الأخلاق‏.‏‏.‏ بين قِنَاع المصلحية الغربية وسمو الشريعة الإسلامية

ملتقى الإيمان


من خطب الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

الحمد لله ثم الحمد لله‏،‏ الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده‏،‏ ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك‏،‏ سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك‏،‏ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له‏،‏ وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله‏،‏ وصفيه وخليله‏،‏ خير نبيٍ أرسله‏،‏ أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً‏،‏ اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد‏،‏ وعلى آل سيدنا محمد‏؛‏ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين‏،‏ وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏

أما بعد‏،‏ فيا عباد الله‏:‏

إن الله سبحانه وتعالى عندما شرف عباده بهذا الدين الذي ابتعث به رسله وأنبيائه وختمهم بخاتم الرسل والأنبياء محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏؛‏ جعل من هذا الدين مصدر كل خير للفرد والمجتمع‏،‏ وجعل من هذا الدين معين الأخلاق الإنسانية المثلى التي تسعد الفرد وتسعد المجتمع‏،‏ ولعلكم جميعاً تذكرون مصداق هذا في كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عندما قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق‏)‏‏)‏‏.‏ فبين الإسلام والإيمان من جانب‏،‏ والأخلاق الإنسانية السامية المثلى من جانب آخر‏،‏ تلازمٌ مطردٌ دائب‏.‏ وعندما تقرؤون قول الله سبحانه وتعالى‏:‏ { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ} ‏‏ ينبغي أن لا تفوتكم حقيقة هذا التلازم الذي يعبر عنه بيان الله عز وجل الذين آمنوا يهديهم ربهم إلى الأخلاق الفاضلة‏،‏ إلى السلوك المستقيم‏،‏ إلى التعامل الإنساني الرشيد‏،‏ يهديهم ربهم إلى ذلك كله بإيمانهم‏،‏ فالإيمان بالله عز وجل هو مصدر هذه الأخلاق الإنسانية المثلى‏،‏ والمعنى ذاته يتجلى في قوله عز وجل‏:‏ { مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً} ‏‏والحياة الطيبة إنما تكون بمقومات لا بديل عنها‏،‏ هي الأخلاق‏،‏ الأخلاق الفردية‏،‏ والأخلاق الاجتماعية‏.‏

من أمور العقيدة الأساسية في الدين الإسلامي أن نعلم هذه الحقيقة‏،‏ ولكن في الناس من اضطربت لديهم هذه العقيدة‏،‏ ومن تسرب إليهم الشيطان من وراء هذا الاضطراب‏،‏ فأوقعهم في غبش من فهم هذه الحقيقة التي أوضحتها لكم‏؛‏ بما قد نص عليه كتاب الله وذكرته سنة رسول الله‏،‏ إن نظر أحدهم إلى المجتمعات الإسلامية ردد مقولة قديمة لا نريد أن نناقشها‏:‏ ‏(‏في العالم الإسلامي مسلمون‏،‏ ولا يوجد إسلام‏)‏ وإن رمى ببصره شطر الغرب عاد ليقول لنا‏:‏ ‏(‏أما في الغرب فيوجد إسلام ولا يوجد مسلمون‏)‏ كثيرون هم المفتونون بما يسمونه الأخلاق الإنسانية المثلى في المجتمعات الغربية‏،‏ فإذا نظروا إلى مجتمعاتهم الإسلامية العربية هنا وهناك اشمأزوا‏،‏ وتحدثوا عن الثغرات‏،‏ وتحدثوا عن الانحرافات‏،‏ ثم إنهم يقولون‏:‏ هؤلاء مسلمون دون أن يوجد إسلام‏.‏

هذا التصور أيها الإخوة تصور خطير في باب العقيدة الإسلامية‏،‏ أن يوجد مسلمون ولا يوجد إسلام‏،‏ هذا كلام غير منطقي‏،‏ متى قلت إن هذا إنسان مسلم‏؛‏ فمعنى ذلك أن الإسلام متلبس في كيانه‏،‏ ومتى قلت إن هذا المجتمع مجتمع مسلم‏؛‏ فمعنى ذلك أن الإسلام يتلألأ في هذا المجتمع‏،‏ نعم الوازع الديني قد يقوى وقد يضعف‏،‏ ومهمة المجتمعات الإسلامية أن ترعى الوازع الديني دائماً‏،‏ وأن تدفعه إلى الأمام دائماً بالوسائل التربوية المعروفة لدينا جميعاً‏،‏ كلما قوي الوازع الديني كلما تسامت الأخلاق‏،‏ وتضاءل الفساد‏،‏ وذاب وقل واضمحل‏،‏ ولكن إذا ضعف الوازع الديني‏،‏ غابت هذه الحراسة التي ينبغي أن تكون عيناً يقظة دائماً‏.‏ هذا ما يمكن أن يقوله الإنسان ولكن أن يقطع الصلة الوثقى بين الإسلام وبين آثاره الأخلاقية‏،‏ فهذا أمر خطير غير مقبول‏.‏

ماذا عن المجتمعات الغربية التي يفتن بها كثير من أبناء جلدتنا اليوم‏،‏ أصحيح أن تلك المجتمعات تتمتع بالأخلاق الإسلامية الراشدة‏،‏ وإن لم تكن تتمتع بمعتقدات الإسلام‏؟‏ لا أيها الإخوة‏،‏ لقد قلت في أكثر من مناسبة‏:‏ إنها عندما توجد ليست أخلاقاً إنسانية فضلاً عن أن تكون إسلامية‏،‏ ولكنها أخلاق اقتصادية‏،‏ الغربيون يعلمون كيف يصلون إلى منافعهم وإلى مبتغياتهم‏،‏ سواء وجدوا في شركات‏،‏ سواء وجدوا في مؤسسات‏،‏ سواء كانت بيدهم مقادة عمل سياسي‏،‏ يعلمون كيف يصلون إلى مآربهم‏،‏ ولهم إلى ذلك سبل وخطط‏،‏ منها سبل مادية منظورة‏،‏ ومنها سبل معنوية غير منظورة‏،‏ من هذه السبل الخفية ما يسميه البعض بالأخلاق الإسلامية هناك‏،‏ إنها ليست أخلاقاً إسلامية‏،‏ إنها أخلاق اقتصادية‏،‏ إنما يتبنونها ويتدارسونها ويعلمونها موظفيهم والمعتمدين لديهم‏،‏ من أجل أن يتخذوا أقرب طريق إلى أعظم غاية مادية يبتغونها‏،‏ وآية ذلك أن هذا السبيل إن ضاق عليهم اتخذوا إلى أهدافهم وسائل أخرى‏،‏ تغيب عندها الأخلاق‏،‏ تغيب عندها هذه القيم كلها‏،‏ حدثني أحدهم – وكان مريضاً يمرض في إحدى المستشفيات في أوروبا ‏-‏ عن الأخلاق الإنسانية المثلى التي عومل بها من قبل الأطباء ومن قبل الممرضين والممرضات‏،‏ أصغيت إليه وما أردت أن أجرح شعوره وهو مريض‏،‏ ولكني أقول لكم أيها الإخوة‏:‏ لتتخذوا مناعة كافية في أنفسكم ضد هذا التصور الوهمي‏،‏ هذا أسلوب يعامل به الأطباء والممرضون مرضاهم‏،‏ سواء كان الهدف جريمة يريدون أن يرتكبوها أو كان هدفهم عملاً إنسانياً لغاية مادية‏؛‏ يريدون أن يصلوا إليها‏،‏ ألم تسمعوا بأنباء المستشفيات التي تحولت إلى مؤسسات للتجارة بقطع غيار من أجساد بني الإنسان‏،‏ لو أنك دخلت إلى إحدى هذه المستشفيات لرأيت هذه المعاملة الملائكية ذاتها‏،‏ لرأيت الممرضين والممرضات والأطباء والطبيبات يعاملون ضحاياهم ولا أقول مرضاهم بهذه الطريقة المخدرة الإنسانية المثلى‏،‏ والهدف معلوم ومرسوم‏،‏ حتى أولئك الذين يرتكبون الجرائم والذين أخذوا شهادات حرفية في الجرائم التي يرتكبونها‏،‏ لا يرتكب أحدهم جريمته كما يرتكبها زيد من الناس هنا‏،‏ يملأ الدنيا من حوله صراخاً وضجيجاً‏،‏ ثم يختم ذلك بقذيفة يقذف بها ضحيته‏.‏ لا‏،‏ يسير إلى هدفه بابتسامة‏،‏ يسير إلى هدفه بوداعة‏،‏ يخرج مسدسه بكل طمأنينة‏،‏ ولا تفارق الابتسامة شفته‏،‏ وهكذا ينتهي من جريمته‏،‏ ويسير مطمئن القدم آمن البال‏،‏ وكأنه لم يفعل شيئاً‏.‏ إنه أسلوب أيها الإخوة‏،‏ فافتحوا أبصاركم لتعلموا هذه الحقيقة‏.‏

منذ أيام سألني شاب يعمل في إحدى الشركات الأوروبية‏،‏ قال لي‏:‏ هذه الشركة عندما تصدر منتجاتها لابد أن تضع على كل منتج قائمة المواد الأولية التي ركب منها هذا الإنتاج كما هو الشأن‏،‏ ولكنها عندما ترسل منتجاتها إلى البلاد الأوروبية من حولها تكون دقيقة جداً في تنفيذ هذه المواصفات‏،‏ فإذا أرسلت هذه المنتجات إلى البلاد العربية أو إلى أي بلدة مما يسمى العالم الثالث‏؛‏ غيرت وبدلت ووضعت اللصاقة نفسها‏،‏ ولكن المضمون يختلف كل الاختلاف‏.‏ سألني قائلاً‏:‏ هل يجوز لي أن أعمل في مثل هذه الشركة‏؟‏ استوضحته وظننت أنه مبالغ‏،‏ ثم عرفت يقيناً أن الأمر كما قال‏،‏ ثم عرفت أكثر من هذا أن معظم الشركات تكيل بهذين المكيالين‏،‏ اللصاقة واحدة والمواصفات واحدة‏،‏ ولكن الكذب يبلغ إلى درجة الجريمة عندما تبعث هذه المنتجات إلى بلد إسلامي عربي كبلادنا‏،‏ وتكون دقيقة كل الدقة عندما ترسل إلى بلدة من البلاد الأوروبية‏.‏

كيف أيها الإخوة نخدع بعد هذا بهذا الذي يتصوره البعض‏؟‏ سبعون مليون أيها الإخوة من الجائعين اللذين ينتظرهم الهلاك والموت بسبب الجوع‏،‏ ولو أن شركة عالمية واحدة اهتمت بهذه الملايين لاستطاعت أن تنهي هذه المجاعة في مثل طرفة عين‏،‏ بدون أي جهد‏،‏ أين هي الأخلاق الراشدة ترعى إنسانية هؤلاء الناس الذين يسيرون بخطىً وئيدة إلى الهلاك‏،‏ الشركات الماضية في إنتاج الأسلحة‏،‏ شبكات من هذه الشركات تتصل بالقادة السياسيين‏،‏ تتصل بالذين يتلاعبون بكرة السياسة إذ يتقاذفونها بينهم‏،‏ تعطي لهم الأموال السخية في سبيل أن ينفخ بنيران الفتن هنا وهنا وهناك‏،‏ حتى تقوم الحروب في هذه البقاع ولا تقعد‏،‏ وحتى تستطيع هذه الشركات أن ترسل منتوجاتها من الأسلحة‏،‏ وأن تبقى ناجحة رابحة على حساب من يدور عليهم رحى الهلاك في هذا العالم‏،‏ أهذا هو شأن الناس الذين وجد لديهم الإسلام وإن لم يكونوا مسلمين‏؟‏

أيها الإخوة‏،‏ هذا التصور إن تسرب إلى مكان العقيدة من كيان الإنسان‏،‏ إنه لتصور خطير يمكن أن يمضي ويطير ويمتلخ العقيدة الإسلامية من جذورها‏،‏ يمكن أن تبعث شكوكاً وريباً في عدالة الله سبحانه وتعالى‏.‏ نحن المسلمين نتمتع بالإسلام‏،‏ حيثما وجد مسلمون وجد إسلام‏،‏ ولكن هنالك مآس لسنا مخيرين في أمرها‏،‏ جُرَّتْ هذه المآسي علينا جراً‏،‏ حَكَمَتْ هذه المآسي علينا حُكماً‏،‏ هذا أيضاً مثال يؤكد الحقيقة التي أقولها لكم‏،‏ أن الغرب لا يتمتع بأخلاق إنسانية راشدة‏،‏ هي أخلاق اقتصادية‏،‏ هي أخلاق سياسية‏،‏ عندما يقتضي الأمر ذلك‏.‏

وعندما يتاح لمجتمعاتنا أن تتحرر تحرراً كاملاً‏،‏ وعندما يتاح لمجتمعاتنا أن تعلن عن قيمها ومبادئها‏،‏ لا بشعارات نرفعها فوق الرؤوس فقط‏،‏ بل بيقين إيماني تعتز به‏،‏ فإن المثل العربي القائل‏:‏ ‏(‏‏(‏المرء حيث يضع نفسه‏)‏‏)‏ سيتجسد‏،‏ ولسوف تجدون أننا نحن أرباب الأخلاق الإنسانية المثلى‏،‏ نحن الذين نتحلى بهذه الأخلاق‏،‏ سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي‏،‏ الوازع الديني نحن المسؤولون عنه‏،‏ ينبغي أن نمتن ونقوي ونغذي هذا الوازع الديني كلما ضعف‏،‏ وينبغي أن نكون حراساً عليه‏،‏ وهذا هو المأمول‏.‏

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم‏
1
391

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

أميرة السيدات
جزاك الله خير

للرفع