
المتميزة2009 @almtmyz2009
عضوة نشيطة
الأخلاق.. بين قِنَاع المصلحية الغربية وسمو الشريعة الإسلامية
من خطب الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن الله سبحانه وتعالى عندما شرف عباده بهذا الدين الذي ابتعث به رسله وأنبيائه وختمهم بخاتم الرسل والأنبياء محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ جعل من هذا الدين مصدر كل خير للفرد والمجتمع، وجعل من هذا الدين معين الأخلاق الإنسانية المثلى التي تسعد الفرد وتسعد المجتمع، ولعلكم جميعاً تذكرون مصداق هذا في كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عندما قال: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)). فبين الإسلام والإيمان من جانب، والأخلاق الإنسانية السامية المثلى من جانب آخر، تلازمٌ مطردٌ دائب. وعندما تقرؤون قول الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ} ينبغي أن لا تفوتكم حقيقة هذا التلازم الذي يعبر عنه بيان الله عز وجل الذين آمنوا يهديهم ربهم إلى الأخلاق الفاضلة، إلى السلوك المستقيم، إلى التعامل الإنساني الرشيد، يهديهم ربهم إلى ذلك كله بإيمانهم، فالإيمان بالله عز وجل هو مصدر هذه الأخلاق الإنسانية المثلى، والمعنى ذاته يتجلى في قوله عز وجل: { مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً} والحياة الطيبة إنما تكون بمقومات لا بديل عنها، هي الأخلاق، الأخلاق الفردية، والأخلاق الاجتماعية.
من أمور العقيدة الأساسية في الدين الإسلامي أن نعلم هذه الحقيقة، ولكن في الناس من اضطربت لديهم هذه العقيدة، ومن تسرب إليهم الشيطان من وراء هذا الاضطراب، فأوقعهم في غبش من فهم هذه الحقيقة التي أوضحتها لكم؛ بما قد نص عليه كتاب الله وذكرته سنة رسول الله، إن نظر أحدهم إلى المجتمعات الإسلامية ردد مقولة قديمة لا نريد أن نناقشها: (في العالم الإسلامي مسلمون، ولا يوجد إسلام) وإن رمى ببصره شطر الغرب عاد ليقول لنا: (أما في الغرب فيوجد إسلام ولا يوجد مسلمون) كثيرون هم المفتونون بما يسمونه الأخلاق الإنسانية المثلى في المجتمعات الغربية، فإذا نظروا إلى مجتمعاتهم الإسلامية العربية هنا وهناك اشمأزوا، وتحدثوا عن الثغرات، وتحدثوا عن الانحرافات، ثم إنهم يقولون: هؤلاء مسلمون دون أن يوجد إسلام.
هذا التصور أيها الإخوة تصور خطير في باب العقيدة الإسلامية، أن يوجد مسلمون ولا يوجد إسلام، هذا كلام غير منطقي، متى قلت إن هذا إنسان مسلم؛ فمعنى ذلك أن الإسلام متلبس في كيانه، ومتى قلت إن هذا المجتمع مجتمع مسلم؛ فمعنى ذلك أن الإسلام يتلألأ في هذا المجتمع، نعم الوازع الديني قد يقوى وقد يضعف، ومهمة المجتمعات الإسلامية أن ترعى الوازع الديني دائماً، وأن تدفعه إلى الأمام دائماً بالوسائل التربوية المعروفة لدينا جميعاً، كلما قوي الوازع الديني كلما تسامت الأخلاق، وتضاءل الفساد، وذاب وقل واضمحل، ولكن إذا ضعف الوازع الديني، غابت هذه الحراسة التي ينبغي أن تكون عيناً يقظة دائماً. هذا ما يمكن أن يقوله الإنسان ولكن أن يقطع الصلة الوثقى بين الإسلام وبين آثاره الأخلاقية، فهذا أمر خطير غير مقبول.
ماذا عن المجتمعات الغربية التي يفتن بها كثير من أبناء جلدتنا اليوم، أصحيح أن تلك المجتمعات تتمتع بالأخلاق الإسلامية الراشدة، وإن لم تكن تتمتع بمعتقدات الإسلام؟ لا أيها الإخوة، لقد قلت في أكثر من مناسبة: إنها عندما توجد ليست أخلاقاً إنسانية فضلاً عن أن تكون إسلامية، ولكنها أخلاق اقتصادية، الغربيون يعلمون كيف يصلون إلى منافعهم وإلى مبتغياتهم، سواء وجدوا في شركات، سواء وجدوا في مؤسسات، سواء كانت بيدهم مقادة عمل سياسي، يعلمون كيف يصلون إلى مآربهم، ولهم إلى ذلك سبل وخطط، منها سبل مادية منظورة، ومنها سبل معنوية غير منظورة، من هذه السبل الخفية ما يسميه البعض بالأخلاق الإسلامية هناك، إنها ليست أخلاقاً إسلامية، إنها أخلاق اقتصادية، إنما يتبنونها ويتدارسونها ويعلمونها موظفيهم والمعتمدين لديهم، من أجل أن يتخذوا أقرب طريق إلى أعظم غاية مادية يبتغونها، وآية ذلك أن هذا السبيل إن ضاق عليهم اتخذوا إلى أهدافهم وسائل أخرى، تغيب عندها الأخلاق، تغيب عندها هذه القيم كلها، حدثني أحدهم – وكان مريضاً يمرض في إحدى المستشفيات في أوروبا - عن الأخلاق الإنسانية المثلى التي عومل بها من قبل الأطباء ومن قبل الممرضين والممرضات، أصغيت إليه وما أردت أن أجرح شعوره وهو مريض، ولكني أقول لكم أيها الإخوة: لتتخذوا مناعة كافية في أنفسكم ضد هذا التصور الوهمي، هذا أسلوب يعامل به الأطباء والممرضون مرضاهم، سواء كان الهدف جريمة يريدون أن يرتكبوها أو كان هدفهم عملاً إنسانياً لغاية مادية؛ يريدون أن يصلوا إليها، ألم تسمعوا بأنباء المستشفيات التي تحولت إلى مؤسسات للتجارة بقطع غيار من أجساد بني الإنسان، لو أنك دخلت إلى إحدى هذه المستشفيات لرأيت هذه المعاملة الملائكية ذاتها، لرأيت الممرضين والممرضات والأطباء والطبيبات يعاملون ضحاياهم ولا أقول مرضاهم بهذه الطريقة المخدرة الإنسانية المثلى، والهدف معلوم ومرسوم، حتى أولئك الذين يرتكبون الجرائم والذين أخذوا شهادات حرفية في الجرائم التي يرتكبونها، لا يرتكب أحدهم جريمته كما يرتكبها زيد من الناس هنا، يملأ الدنيا من حوله صراخاً وضجيجاً، ثم يختم ذلك بقذيفة يقذف بها ضحيته. لا، يسير إلى هدفه بابتسامة، يسير إلى هدفه بوداعة، يخرج مسدسه بكل طمأنينة، ولا تفارق الابتسامة شفته، وهكذا ينتهي من جريمته، ويسير مطمئن القدم آمن البال، وكأنه لم يفعل شيئاً. إنه أسلوب أيها الإخوة، فافتحوا أبصاركم لتعلموا هذه الحقيقة.
منذ أيام سألني شاب يعمل في إحدى الشركات الأوروبية، قال لي: هذه الشركة عندما تصدر منتجاتها لابد أن تضع على كل منتج قائمة المواد الأولية التي ركب منها هذا الإنتاج كما هو الشأن، ولكنها عندما ترسل منتجاتها إلى البلاد الأوروبية من حولها تكون دقيقة جداً في تنفيذ هذه المواصفات، فإذا أرسلت هذه المنتجات إلى البلاد العربية أو إلى أي بلدة مما يسمى العالم الثالث؛ غيرت وبدلت ووضعت اللصاقة نفسها، ولكن المضمون يختلف كل الاختلاف. سألني قائلاً: هل يجوز لي أن أعمل في مثل هذه الشركة؟ استوضحته وظننت أنه مبالغ، ثم عرفت يقيناً أن الأمر كما قال، ثم عرفت أكثر من هذا أن معظم الشركات تكيل بهذين المكيالين، اللصاقة واحدة والمواصفات واحدة، ولكن الكذب يبلغ إلى درجة الجريمة عندما تبعث هذه المنتجات إلى بلد إسلامي عربي كبلادنا، وتكون دقيقة كل الدقة عندما ترسل إلى بلدة من البلاد الأوروبية.
كيف أيها الإخوة نخدع بعد هذا بهذا الذي يتصوره البعض؟ سبعون مليون أيها الإخوة من الجائعين اللذين ينتظرهم الهلاك والموت بسبب الجوع، ولو أن شركة عالمية واحدة اهتمت بهذه الملايين لاستطاعت أن تنهي هذه المجاعة في مثل طرفة عين، بدون أي جهد، أين هي الأخلاق الراشدة ترعى إنسانية هؤلاء الناس الذين يسيرون بخطىً وئيدة إلى الهلاك، الشركات الماضية في إنتاج الأسلحة، شبكات من هذه الشركات تتصل بالقادة السياسيين، تتصل بالذين يتلاعبون بكرة السياسة إذ يتقاذفونها بينهم، تعطي لهم الأموال السخية في سبيل أن ينفخ بنيران الفتن هنا وهنا وهناك، حتى تقوم الحروب في هذه البقاع ولا تقعد، وحتى تستطيع هذه الشركات أن ترسل منتوجاتها من الأسلحة، وأن تبقى ناجحة رابحة على حساب من يدور عليهم رحى الهلاك في هذا العالم، أهذا هو شأن الناس الذين وجد لديهم الإسلام وإن لم يكونوا مسلمين؟
أيها الإخوة، هذا التصور إن تسرب إلى مكان العقيدة من كيان الإنسان، إنه لتصور خطير يمكن أن يمضي ويطير ويمتلخ العقيدة الإسلامية من جذورها، يمكن أن تبعث شكوكاً وريباً في عدالة الله سبحانه وتعالى. نحن المسلمين نتمتع بالإسلام، حيثما وجد مسلمون وجد إسلام، ولكن هنالك مآس لسنا مخيرين في أمرها، جُرَّتْ هذه المآسي علينا جراً، حَكَمَتْ هذه المآسي علينا حُكماً، هذا أيضاً مثال يؤكد الحقيقة التي أقولها لكم، أن الغرب لا يتمتع بأخلاق إنسانية راشدة، هي أخلاق اقتصادية، هي أخلاق سياسية، عندما يقتضي الأمر ذلك.
وعندما يتاح لمجتمعاتنا أن تتحرر تحرراً كاملاً، وعندما يتاح لمجتمعاتنا أن تعلن عن قيمها ومبادئها، لا بشعارات نرفعها فوق الرؤوس فقط، بل بيقين إيماني تعتز به، فإن المثل العربي القائل: ((المرء حيث يضع نفسه)) سيتجسد، ولسوف تجدون أننا نحن أرباب الأخلاق الإنسانية المثلى، نحن الذين نتحلى بهذه الأخلاق، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي، الوازع الديني نحن المسؤولون عنه، ينبغي أن نمتن ونقوي ونغذي هذا الوازع الديني كلما ضعف، وينبغي أن نكون حراساً عليه، وهذا هو المأمول.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم
1
391
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
للرفع