منذ بدء الخليقة ونحن نسمع ونرى الكثير من الصور والمواقف الحية التي تثبت بما لا يدع مجالاً للشك ان العلاقة التي تربط الأم بطفلها هي مزيج من المشاعر المتدفقة الرائعة، مشاعر يصعب علينا وصفها لان الاحساس بها ومعايشتها اعمق من اية كلمة قد تكتب، وبما ان لكل شيء حدوداً يتقبلها العقل، فإن الأم يجب عليها ان تضع حدوداً لامومتها، ونعني بذلك ألا تنجرف بعواطفها بحيث تظهر امام الابناء بلا شخصية.
وحول هذه النقطة الاخيرة سنركز في تحقيقنا لهذا اليوم، فوجود الأم ضعيفة الشخصية مشكلة كبرى تؤثر في تربية الابناء وسلوكهم بل ونظرتهم لطبيعة العلاقة بينهم وبين والدتهم، لذا فقد تحدثنا الى عدد من الامهات والابناء من الجنسين، وتوقفنا معهم حول العديد من الامور الجادة ولم ننس طبعاً البحث عن الحل الذي تنشده الأم ضعيفة الشخصية في سبيل تقوية علاقتها بأبنائها وقبل ذلك تقوية شعورها بالذات ما ينمي شخصيتها ويجعلها اكثر متانة وايجابية.
بداية التقينا مايا دريان ـ موظفة ـ والتي تقول: رغم انني لست متزوجة إلا ان دراستي لعلم النفس قد تخولني للاجابة على الاسئلة المتعلقة بموضوع الأم ضعيفة الشخصية، فعن مفهوم الصفة اقول انه متى ما رأت الأم احد ابنائها يتصرف بطريقة خاطئة وتجد نفسها عاجزة عن الاعتراف له أو تصحيح مساره فإنها تعتبر اما ضعيفة الشخصية، لانها بذلك لا تجد في نفسها القوة الحقيقية المطلوبة للوقوف في وجه الخطأ وحماية ابنها او ابنتها منه.
واتصور ان سبب هذا الضعف السلبي يرجع لخوفها من ان تخسر ذلك الابن لاعتقادها بأنها متى ما قامت بتأنيبه فإنه سيعتبرها قاسية عليه، وعليه فإنها تفضل السكوت، وهذا امر بالغ الخطورة لان الابن مهما كبر في السن ووصل لمرحلة يعرف معها الخطأ من الصواب فإنه في حاجة ملحة لشخص يرشده ويوجهه.
وربما ان انشغال الأب بتدبير قوت العيال قد يصرفه عن القيام بذلك الدور، فإن الامم تقع عليها مسئولية كبرى، ونكاد نجزم ان ضعف شخصية الأم قد يدفع ببعض الأبناء الى التمادي في الخطأ ما يؤدي في النهاية الى انحراف مؤكد.
وتؤكد ان وجود توازن في العلاقة بين الأم وابنائها من الامور بالغة الاهمية في التربية الصحيحة السوية فلو وجدت تلك العلاقة المتزنة لادرك الابناء ان اي تأنيب وعقاب من قبل الأم أو حتى الأب انما ينصب في مصلحتهم أولاً وأخيراً، وان منعهم من القيام بفعل معين أو تشجيعهم وحثهم على القيام بفعل آخر انما دافعه مصلحتهم ورغبتهم بأن يكونوا افضل ابناء في العالم.
وهذا المفهوم لن يتحقق بحال من الاحوال إلا عن طريق الحوار الهادف المتبادل والتواصل الروحي والنفسي والتفهم لعقلية الطرف الآخر واحتياجاته ولتعلم الأم ضعيفة الشخصية انها تجني على ابنائها وبيتها وان قوة الشخصية لا تعني بالضرورة اللجوء للعقاب المتواصل بقدر ما يعني اهتمامها بالابناء عن طريق التواصل معهم والتحدث معهم بكل صراحة ووضوح.
اختبار واقعي
اما الطالبة سهيلة العوضي فتقول: منذ ان وعيت على الدنيا وانا ارى امي سلبية في جميع تصرفاتها فهي لم تقل لي يوماً ان هذا خطأ وهذا صواب، ولا اكاد اعرف سبب ذلك، واذكر انني ذات يوم قمت باختبارها على أمل ان اسمع منها كلمة تأنيب أو توبيخ، حيث تظاهرت امامها بأنني احدث شاباً عن طريق الهاتف ورغم انني تعمدت ان ارفع صوتي قليلاً حتى تسمعني، إلا انني تفاجأت بأنها لم تفعل شيئاً ملموساً حيال تصرفي.
مع ان شكلها كان يوحي بأنها قد سمعت حديثي الوهمي، فقد كانت مكفهرة الوجه وملامحها توحي بمدى ضيقها وحاولت بعد ذلك ان ابدأ انا حديثي معها علها تنصحني، ولكن هيهات، وبعدها نصحتني الاخصائية الاجتماعية في مدرستي ان اعترف لامي بأن ما فعلته كان تمثيلاً وانني ارغب حقاً ان توجهني دوماً، وبالفعل فعلت ما طلبته مني الاخصائية، ومنذ ذلك اليوم اصبحنا انا وامي صديقتين حميمتين.
وادركت هي ان الابناء بحاجة حقيقية لشيء من الحزم وان حبها لنا لا يعني ابداً التغاضي عن الاخطاء بقدر ما يعني التوجيه المتواصل والمباشر لنا لما فيه مصلحتنا واتصور ان انحراف الكثير من الفتيات انما يرجع وبنسبة كبيرة الى سلبية تعامل الأم معهن وهذه السلبية ما كانت لتأتي لولا ضعف شخصيتها.
اما زميلتها منال عبدالله فتقول: قد يستغل بعض الابناء ضعف شخصية امهاتهم للقيام بأمور خارجة عن الادب والاخلاق السوية، لدرجة قد تصل بالبعض الى امتهان كرامة الأم نفسها، حيث انني كنت قد تعرفت على زميلة منذ فترة معينة، وقد دعتني ذات يوم الى منزلها فلبيت الدعوة بعد موافقة والدي ووالدتي.
وبعد ان جلسنا مع بعضنا لبرهة من الوقت جاءت والدتها لتسلم علي وكانت امرأة كبيرة في السن، فرأيت وجه زميلتي وقد شابه الوجوم وبعد ان غادرت امها الغرفة استأذنت زميلتي وفجأة سمعتها تصرخ بوالدتها لانها حسب تعبيرها.. فضحتها بالملابس التقليدية التي كانت ترتديها.
الى ان سمعت الأم المسكينة تعتذر لابنتها وتقول انها كانت تقوم بواجب الضيافة الذي يحتم عليها الترحيب بالضيوف، والحقيقة انني استغربت مما حدث أمامي، فهذا الموقف لم أتخيله قط إلا أن يكون في المسلسلات والأفلام ومنذ ذلك اليوم قطعت كل صلة لي بتلك الفتاة التي آسف حقاً لأني اعتبرتها زميلة في يوم من الأيام.
نماذج ايجابية
وعلى النقيض تماماً يتحدث مبارك سلطان «موظف» فيقول: أسمع كثيراً عن وجود الأم ضعيفة الشخصية ولكنني لم ألمس في واقعي وجود تلك النماذج من الأمهات، ففي عائلتي تتسم الأم بشخصية قوية وثقة كبيرة في نفسها مما ساعدها على تربية الأبناء تربية سوية.
فمنذ عدة سنوات توفي والدي عليه رحمة الله، وتولت أمي تربيتي الى جانب عدد غير قليل من الاخوة والاخوات، وكانت بحق نعم الأم التي استشعرت المسئولية الملقاة على عاتقها، فكانت بمثابة الأم الحنون العطوف التي تخاف علينا، وفي الوقت ذاته كانت أباً في التوجيه والنصح والإرشاد، وهذا ما أثمر عن عائلة متماسكة بكل القيم والمبادئ والأخلاق، واتصور انه لو كانت والدتي تتمتع ولو بشيء يسير من ضعف الشخصية لما تمكنت من الوصول بنا الى بر الأمان.
وفي السياق ذاته تقول غنيمة محمد «موظفة»: ان قوة شخصية أمي انعكست علينا كأبناء كنا في الصغر وفي مرحلة المراهقة بحاجة لها، واليوم حتى ونحن نعمل في مختلف الوظائف والمجالات ومنا من تزوج فإننا نستشعر حاجتنا لها ولتوجيهاتها ورغم وجود الأب في العائلة إلاّ أنه قد ينشغل من وقت لآخر بأعماله وتجارته وبطبيعة الحال فإن وجود الابناء مع والدتهم يكون اكبر وتأثرهم بها .
وبشخصيتها يكون اشد عمقاً وهذا ما ألمسه في نفسي وبقية اخوتي واخواتي حيث ربتنا والدتنا على المثابرة والجد والكفاح والقدرة على تحمل المسئولية بل وانها تمكنت بحكمتها وتواصلها معنا من صقل شخصيتنا وتقويتها واتصور انني سأنهج نهجها في تربية أبنائي كي يكونوا جيلاً ناجحاً بكل المقاييس التربوية والدينية والأخلاقية.
ومن النماذج الايجابية الاخرى التي وجدناها خلال جولتنا الاستطلاعية، يتحدث عبدالعزيز سالم البريكي «طالب» قائلاً: بداية لا ادري ما المقصود بضعف شخصية الأم، لأن لهذا الوصف مقاييس متعددة قد لا يدركها سوى الأخصائيين والعاملين في مجال شئون الأسرة، لأن البعض قد يتصور ان الحب الجارف للأبناء هو نوع من أنواع الضعف في الشخصية، بحيث يحمل هذا الحب الأم على طاعة الابناء طاعة عمياء.
مما يستدعي الرضوخ الدائم لهم ولطلباتهم، ولكن بالنسبة لي فإنني أرى ان حب الأم لابنائها هو امر فطري وبالتالي فإن شخصيتها قد تضعف قليلاً أمام نظرة أسى منهم أو دمعة تقطر من أعينهم، ولا ارى في هذا الأمر ما يقلل من مكانتها او يسقطها من أعينهم، فبالنسبة لعائلتي فإن حب والدتي لي ولجميع إخوتي واخواتي كان هو الدافع لنا كي نبادلها الحب والاحترام، لأنها وبكل تأكيد فرقت بين الحب البناء والآخر الذي قد يضيع الابناء.
وكذلك التقينا آسيا صالح التي بدأت حديثها معنا بالقول: ان الأمومة هي مرحلة ثانية تأتي عقب الزواج وعليه فإن الحياة الزوجية في حد ذاتها تلعب دوراً أساسياً في صقل شخصية الزوجة، لأنه ومع أيامه الأولى يجب ان يكون للمرأة دور مهم في الأسرة التي تتكون من زوج وزوجة فقط، بمعنى ان يكون توزيع المهام متساويا.
وهنا نؤكد على دور الزوج الذي لو همش زوجته واشعرها بأنه لا دور لها سوى كونها زوجة فإن هذا الشعور سيظل ملاحقاً للمرأة حتى عقب انجاب الأبناء، فعدم استشعار الدور الحقيقي للزوجة والأم هو ما يسبب ضعف الشخصية التي ينعكس وبشكل واضح في عدم القدرة على التحكم في الابناء ومما لا يخفى على أحد ان تلك النقطة بالغة الحساسية والخطورة الا انه مع خطورتها فإن العلاج وارد.
فبمجرد ان تلاحظ الزوجة انها عديمة الشخصية وأن لا احد يستمع إلى آرائها وخاصة الابناء، فإن الحل يكمن في كلام الله تعالى، لأنه الطريق الأسهل والأيسر للدخول الى أعماق الأبناء والتأثير عليهم، فالنصائح لو كانت ذات طابع ديني مدعوم بكلام الله تعالى، وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، فإن تأثيرها سيكون قوياً، وعلى الأم أن تبدأ في تثقيف نفسها من الجانب الديني ثم بعد ذلك تحاول التقرب من الأبناء بهذه الطريقة.
وفي رأيي ان هذا الحل هو الأفضل لأي ام تستشعر انها ضعيفة الشخصية وتريد ان تستعيد قوة شخصيتها أمام أبنائها بالشكل الايجابي الذي تعنيه قوة الشخصية الخالية من التسلط والتمرد والمليئة بالحب في الوقت ذاته بما ينصب في مصلحة الأبناء والعائلة بشكل كامل.
عناد الطفل
ومن واقع ما عانته تؤكد حنان عبدالحي زوام ان الأم مهما بلغت قوة شخصيتها ومحاولاتها المستميتة في التحكم بزمام الأمور في بيتها فإن هنالك العديد من الأمور التي تشعر الأم بأنها ضعيفة الشخصية، فقد عانيت الكثير من هذا الشعور، حيث رزقني الله تعالى، في بداية حياتي الزوجية باثنين من الأبناء الذكور اللذين كانا يتسمان بالعناد الشديد ما جعلني أشعر بأن لا شخصية لي بتاتاً أمام طلباتهما وتصرفاتهما خاصة حين وصلا إلى عمر الأربع سنوات.
وقد حاولت معهما بالهدوء وتدرجت رويداً رويداً معهما حتى وصلت إلى مرحلة العقاب، ولا تتصوروا كم عانيت لأن لا حل ملموساً لحالة العناد التي كانا يتصفان بها وبما انهما في عمر متقارب، فإن كلاً منهما كان يقلد ما يفعله الآخر من تصرفات بغض النظر عما اذا كان التصرف الذي يقوم به صحيحاً أو خاطئاً، ولكن بعد ان نضجا قليلاً تمكنت من التحكم بهما لأنهما اصبحا اعقل عما كانا عليه، وهكذا وجدت ان طفلاً صغيراً بيده ان يلغي شخصية الأم.
ولكن هذا لا يعني الاستسلام ابداً لهذا الشعور، وهنا لابد من التطرق الى دور الأب الذي عليه معاونة الأم في التربية وتشجيعها والأخذ بيدها في إعادة بناء شخصيتها بما يوفر بيئة جيدة لتربية حسنة.
تراكمات طفولية
واخيراً التقينا فاطمة السري التي أوضحت لنا أن المجتمع الذي نعيش فيه قد ربانا منذ الصغر على الاعتماد على الرجل في كل شيء، لدرجة أصبحت معها بعض النساء لا تقوى على الخروج او فعل اي شيء دون وجود زوجها او والدها او شقيقها او حتى في بعض الأحيان ابنائها، ولكن بعد انتشار التعليم وحرص المرأة على اثبات ذاتها نجدها اليوم وقد تخطت تلك المرحلة بمراحل اكثر واقعية، وحسب تصوري فإن الأم ضعيفة الشخصية هي تلك التي يتحكم بها الأبناء بشكل قد لا يتصوره العقل.
وهذه النوعية نستطيع ان نقول عنها انهم لم يتمكنوا من التخلص من تراكمات الطفولة التي ألغت شخصيتهم واضعفتها، وعلى العموم فإن ضعف شخصية الأم في يومنا هذا لا نستطيع ان نعتبره ظاهرة، فهو رغم وجوده في مجتمعنا الا انه موجود بنسبة تكاد تكون ضئيلة جداً، ومن جهة اخرى فإن ضعف الشخصية قد يكون سببه عدم التفريق بين مشاعر الأمومة الحقيقية والشخصية الضعيفة فبين هاتين الصفتين شعرة بسيطة يجب الالتفات لها.
ثم ان قوة الشخصية بالنسبة للمرأة لا تعني بالضرورة التسلط فهذا مرفوض مثلما نرفض تماماً ان تتنازل المرأة عن حقوقها بداعي ضعف الشخصية، وهكذا فإن علينا ان نتعلم من دروس الماضي وان نربي أبناءنا على الثقة بالنفس التي تصنع بدورها أناساً وآباء وأمهات من ذوي الشخصيات القوية.
البيان

سيدة الوسط @syd_alost
عضوة شرف في عالم حواء
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️