اصفعوا بوش وقولوا له كلنا فلسطينييون والقدس لنا

الملتقى العام

لا أجد سوى شعار <<كلنا فلسطينيون>> أدعو الى رفعه في الفضاء العربي، وترديده بأعلى صوت ممكن، في مناسبة الذكرى الثانية لانتفاضة الأقصى، لكني أتمنى وألح في الرجاء ألا نبخسه حقه،استقبلناه وودعناه كأي يوم عادي في زمننا المثقل بالاحزان، والمليء بالاحباطات والأحلام المجهضة.
أدري أن شهر سبتمبر/ أيلول من شهور الاحزان في الذاكرة العربية عامة والفلسطينية بوجه أخص. لكن انتفاضة الاقصى تكاد تكون نقطة الضوء الوحيدة في عتمة ذلك الشهر، ولحظة الأمل في مناخه الذي تظلله الغيوم، والمسكون بالإحباط. لماذا؟
لان أحداث بقية الشهر اذا كانت تمثل انقضاضا على الحلم الفلسطيني او انحسارا له، فإن الانتفاضة جاءت إشهارا لقيامة الشعب الفلسطيني وإصراره على الدفاع عن الحلم. ليس ذلك فحسب، وإنما أزعم ان هذه الانتفاضة هددت الحلم الاسرائيلي ذاته، حين نقلت الخوف الى قلب اسرائيل، التي ظلت منذ ظهرت الى الوجود تصدر الخوف الى الآخرين، مطمئنة الى أنها وفرت الامن لسكانها.
رب قائل يقول ان نشرات الاخبار وصحف الصباح تقول ان الاسرائيليين في ظل حكومة شارون بوجه أخص سحقوا الفلسطينيين ودمروا حياتهم وكسروا شوكتهم، هذا صحيح بصورة نسبية، لكني أذكّر بثلاثة أمور من الاهمية بمكان، الاول ان الفلسطينيين لم يهزموا ولم يركعوا، والحروب جولات كما ان الايام دول. والثاني ان هذه ليست نهاية الحلم ولا نهاية التاريخ الفلسطيني، وإنما هناك مستقبل ممتد ومفتوح لمختلف الاحتمالات. أما الأمر الثالث فهو انه مهما طال الأجل بالظلم، فلن يصح الا الصحيح في نهاية المطاف، وإلا انقلبت سنن الحياة واختلت موازين الكون.
(1)
لا خير فينا ان لم نقلها. واذا كانت صحيفة <<لوموند>> قد صدرت في اليوم التالي للهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك بعنوان على صدر صفحتها الاولى يقول: كلنا أميركيون، فأولى بنا ان نبادر في ذكرى الانتفاضة واعلان الرئيس الامريكي ان القدس عاصمة لاسرائيل الى الاعلان على الملأ: كلنا فلسطينيون. وليس من شك في ان عنوان الصحيفة الفرنسية كان تعبيرا عميقا ورشيقا عن التضامن، على ما بين فرنسا والولايات المتحدة من تباين فرضته اعتبارات الثقافة والتاريخ والجغرافيا، وهو تباين لا مكان له في الحالة الفلسطينية العربية. وإذا كان بوسع فرنسا ان تدير ظهرها لما يجري في الولايات المتحدة، وان تنأى بنفسها عنها تحت اي ظرف، فالأمر على جانبنا جد مغاير. ذلك ان كل ما يصيب فلسطين مردود أثره على العالم العربي، الذي أثبتت خبرة نصف القرن المنصرم انه لن ينعم بالامن والاستقرار، الا اذا عاد السلام الى فلسطين، مبنيا على العدل والانصاف. ثم لا تنس انه ما من بلد عربي الا وارتوى تراب فلسطين بدماء أبنائه، منذ عام 1948 وحتى هذه اللحظة. ولا تنس ايضا ان الذين أقاموا اسرائيل في فلسطين لم تشغلهم أسطورة <<ارض الميعاد>>، بقدر ما كانوا مشغولين بغرس خنجر في الخاصرة العربية، يمزق أنسجة الجسم ويسبب له وجعا مستمرا.
بسبب من ذلك فلعلي لا أبالغ اذا قلت ان فلسطينية العرب جذورها أعمق وأقوى بكثير من أمركة الفرنسيين. ليس ذلك فحسب، وإنما اذا كان الفرنسيون قد قالوها مرة، في لحظة انفعال وتعاطف، ثم عادوا الى حذرهم وحساسيتهم ازاء الاميركيين واستخفافهم بثقافتهم، فإن فلسطين في الادراك العربي حاضرة طول الوقت. بل أزعم انها صارت مرآة العرب، من حيث ان انتصارها او انكسارها لن يكون في حقيقته سوى انعكاسا لقوة العرب او هزيمتهم.
اما لماذا يتعين علينا ان نقولها الآن، وفي أول فرصة، فردي على ذلك ان القضية عادت الى نقطة الصفر. وشارون نفسه هو من أعلن انه يواصل <<حرب الاستقلال>>، من ثم فإن انتصاره لن يكون الا بتحطيم إرادة البشر، ووضع الفلسطينيين جميعا في معازل محكمة الاغلاق، في ما وصف بأنه أكبر سجن في التاريخ، ثم بتذويب الوطن وطمس معالمه.
لا يقف الامر عند حد ابتلاع فلسطين والاجهاز على قضيتها، وانما هناك عنصر آخر في المشهد جعله أكثر إثارة وفجاجة، يتمثل في تلك الرعاية الاميركية الصريحة، التي بلغت مدى غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي. وهي الرعاية التي ابتدعت للمرة الاولى في تاريخ العلاقات الدولية مبدأ إضفاء الشرعية على <<حق>> المحتل في الدفاع عن نفسه ضد الشعب الذي يرزح تحت الاحتلال. فضلا عن ذلك فقد أقرت لأول مرة ايضا مبدأ ضم الاراضي بالقوة المسلحة (وزير الدفاع دونالد رامسفيلد دافع عن وجود المستوطنات وقال انها بنيت على ارض حازها الاسرائيليون نتيجة حرب انتصروا فيها). وهذا المسلك وذاك يعد تحديا مدهشا لكل ما أقرته المواثيق والاتفاقات والأعراف الدولية، بقدر ما يجسد الاذعان المشين للهوى والاستكبار الاسرائيليين.
هذه الظروف في مجموعها تمثل اختبارا حقيقيا للارادة العربية، فضلا عن الفلسطينية بطبيعة الحال. لذلك زعمت اننا في قلب اللحظة التي ينبغي ان يرفع فيها شعار <<كلنا فلسطينيون>>، على لافتة تمتد بطول وعرض الأمة العربية، من المحيط الى الخليج.
(2)

ليس عندي كلام مع الذين يطرحون السؤال <<هل>>، خصوصا اولئك الذين يمطون شفاههم وهم يتحدثون عن الانتفاضة، ويعتبرونها <<حماقة>> ارتكبها بعض <<المتطرفين>> وشارك فيها نفر من <<الارهابيين>>، الذين ضيعوا فرصة السلام وساعدوا على مجيء شارون في نهاية المطاف. فهؤلاء ليسوا طرفا في المناقشة التي نجريها، بل انهم ليسوا مشمولين بخطابنا أصلا. اذ هم ليسوا <<فلسطينيين>> بالمعنى الذي ندعو اليه. لكن هناك ما يمكن ان نضعه بين أيدي الذين هم على استعداد للاقتناع، ممن يطرحون السؤال <<لماذا>>؟
أزعم أن هذه الانتفاضة لها خصوصية تميزها عن سابقاتها تبرر الحفاوة بها. وهذه الخصوصية تتعلق في شق منها بالملابسات التي أحاطت بها، وفي شق آخر بوقائعها والنموذج الذي قدمته، وهو ما يحتاج الى بعض الشرح والتفصيل.
في ما يخص الظروف، أشرت قبل قليل الى عنصر الرعاية الاميركية الصريحة للاحتلال والاستيطان، وهي التي كانت في السابق مقصورة على الدولة الاسرائيلية ومبدأ وجودها، وتبدي بعض التحفظ على ما يتجاوز تلك الحدود. وأضيف هنا ملابسات اخرى منها تراجع الدور الاوروبي، الذي أشعر الفلسطينيين بأنهم يقفون وحدهم. إذ برغم تمايز موقف بعض الدول الاوروبية إزاء بعض الممارسات، الا انها لم تعد مستعدة لان تتحرك في النهاية بعيدا عن الموقف الاميركي. من تلك الملابسات ايضا ربما كان أهمها ان الانتفاضة انطلقت بعدما أعطيت كل الفرص لما سمي بالمسيرة السلمية، وثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن اسرائيل غير جادة في إحلال سلام يلبي الحد الادنى من المطالب الفلسطينية، وانها تستخدم المسيرة لتكريس التوسع وتقنين الاحتلال (كانت محادثات كامب ديفيد الثانية، التي عرضت فيها لأول مرة مسألة تقاسم المسجد الاقصى، قد فشلت في التوصل الى اتفاق حول التسوية النهائية، وعقدت المباحثات في يوليو/ تموز 2000 والانتفاضة انطلقت في شهر سبتمبر/ أيلول في ذات العام).
في الشق المتعلق بوقائع ومشاهد الانتفاضة نجد انها تميزت بأمور عدة في مقدمتها: انها استمرت مدة أطول من اي انتفاضة سابقة، في حين ان انتفاضات التسعينيات كانت كل واحدة منها تستمر لأشهر معدودة. ثم انها اتسمت بدرجة عالية من الإصرار والتضحية والفداء، وهو ما جسّده الارتفاع غير المسبوق للعمليات الاستشهادية. ليس ذلك فحسب وانما يحسب للانتفاضة ايضا انها نقلت المعركة والخوف معها الى قلب المجتمع الاسرائيلي للمرة الاولى. في الوقت ذاته فإن عمليات المقاومة الفلسطينية اتسمت بدرجة عالية من الكفاءة والثقة والقدرة على تحدي السلاح والصلف الاسرائيليين، وهو ما شهدت به معركة جنين الخالدة من ناحية اخرى فيحسب لهذه الانتفاضة انها غدت محل إجماع ومشاركة فعالة من جانب كل القوى الوطنية الفلسطينية، وهو ما يحدث للمرة الاولى.
هذا الاجماع الوطني الفلسطيني الذي أفرز تلك الدرجة العالية من الكفاءة وفاعلية الأداء كان له صداه القوي في الشارع العربي والاسلامي الذي شهد إجماعا آخر غير مسبوق، مما دعانا الى القول بأن الانتفاضة اعادت تعريب القضية الفلسطينية، وأخرجتها من الاطار القطري الضيق الذي حشرت فيه طيلة العقد الاخير على الاقل.
والامر كذلك، فلست أبالغ اذا قلت ان انتفاضة الاقصى تشكل نقطة ضوء، بل علامة فارقة، في مسيرة النضال الفلسطيني والعربي بعامة، وهو ما يفسر إلى حد ما المحاولة الاسرائيلية والاميركية الشرسة لسحقها.
وفي مناسبة حلول الذكرى الثانية لتلك الانتفاضة، لا أقل من ان نعلن وقوفنا معها في اللحظة التي يحاولون إجهاضها وخنقها، فنهتف جميعا قائلين: كلنا فلسطينيون. وحين يتحقق ذلك، فانه سوف يشجعنا على ان نتساءل في وقت لاحق: ماذا سنقول لتلاميذ مدارسنا صبيحة كل يوم عن فلسطين والامة الاسلامية والقدس وصلاح الدين ..... وامريكا؟


منقول
0
472

هذا الموضوع مغلق.

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️