحيم ." { الحشر : 10 }.



مواقف تدل على زهد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه

هذه بعض مواقفه التى تدل على زهده في الدنيا، عن أبي الأشهب قال: مر عمر رضي الله عنه على مزبلة فاحتبس عندها، فكأن أصحابه تأذوا بها، فقال: هذه دنياكم التى تحرصون عليها، وتبكون عليها. وعن سالم بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب كان يقول: والله ما نعبأ بلَذَّات العيش أن نأمر بصغار المعزى أن تسمط لنا، ونأمر بلباب الخبز فيخبز لنا، ونأمر بالزبيب فينبذ لنا في الأسعان حتى إذا صار مثل عين اليعقوب، أكلنا هذا وشربنا هذا، ولكنا نريد أن نستبقى طيباتنا، لأنا سمعنا الله يقول: {الأحقاف: 20}. وعن أبي عمران الجوني قال: قال عمر بن الخطاب: لنحن أعلم بلين الطعام من كثير من آكيله، ولكنا ندعه لـ {الحج: 2}. وقد قال عمر رضي الله عنه: نظرت في هذا الأمر، فوجدت إن أردت الدنيا أضررت بالآخرة، وإن أردت الآخرة أضررت بالدنيا، فإذا كان الأمر هكذا، فأضرّ بالفانية. وأبطأ على الناس يوم الجمعة، ثم خرج فاعتذر إليهم في تأخره، وقال: إنما حبسني غسل ثوبى هذا، كان يغسل ولم يكن لى ثوب غيره. وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاجّا من المدينة إلى مكة، إلى أن رجعنا، فما ضرب له فسطاطا، ولا خباء، كان يلقي الكساء والنطع على الشجرة فيستظل تحته.

ودخلت عليه مرة حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وقد رأت ما هو فيه من شدة العيش والزهد الظاهرعليه، فقالت: إن الله أكثر من الخير، وأوسع عليك من الرزق، فلو أكلت طعاما أطيب من ذلك، ولبست ثيابا ألين من ثوبك؟ قال: سأخصمك إلى نفسك، فذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يلقى من شدة العيش، فلم يزل يذكرها ما كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت معه حتى أبكاها، ثم قال: إنه كان لى صاحبان سلكا طريقا، فإن سلكت طريقا غير طريقهما سلك بي غير طريقهما، إني والله سأصبر على عيشهما الشديد لعلي أن أدرك معهما عيشهما الرَّخِيّ.

يقول إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رحمه الله. لما أُتي عمر بن الخطاب بكنوز كسرى قال عبد الله بن الأرقم: ألا تجعلها في بيت المال حتى نقسمها؟ قال: لا والله، لا أظلها سقف بيت حتى أمضيها، فأمر بها فوضعت في صرح المسجد، وباتوا عليها يحرسونها، فلما أصبح أمر بها، فكشف عنها، فرأى ما فيها من البيضاء والحمراء ما كان يتلألأ منه البصر، فبكى عمر. فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فو الله إن هذا ليوم شكر، ويوم فرح؟ ! فقال عمر: ويحك إن هذا لم يعطه قوم قط إلا ألقي بينهم العداوة والبغضاء. قال معاوية: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها.

يقول أبو بكرة الثقفي رضي الله عنه: أُتي عمر بن الخطاب بخبز وزيت فمسح على بطنه، وجعل يأكل، ويقول: على الخبز والزيت. بل كان من شدة زهده في الطعام، ينهى عن نخل الدقيق، وفي ذلك يقول يسار بن نمير رحمه الله: والله ما نخلت لعمر دقيق قط إلا وأنا له عاصٍ. ويقول مولاه أسلم رحمه الله: رأى عمر إنسانا ينخل الدقيق، فقال: أخلطه، إن السمراء لا تنخل. يروى النعمان بن بشير رضي الله عنه. يقول: قال عمر بن الخطاب رحمه الله، وذكر ما أصاب الناس من الدنيا: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَظَل اليوم يلتوى، ما عنده ما يملأ بطنه من الدَّقَل. والدقل نوع من التمر الرديء، فيطلق على سيئ التمر، صغير الحب، قليل الحلاوة الدقل.

وكان عمر رضي الله عنه يقول: إنه لا أجده يحل لى لحل مالكم إلا عما كنت آكلًا من صلب مالى: الخبز والزيت، والخبز والسمن. ويحكى عتبة بن فرقد فيقول: قدمت على عمر رضي الله عنه بسلال خبيص عظام... فقال: ما هذه؟ فقلت: طعام أتيتك به، لأنك رجل تقضي من حاجات الناس أول النهار، فأحببت إذا رجعت أن ترجع إلى طعام فتصيب منه فقواك، فكشفت عن سلة منها، فقال: عزمت عليك يا عتبة، إذا رجعت إلا رزقت كل رجل من المسلمين مثل السلة. فقلت: والذي يصلحك يا أمير المؤمنين، لو أنفقت مال قيصر كله، وما وسع ذلك، إن النفقة تكثر! قال عمر: فلا حاجة لى فيه فيما لا يسع العامة، ثم دعا بقصعة من ثريد، خبزًا خشنًا، ولحما غليظا. وهو يأكل معى أكلا شهيا، فجعلت أهوى الى البضعة البيضاء أحسبها سنامًا، فاذا هى عصبة، والبضعة من اللحم أمضغها، فلا أسيغها، فإذا هو غفل عنى جعلتها بين الخوان والقصعة، ثم دعا بعُسٍّ من نبيذ، قد كاد يكون خلًا، فقال: اشرب، فأخذته، وما أكاد أن أسيغه، ثم أخذه، فشرب، ثم قال: أتسمع يا عتبة، إنا ننحر كل يوم جزورًا فأما ودكها وأطيابها فلمن حضرنا من المسلمين، وأما عنقها فلآل عمر، يأكل هذا اللحم الغليظ، ويشرب هذا النبيذ.

وفي عام الرمادة وهو يشارك الناس المحنة زاهدًا في مطعمه يروى أسلم مولاه رحمه الله فيقول: أصاب الناس عام سنة، فغلا فيها السمن، وكان عمر يأكله، فلما قل، قال: لا آكله حتى يأكله الناس. فكان يأكل الزيت فقال: يا أسلم، اكسر عني حره بالنار، فكنت أطبخه له فيأكله فيتقرقر بطنه عنه فيقول: تقرقر، لا والله لا تأكله حتى يأكله الناس.

يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: تقرقر بطن عمر بن الخطاب، وكان يأكل الزيت عام الرمادة، وكان حرم عليه السمن، فنقر بطنه بإصبعه، وقال: تقرقر تقرقرك، إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحيا الناس.

يقول حفص بن أبي العاص رضي الله عنه:كان عمر رضي الله عنه يغدينا بالخبز والزيت، والخل، والخبز واللبن والخبز والقديد، وأول ذلك اللحم الغريض، يأكل وكنا نعذر. وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق فكله طعام، وكان يقول: ما لكم لا تأكلون؟ فقلت: يا أميرالمؤمين إنا نرجع إلى طعام ألين من طعامك. فقال: يا ابن أبى العاص، أما تراني عالمًا أن أرجع إلى دقيق ينخل في خرقة فيخرج كأنه كذا وكذا؟ ! أما ترانى عالمًا أن أعمد إلى عناق سمينة، نلقى عنها شعرها، فتخرج كأنها كذا وكذا؟ ! أما تراني عالمآ أن أرجع إلى صاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء وأصب عليه من الماء، فيصبح كأنه دم الغزال؟ ! قال قلت: أحسن ما يبعث العيش يا أمير المؤمنين. قال: أجل، والله لولا مخافة أن ينقص من حسناتى يوم القيامة لشاركتكم في لين عيشكم، ولكنى سمعت الله ذكر قومًا، فقال: {الأحقاف: 20}.

يروي عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما يقول دخل عليّ عمر، وأنا على مائدة، فأوسعت له عن صدر المجلس، فقال: بسم الله، ثم ضرب بيده فلقم لقمة، ثم ثَنّى بأخرى، ثم قال: إني لأجد طعم دسم ما هو بدسم لحم. فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، إني خرجت إلى السوق أطلب السمين لأشتريه فوجدته غاليا، فاشتريت بدرهم من المهزول، وحملت عليه بدرهم سمنا، وأردت أن يزاد عيالى عظمًا عظمًا. فقال عمر: ما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أكل أحدهما، وتصدق بالآخر. فقال عبد الله: عد يا أمير المؤمنين، فلن يجتمعا عندي أبدًا إلا فعلت ذلك. قال: ما كنت لأفعل.


مواقف تدل على زهد أمير المؤمنين عُثمان بن عَفَّان رضي الله عنه

لأمير الممؤمنين عُثمان بن عَفّان رضي الله عنه مزايا كثيرة لايمكن حصرها في هذه السطور ولكن يكفية فخراً بأنة تزوج من بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُمِّي لذلك بـ " ذي النورين" ويكفيه فخراً بأنّه جهّزجيش العسرة حتى قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مشهور عند أهل الحديث : " ماضَرَّ عُثمان ما عَمِلَ بعد اليوم ". ويكفي سيدنا عُثمان فخراً بأنه أصدق أُمّة محمد صلى الله عليه وسلم حياءً وقد أخرج أحمد وأبو حاتم ومسلم عن عائشه رضي الله عنها قالت :استأذن أبوبكر على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه في مرض واحد فأذن له ، فقضى حاجته وهو على تلك الحال في المرض ، ثم استأذن عُثمان فأصلح ثيابه وجلس فقضى إليه حاجته ثم خرج . قالت عائشة : قلتُ يا رسول الله استأذن عليك عمر فقضي اليك حاجته وانت على حالك ثم استأذن عليك عمر فقضى اليك حاجته وانت على تلك الحال، ثم استأذن عليك عثمان فاصلحت ثيابك و احتفظت ، فقال : "يا عائشه ان عثمان رجل حيي ، ولو اذنت له على تلك الحال خشيت أن لا يقضي حاجته " ولفظ الإمام مسلم وأورده الشوكاني في درّ السّحابة أنه صلى الله عليه وسلم جلس وأصلح ثيابه وقال: " اجمعي عليك ثيابك" ، فأذن له فقضى الله حاجته ثم انصرف . قالت : فقلتُ يا رسول الله ، لم أرك فزعت لابي بكر وعمر كما فزعت لعثمان ! فقال : " يا عائشه إن عثمان رجل حيي وإني خشيتُ إن أذِنتُ له على تلك الحال ألا يُبلّغَ إليّ حاجته" وزاد الشوكاني وفي رواية لأحمد والطبراني وأبي يعلى بإسناد حسن " ألا استحي ممن تستحي منه الملائكه!" ويكفيه فخراً ما اخرجه البخاري عن أنس أن حذيفة قدم على عثمان وكان يغازي اهل الشام في فتح ارمينية واذربيجان مع اهل العراق فافزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدْرِكْ هذه الأُمَّه قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود و النصارى فأرسل الى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الله بن الحارث ابن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط الفرشيين اذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى اذا نسخوا الصحف في المصاحف رَدَّ عثمان الصحف الى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق . فهل بعد هذه الأعمال الجليلة أي مفخرة لكل المسلمين وكل من يدين بالاسلام. فتجهيزه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم للجيش بالغالي والنفيس وعدم شحه في ذلك المال العظيم لدليل على عزوف نفسه من المال وزهده عنه ، و المنقبة الجليلة هي انقاذ المسلمين من فتنة الاختلافات كما اختلفت اهل المِلل الأخرى وهى ديانتان كبيرتان : اليهودية و المسيحية .

أما زهده رضي الله عنه فقد أورد المحب الطبري عن شرجبيل بن مسلم قال : كان عثمان يُطعم الناس طعام الإمارة وياكل الخل والزيت. وعن عبد الله بن شدّاد قال: رأيت عثمان يوم الجمعة يخطب وهو يومئذ أمير المؤمنين وعليه ثوب قيمته أربعة دراهم أو خمسة دراهم. وعن الحسن – وقد سأله رجل- ما كان رداء عثمان؟ قال
قطري ، قال : كم ثمنه ؟ قال ثمانية دراهم ، قال ما كان قميصه ؟ قال : سُنبلاني ، قال : كم ثمنه؟ قال ثمانية دراهم ، قال : ونعلاه معقبتان مخصرتان لها لهما قبالان .أنظر الى هذا الرجل الثري و التاجر الكبير المشهور كيف صنع به يقين الإيمان وهو في قمة السلطة . إن مظاهر الخلافة وما يصاحبها من عظمة لم تؤثر قط على الخليفة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه وأرضاه ، بل إنه في معظم أوقاته كثير التبتل إلى الله ومع ذلك فقد قام بواجبات الخلافة كما ينبغي . أخرج أبو نعيم في الحلية عن عثمان بن عبدالرحمن التيمي قال قال أبي : لأغلبن الليلة على المقام ، قال فلما صليت العتمة تخلصت إلى المقام حتى قمت فيه . قال فبينا أنا قائم إذا رجل وصع يده بين كتفي ، فإذا هو عثمان بن عفَّان ، قال فبدأ بأم القرآن فقرأ حتى ختم القرآن ، فركع وسجد ثم أخذ نعليه فلا أدري أصلى قبل ذلك شيئاً أم لا. وعلى العموم فسيّدنا عثمان بن عفان لا يحتاج إلى شهادتنا بل نحن نحتاج إلى شفاعته يوم القيامة وسلام عليه في الآخرين .

مواقف تدل زهد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه

قبل الحديث عن زهد الإمام علي رضي الله عنه ، لا بد من الإشارة إلى فضله وأهميته اللتين لا تخرجانه عن حياة الورع والزهد لأن كل حياته من سن تمييزه إلى وفاته ـ رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه ـ زهدٌ وتقوى وعلمٌ وسمو أخلاق .

والإمام علي لا يحتاج إلى إطرائي وهو غني عن مدحي له لأنه في رفقة الحبيب الأعظم وفي رفقة الأنبياء وهو إمامُ العارفين في الله ؛ وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص قال : خَلَّفَ النبي صلى الله عليه وسلم علياً في غزوة تبوك ، فقال : يا رسول الله أتجعلني في النساء والصبيان ؟ فقال : " أما ترضى أن تكون مني بِمنْزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ."

ونقل الدكتور حسين بن عبدالله العَمْري في تحقيقه لكتاب دَرّ السحابة في مناقب القرابة والصحابة للإمام محمد بن علي الشوكاني (ت : 1250 هـ ) أن الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم علّق بأن هذا الحديث مما تعلقت به الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة في أن الخلافة كانت حقاً لعلي وأنه وُصِّيَ له بِها ، و خلاصة كلام النووي أن الشيعة اختلفت ؛ فكفّرت الروافض سائر الصحابة في تقديمهم غيره وزاد بعضهم في تكفير عليٍ لأنه لم يقم في طلب حقه بزعمهم ؛ وما عدا هؤلاء (الغلاة) فإنّهم لا يذهبون في مثل هذا المسلك .

فالإمامية و بعض المعتزلة يقولون هم مخطئون في تقديم غيره لكن من غير أن يُكفِّروا أحداً ، وأكثر الزيدية وبعض المعتزلة لا يقولون بالتخطئة لجواز تقديم المفضول . وسلك ابن حجر العسقلاني (ت : 852 هـ ) في شرحه لصحيح البخاري مسلك النووي وغيره ، وأشار ـ كما ذكره الدكتور العَمْري ـ إلى أن هارون (المشبه به ) إنّما كان خليفة في حياة موسى عليه السلام ، ودلّ ذلك على تخصيص خلافة (علي) للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة في حياته ، ويؤيد هذا أن هارون توفي أيام حياة موسى عليهما السلام . والحديث لا حجة فيه لأحد . بل فيه إثبات فضيلة لعلي ولا تعرض فيه لكونه أفضل من غيره وليس فيه دلالة لاستخلافه بعده .

وأنا أتساءل أولاً مَنْ أنا حتى أفاضل بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وما هو النفع الذي سأحصل عليه بتفضيلي بعض الصحابة على بعض ؟ أليس أن هذا الأمر لا يملكه أحد إلا الله سبحانه وتعالى فهو على سبيل المثال الذي يفاضل بين الرُّسل كما قال : "تلك الرُّسل فضَّلنا بعضهم على بعض" { البقرة : 253 } وهو الذي يفاضل بين النبيين كما قال جلّ وعلا : "وفضّلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا " { الإسراء : 55 } و هو كذلك الذي يفاضل بين من يريد من عباده لأنه خالق الكون والمتصرف الأوحد فيه كما قال عزّ من قائل : " لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون " { الأنبياء : 23 } وهو الذي يرفع درجات من يشاء ويحكم بين جميع عباده فيما كانوا فيه يختلفون .

وإذا ما سُئل القارئ الكريم عن النفع المحقق يقيناً وعن السبب الداعي لهذا التفضيل لَتَوَقَّفَ عن القطع في مثل هذه الأمور. ومن الجلي الواضح الذي ليس فيه لبس لكل عاقل لبيب أن المرء يخطئ ويخيب ظنه في كثير من الأحيان في المفاضلة بين أقرانه وأصحابه الذين يعيشون معه في نفس زمنه ونفس محيطه فكيف بالحكم والنقد على أمة عاشت قبل أربعة عشر قرناً من الزمان ! "إن هذا إلا شيئٌ عُجاب ." وهل يَظُنُّ أحدٌ بالنجاة من الحق سبحانه وتعالى إذا أخطأ في الحكم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؟

لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتوصل إلى المفاضلة بينهم لأن الله سبحانه وتعالى قد حكم في حقهم وأخبرنا في كتابه الكريم في عدة سور وفي آيات كثيرة عن فضلهم أجمعين ولم يأمرنا بالتعبد في الافتاء بتفضيل أحدهم على الآخَر لأنه ترك ذلك له ليوم القيامة ولأنه تَدَخُّلٌ في الأمور الإلهية .

و من إخباره تعالى عن اصطفائهم قوله : " كنتم خير أمة أُخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " { آل عمران : 110 } و كذلك قوله : " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبِهم " { الفتح : 18 } وقوله : " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رَضِي الله عنهم ورَضُوا عنه وأعَدّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم" { التوبة : 100 } فانظر ياأخي ـ غفر الله لنا وإياك ـ كيف أن الله تعالى قد شهد لهم أجمعين وكيف أنه أخبر عن مكافأتهم وجزائهم وذكَّرَني وإياك بأنهم في الجنة وأنهم مخلدون أبدا وأنهم قد نالوا الفوز و رضى الله سبحانه وتعالى .

فهل بعد هذا من كلام ؟ ألا تستمع لقوله تعالى الذي حكم بدخولهم الجنّة أجمعين بدليل الآية السابقة و بدليل آية أخرى وهي قوله : " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل ، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير " { الحديد : 10 } . وهذه الآية شهادة من الله العالم بالسرائر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذين جاءوا بعد الفتح وبرغم عدم مساواتِهم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح أنهم من أهل الجنة لأن وعد الله محقق لا محالة ولأن وعد الله لهم بالحسنى يقتضي عدم دخولهم جهنم والعياذ بالله وقد أيّدَه قوله تعالى في آية أخرى : " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ، أولئك عنها مبعدون " { الأنبياء : 101 } فهل بعد هذا من بيان ؟ فالخلاصة أنهم في رياض الجنة يقيناً قطعاً ونحن لا نعلم مصيرنا يقيناً قطعاً ، فهل يكفي هذا لنتنبّه ونشتغل بإصلاح عيوبنا ؟ ثم نختم هذا النقاش بقوله تعالى : " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون " { البقرة : 134 ، 141 }

والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، أي عند ما نقرأ القرآن ونتدبر آياته فكأنّ الحقَّ يُذَكِّرُنا ومن يأتي بعدنا أن ندفن أي خلاف نعلمه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن لا ننتصر لفريق دون فريق لأنهم كلهم عدول وكلهم في الجنّة ولا يبقى إلا أن نحاول إصلاح فسادنا قلوبنا . " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلّا للذين آمنوا ، ربنا إنك رؤوف رحيم " { الحشر : 10 } .

وبعد هذه المقدمة ، ننتقل الآن لبيان نبذة مختصرة عن زهد سيِّدنا الإمام علي رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه . و نبدأ بما ورد في كتاب الزهد للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ( ت : 275 هـ ) حيث يقول: " حدثنا أبو داود ، قال حدثنا سعيد بن نصير ، قال حدثنا سيار ، عن جعفر ، قال سمعت مالكا قال : قالوا لعلي بن أبي طالب : صف لنا الدنيا ، قال : أطيل أم أقصر ؟ قالوا : بل أقصر ، قال : حلالها حساب وحرامها عذاب " وفي حديث آخر : "حدثنا أبو داود ، قال حدثنا محمد بن بشار ، قال حدثنا يزيد ابن هارون ، قال أخبرنا سفيان ، عن زبيد اليامي ، عن المهاجر العامري ، عن علي قال : إنما أخشى عليكم اتباع الهوى ، وطول الأمل ، فإن اتباع الهوى يصدّ عن الحقّ ، و يذكر الدنيا ، وطول الأمل ينسي الآخرة ، وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وإن الآخرة مقبلة و لكل واحد منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل و لا حساب ، وغداً حساب ولا عمل ."

وللإمام علي رضي الله عنه مناقب كثيرة فهو أولُ الناس إسلاماً في قول كثير من أهل العلم كما حكاه الإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت : 852 هـ ) في الإصابة في تمييز الصّحَابة وبالإضافة إلى اشتهار سيدنا الإمام علي بالشجاعة والفروسِيَّة والإقدام وأنه كان واحداً من المرشحين في مسألة الشورى الذين نصّ عليهم عمر بن الخطاب لخلافة الأمة الإسلامية . ومن خصائص علي رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم خيبر : لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحبُّ الله ورسوله ، ويحبُّه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه . فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غَدَوا كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين علي ابن أبي طالب ؟ فقالوا هو يشتكي عينيه ، فأتى به فبصق في عينيه ، فدعا له فبرأ : فأعطاه الراية . أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث سهل بن سعد . وأخرج أحمد بن حجر العسقلاني في رواية عن أحمد ، والنسائي من طريق عمرو بن ميمون : إني لجالس عند ابن عباس إذ أتاه سبعة رهط --- فذكر قصة فيها : قد جاء ينفض ثوبه ، فقال : وقعوا في رجل له عزّ . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم : لأبعثن رجلا لا يخزيه الله ، يحبُّ الله ورسوله . فجاء وهو أرمد فبزق في عينيه ، ثم هزَّ الراية ثلاثاً فأعطاه ، فجاء بصفية بنت حيي ، وبعثه يقرأ براءة على قريش ، و قال : لا يذهب إلا رجل مِنّي وأنا منه . وقال لبني عمه : أيكم يواليني في الدنيا والآخرة ؟ فأبَوا ، فقال علي : أنا . فقال : إنه وليي في الدنيا والآخرة . وأخذ رداءه فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين ، وقال : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ."

وعلى العموم فشهرة سيدنا الإمام علي في زهده وتقواه وورعه أكثر من أن تحصى ، فقد روى الإمام العارف بالله عبد الوهاب الشعراني في الطبقات الكبرى أن الإمام علي رضي الله عنه " كان يقول إذا كان يوم القيامة أتت الدنيا بأحسن زينتها ثم قالت يا رب هبني لبعض أوليائك فيقول الله عزًّ وجلَّ لها اذهبي لا إلى شيئ فأنتِ أهونُ من أهبك لبعض أوليائي فتُطوى كما يُطوى الثوب الخَلِق فتلقى في النار . وكان يقول التقوى هي ترك الإصرار على المعصية وترك الاغترار بالطاعة .

وكان رضي الله عنه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته ، وكان يحاسب نفسه على كل شيئ وكان يعجبه من اللباس ما قَصُر ومن الطعام ما خَشُن . وكان رضي الله عنه يخاطب الدنيا ويقول يا دنيا غُري غيري قد طلقتك ثلاثاً ، عُمرُكِ قصير ومجلسك حقير و خطرك كبير ، آهٍ آهٍ من قِلّة الزاد وبُعد السّفر ووَحْشَة الطريق ." وأحاديث الزهد عن الإمام علي كرّم الله وجهه يطول ذكرها وهي موجودة في بطون الكتب وعلى مختلف المذاهب .

ولنضرب لك مثلاً من زهده رضي الله عنه وأرضاه فيما أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء عن هارون بن عنترة عن أبيه قال : دخلت على علي بن أبي طالب بالخورنق وهو برعد تحت سمل قطيفة . فقلت : يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال وأنت تصنع بنفسك ما تصنع فقال : والله ما أرزأكم من مالكم شيئا , وإنها لقطيفتي التي خرجت بِها من مَنْزلي ـ أو قال من المدينة ." وعن علي بن الأرقم عن أبيه قال : رأيت عليا وهو يبيع سيفاً له في السوق ، ويقول من يشتري مني هذا السيف ، فوالذي فلق الحبة لطالما كشفت به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته .

ونحن إذ نريد أن نختِم هذا التعريف المُصَغَّر بزهد أمام الهدى سَيِّدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرّم الله وجهه بكلمات موجزة في وصفه نقلناها من كتاب زهر الآداب وثمر الألباب تأليف الأديب الكبير أبو إسحاق الحصري حيث أخرج في كتابه أنّ معاوية بن أبي سفيان طلب من ضرار الصِّدائي أن يصف الإمام علي فاستعفاه فأصرّ عليه معاوية فقال ضرار : " كان والله بعيد المدى ، شديد القُوى ، يقول فصلاً ويحكم عدلاً ، يتفجّر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته ، كان والله غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يُقَلِّبُ كفَّه ، ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما قَصُر ، ومن الطعام ما خَشُنَ ، وكان فينا كأحدنا يُجِيبُنا إذا سألناه ويُنبِئُنا إذا استنبأناه ، ونحن ـ مع تقريبه إيانا وقربه منا ـ لا نكاد نكلِّمه لهيبته ، و لا نبتدئه لعظمته ، يُعَظِّمُ أهل الدين ، ويُحِبُّ المساكين ، ولا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، وأشهَدُ لقد رأيتُه في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سُدُولَه ، وغارت نُجُومُه ، وقد مَثَلَ في محرابه ، قابضاً على لحيته ، يَتَمَلمَلُ تَمَلمُلَ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، ويقول : يا دُنيا إليكِ عني ! غُرِّي غيري ، ألِيَ تعرَّضتِ ، أم إليَّ تَشَوَّفتِ ؟ هيهات ! قد باينتكِ ثلاثاً ، لا رجعة لي عليكِ فعُمرُكِ قصير وخَطرُكِ حقير ، وخطبُك يسير ، أه من قلة الزاد ، وبعد السفر ووحشة الطريق ."
وكما تعلم ، فإن هذا الوصف قد تداول معظم الكتب التي أُلِّفت في الإمام علي وقد نـُقل في مقدمة كتاب نهج البلاغة
لابن أبي الحديد.







11
1K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

محد مثلي أنا
محد مثلي أنا
بارك الله فيك حبيبتي موضوع قيم جداا ويستاهل الخمس نجوم والتقييم
للاسف احنا طامعين في الدنيا ومافيهاا الله يكفينا شرهااا
يارب مايحرمك الاجر ياعشوقه سجلي اعجابي بشخصك الكريم
عاشقة الصداقة
هلا مثوله حيااك الله بيااك احبك الله الذي احببتنا فيه هذا من ذووق حبيبتي والقلوب شواهد
ايه والله للاسف واقعنا حب المظاهر والترف وما نلبس من الثياب الا اغلاها !!!
وهذا يورث البلاده ونسيان الاخره والغفله والعيااذ بالله ولنا في رسول اللهصلى الله عليه وسلم
وصحبه رضوان الله عليهم اسوتا حسنه ،،
عاشقة الصداقة
صل الله وسلم وبارك على محمدا واله وصحبه اجمعين
عاشقة الصداقة
رفع للفائدة
@الاماااااااكن@
موضوع جميل جداااا كروعتك ياعشوقه واصبحنا نعاني بالفعل من الغفله اغرتنا الدنيا الله يصلح الحال يارب ومشكوره على الموضوع يالغلا