الإعلام الناصري والانتصار على الشعب!

الملتقى العام

"لن نبالغ إن قلنا إن نموذج الإعلام كسلاح لسيطرة الدولة في العالم العربي أسسه المصريون". بهذه الكلمات يتناول الصحافي الإسكتلندي أندرو هاموند إعلام الحقبة الناصرية في كتابه الثقافة الشعبية في العالم العربي.

تعرَّف المصريون على ثورة يوليو عبر الإذاعة المصرية التي كانت هي مصدر الأخبار الوحيد لمجتمع بلغت فيه نسبة الأمية أكثر من 70% وفي وقت انتشار جهاز الراديو "الترانزستور".
ويشير هاموند في كتابه إلى أن الضباط الأحرار بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أدركوا جيدا أهمية الإذاعة التي جرى استخدامها كوسيلة للتعبئة وحشد الجموع، ليصبح عبد الناصر نجم الإذاعة الأول في العالم العربي. (1)

أسس عبد الناصر إذاعة باسم "صوت العرب" عام 1953 وعين لإدارتها المذيع أحمد سعيد أحد أصدقائه المقربين والذي لعب دورا هامًا في الترويج للقومية العربية التي تبناها عبد الناصر. كذا صارت أداة لتوجيه الغضب الشعبي من سوء الأوضاع المعيشية في هذا الوقت بعيدا عن عبد الناصر نحو الغرب الذي بات مصدر كل بلاء. وجرى استغلال الإذاعة في دعم عبد الناصر ومشروعه القومي الاشتراكي في مقابل خصومه السياسيين. وتفرغ أحمد سعيد لمهاجمة ملك السعودية فيصل لموقفه المعارض لموقف عبد الناصر في اليمن. كما اتخذت صوت العرب في عهد أحمد سعيد موقفا مساندا لأعضاء الحكومة الأردنية الموالين لعبد الناصر في معركتهم ضد الملك حسين. حتى الحبيب بورقيبة في تونس لم يسلم من نيران الإذاعة المصرية بسبب تصريحات الأخير الداعمة لتقسيم فلسطين إلى دولتين، تنفيذا لخطة التقسيم التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 1947. (2) (3)

لقد استخدم عبد الناصر أحمد سعيد بطريقة تشبه تلك التي اعتمدها الزعيم العراقي الراحل صدام حسين مع وزيره سعيد الصحاف، بل ووصف محللون الإذاعي المصري بجوبلز (وزير الدعاية السياسية للزعيم النازي هتلر) نظرا لأدائه الخطابي المتميز ودفاعه المستميت عن مشروع صديقه المقرب عبد الناصر. (4)

لكن "مذيع النكسة" كانت أبرز الألقاب التي عُرف بها أحمد سعيد فقد طفق الرجل يعلن تدمير عشرات الطائرات الإسرائيلية بناء على البيانات الصادرة من القيادة السياسية والجيش التي بشرت الشعب بأن الجيش المصري على أعتاب تل أبيب.

وتنحى عبد الناصر وتغير خطاب أحمد سعيد الذي اهتز إيمانه بعبد الناصر لكن الأخير عاد بمطالبات شعبية ليقيل سعيد. أكد المذيع الشهير بعد ذلك إنه كان جنديا ينفذ أمر القيادة التي كان مجبرا على طاعتها وإلا تعرض لعقوبة الإعدام. (5)

وهنا تجدر الإشارة إلى حرص الرئيس الراحل على تعيين الأصدقاء أو مصادقة الرموز بغرض الاستفادة من شعبيتهم الإعلامية لصالح المشروع الناصري. أحمد سعيد لم يكن الوحيد، فقد ارتبط عبد الناصر بصداقات مهمة مع عدد من رموز الطرب فغنى عبد الحليم للاشتراكية وللسد العالي وللزعيم عبد الناصر الذي جعل مصر زعيمة، وناشدت أم كلثوم عبد الناصر البقاء بعد إعلانه التنحي لكونه "الأمل والخير والنور" ونادى الملحن محمد عبد الوهاب الرئيس الراحل بـ "حبيب الكل"، ونظم صلاح جاهين القصائد في تمجيد الزعيم
كانت الكاريزما هي أبرز مهارات عبد الناصر وساهمت الخطب التي بثها التلفاز في زيادة أرصدة عبد الناصر الذي تحدى الولايات المتحدة وبريطانيا والبنك الدولي وطالب فيها الشعب بالتقشف للصمود في وجه الغرب. وبعد النكسة، اختار عبد الناصر التلفاز لبث خطاب التنحي الذي جاء عاطفيا لدرجة دفعت مئات الآلاف إلى الشوارع لمطالبة الرئيس بالبقاء.

أما الصحافة، فقد تجلى استغلالها في أزمة الرئيس الأول للجمهورية محمد نجيب الذي اشتكى ـ خلال اجتماع بمجلس قيادة الثورة في 20 ديسمبر 1953 ـ من تجاهل الإعلام المتعمد لخطاباته لكن الضباط الأحرار المقربين إلى عبد الناصر اتهموا نجيب بخطف الثورة . هنالك كتبت صحيفة الأهرام "قبول استقالة محمد نجيب لتمسكه بمطالب شخصية" وتعيين البكباشي جمال عبد الناصر، لكن عبد الناصر ورفاقه لم يصمدوا أمام الاحتجاجات الشعبية المطالبة بعودة نجيب رئيسا وقد كان. (6)

لقد تجنب عبد الناصر هذا الخطأ لاحقا فتخلص من الإخوان المسلمين في حادثة المنشية ونشرت الصحف القومية تقارير عن علاقة الإخوان بالمخابرات البريطانية وأعدم عدد من قيادات الجماعة وخُفف حكم بالإعدام على المرشد الهضيبي إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.

جرى استخدام المظاهرات المصطنعة للمرة الأولى لتقويض موقف محمد نجيب فخرجت احتجاجات غريبة تهتف ضد الديمقراطية والحرية والأحزاب والبرلمان، وتبين بعد ذلك أن أصدقاء عبد الناصر دفعوا إلى صاوي أحمد صاوي رئيس اتحاد عمال النقل 4 آلاف جنيه مقابل تنظيم إضراب يشل الحياة وحركة المواصلات بمشاركة عدد كبير من النقابات العمالية . (7)

كانت هذه المظاهرات خير غطاء لتنحية محمد نجيب وتحديد إقامته، وجاءت المانشيتات لتتجنب خطأ إعلاميا وقع فيه عبد الناصر في المرة الأولى، فهذه المرة أعلن مجلس قيادة الثورة بقاء منصب رئيس الجمهورية خاليا دون طرح أسماء. جرى بعد ذلك حذف اسم نجيب من الكتب المدرسية التي أعلنت جمال عبد الناصر الرئيس الأول للجمهورية المصرية، في تزييف واضح للتاريخ.

من جديد، تظهر الصداقات في علاقة عبد الناصر بالإعلام، فقد عين الأخير محمد حسنين هيكل رئيسا لتحرير الأهرام عام 1957، والذي ساند عبد الناصر على طول الخط وبرر سياساته، بل جاءت مقالات هيكل الأسبوعية مطابقة لوجهة نظر عبد الناصر. كذلك، اتسمت هذه الفترة بخروج الشيوعيين من المعتقلات الذين سعى عبد الناصر إلى احتوائهم واستغلال يأسهم الناجم عن دعم الاتحاد السوفيتي لنظام عبد الناصر. لذا فلا تعجب من تعيين الشيوعيين في عدد غير قليل من المناصب التحريرية والإدارية في الصحف والمجلات في هذا الوقت . (8)

ويهاجم الباحث الإسرائيلي يوحاي سيلع هيكل بقوله: مقالات هيكل تضمنت تضليلاً كبيراً للرأى العام العربى، حين تعمد بعد ذلك خلال الخمسينات والستينات أن يعمق الشعور بالاستهتار لدى الشارع العربى بقدرات إسرائيل، فى حين كان يتعمد التضخيم من قدرات مصر وقواتها ورئيسها جمال عبد الناصر! حتى أن هيكل وصف التورط المصرى فى اليمن بأنه فرصة جيدة للتدريب العسكرى وإفراز قادة جدد للعسكرية المصرية التى وصفا مبالغًا بأنها خارقة، مع تشديد عبد الناصر على أن النصر لن يتحقق للعرب رغم كل ذلك إلا تحت قيادة عبد الناصر!. ويضيف الباحث الإسرائيلى أن هيكل استغرق فى الأمر لدرجة جعلت الناس وهو معهم أيضا يتمنون اندلاع الحرب . (9)

وكتب هيكل بتاريخ 2 يونيو 1967 أي قبل النكسة بليلتين تقريبا: مهما يكن وبدون محاولة لاستباق الحوادث فإن إسرائيل مقبلة على عملية انكسار تكاد تكون محققة، سواء من الداخل أو من الخارج.

لم يغفل عبد الناصر الجانب الديني، فقد سيطرت الحكومة على الأزهر والمساجد وأفتى الشيخ محمود شلتوت بأن الاشتراكية والإسلام لا يتعارضان، وحصلت الحكومة على فتاوى من مؤسسات دينية لدعم برامج تنظيم النسل والإصلاح الزراعي، ونشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الذي أسسته ومولته الحكومة مقالات في الثناء على الاشتراكية في مجلتها "منبر الإسلام" . (10)

لقد أثار هذا التوجه تساؤلا ذا مغزى: هل كان السعي الناصري إلى بناء المؤسسات لا سيما الدينية بغرض بناء الدولة أم خدمة المشروع الناصري القومي الاشتراكي؟

لقد ضرب عبد الناصر مثالا في أهمية القوة الناعمة لا سيما الإعلام في تكوين القاعدة الشعبية. امتلك الرجل وسائل الإعلام واستطاع أن يكذب مراهنًا على أمية الغالبية وافتتان الباقين بالكاريزما الناصرية.

أضحك الزعيم الراحل المشاهدين الساذجين بالتندر على مرشد الإخوان حسن الهضيبي الذي يريد نشر الحجاب في مصر ولا يستطيع أن يقنع ابنته طالبة الطب بالحجاب. تبين بعد ذلك أن ابنة المرشد هي الطالبة الجامعية الوحيدة التي ترتدي الحجاب لكون الطالبات الأخريات خائفات من الاعتقال بتهمة انتمائهن للأخوات المسلمات! (11)

وانهزم الجيش المصري في 1956 لكن القيادة أقنعت الشعب بالعكس ليغني عبد الحليم "انتصرنا" دون أن يعترض أحد.

وفي النكسة، لم يقف الأمر عند حد بيانات الانتصار الكاذبة فيما يراق دم الشباب المصري المبعثر في الصحراء المكشوفة، فقد بثت قناة الجزيرة مؤخرا مقطع فيديو يطالب فيه عبد الناصر الملك الأردني حسين بإذاعة بيانات كاذبة عن اشتراك طائرات بريطانية وأمريكية في العدوان الإسرائيلي على مصر . (12)

لم يكن هناك إعلام يواجه عبد الناصر بتناقضاته، فبينما كان الإعلام الناصري يروج المزاعم عن التحالف الإخواني مع بريطانيا كانت هناك مزاعم أخرى عن تعاون عبد الناصر مع الاستخبارات الأمريكية لإجهاض انقلاب إخواني محتمل، وأن واشنطن أمدت عبد الناصر بسترة واقية من الرصاص ارتداها قبيل حادثة المنشية في أكتوبر 1954 . كانت هناك مزاعم أن عبد الناصر طلب من المسؤول بمكتب الخارجية لشؤون الشرق الأدنى باركر هارت المساعدة للقضاء على محمد نجيب . وقال هارت إن عبد الناصر تعهد بتحسين صورة أمريكا في العالم العربي والسلام مع إسرائيل والاعتراف بأن السوفيت هم التهديد الخارجي الأول على المنطقة للحصول على 40 مليون دولار خصصها وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس لمصر . (13) (14) (15) (16).

لقد صفقت الجموع لجمال عبد الناصر وهو يتحدى الأمريكان والبريطانيين ويعلن مشروعه القومي، لكن أحدا لم يعرف لعقود طويلة أن المشروع العظيم: السد العالي هو مشروع سوفيتي بالأساس وأن المشاركة المصرية لم تكن بالصورة التي روجها الإعلام الناصري.
فالاتحاد السوفيتي وافق على دعم المشروع عام 1958 ليبدأ معهد هيدروبروجيكت السوفيتي تصميم الحجارة الضخمة وسد الطمي، فضلا عن أن الدعم الفني والهندسي والمعدات الثقيلة جاءت كلها من الاتحاد السوفيتي . (17)

لم تكن هناك معارضة أو إعلام يقدم وجهة النظر الأخرى. لم تكن هناك معارضة تُذكر الناس بأن عبد الناصر تسلم مصر والسودان وخرج من الدنيا وقد فقدت مصر كلًا من السودان وسيناء. لم تكن هناك معارضة فقد زج الرئيس الراحل بآلاف المعارضين في المعتقلات.

نجح الإعلام الناصري في تحقيق أغلب أهدافه الداخلية لكنه فشل في تحرير فلسطين أو الحفاظ على كامل التراب الوطني. لذا فإن من المناسب أن نقول إن الإعلام الناصري لم ينتصر إلا على الشعب. ولازال بعض الناس مستلبي الوعي لهذا الإعلام الذي خمد من أكثر من أربعين سنة.

لقد أفسدت الدعاية الناصرية الفِطَر. لذا لا تستغرب أن تجدهم أكثرهم اليوم داعمين للطاغية بشار الأسد قاتل الأطفال ومغتصب النساء.
0
971

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️