فإن الإنترنت ثورة كبرى في عالم المعلومات، وميدان فسيح لامتحان الإيمان والأخلاق بل والعقول.
فالخير مفتوح الأبواب، والشر معروض بشتى الأساليب، وبإمكان الذي يتعامل مع الإنترنت أن يطلق لسانه بما شاء، وأن يُسَرِّحَ بصرَه كما يريد، وأن يخط بيده ما يرغب؛ فلا حسيب عليه، ولا رادع له، ولا مُوْقِف له عند حد.
فإن تسامى واستعلى، ونظر في العاقبة، واستحضر رقابة ربه، وشهوده عليه - أفلح وأنجح، واقتحم تلك العقبة.
وإنْ هو أطلق لنفسه العنان، ومال حيث يميل الهوى، وغاب عنه رادع الإيمان ووازع التقوى - أوشك أن يرتكس في حمأة الرذيلة، ويسقط على أم رأسه في الحضيض، فلا يكون من رواء ذلك إلا إذلال النفس، وموت الشرف، والضعة والتسفُّل.
ولهذا كان حرياً بالعاقل أن يحسن التعامل مع الإنترنت، وأن لا يْفْرِطَ في الثقة في نفسه، فيوقعها في الفتنة، ثم يصعب عليه الخلاص منها.
وجديراً به إذا أراد أن يقدم أية مشاركة، أو مداخلة، أو ما جرى مجرى ذلك أن ينظر في جدوى ما يقدم، وأن يحذر من أذية المؤمنين، وإشاعة الفاحشة فيهم، وأن ينأى بنفسه عن القيل والقال، واستفزاز المشاعر، وكيل التهم، وتسليط الناس بعضهم على بعض.
وإذا أراد أن يعقب أو يرد فليكن ذلك بعلم، وعدل، ورحمة، وأدب، وسمو عبارة.
وإذا أراد أن يشارك فليشارك باسمه الصريح، وإن خشي على نفسه إن صرح باسمه، أو رغب في إخلاص عمله، فليحذر من كتابة ما لا يجوز ولا يليق، وليستحضر وقوفه بين يدي الله يوم تبلى السرائر.
وعلى العاقل كذلك أن يحذر خطوات الشيطان؛ فهو متربص ببني آدم، وقاعد لهم بكل سبيل؛ فهو عدوهم الذي يسعى سعيه في سبيل إغوائهم.
قال ربنا - تبارك وتعالى - في غير موطن في القرآن الكريم: (( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ )).
فالعاقل اللبيب لا يثق بعدوه أبداً، ولا يلقي نفسه في براثن الفتن، ولا يفرط في الثقة مهما بلغ من العقل، والدين، والعلم.
ومن هنا تجده ينأى عن الفتن، ولا يستشرف لها؛ فإذا تعرضت له أُعِين عليها، وصاحبه اللطف الإلهي.
وإنْ هو وثق بنفسه، وسعى إلى حتفه بظلفه وُكِلَ إلى نفسه، وزال عنه اللطف.
فهذا يوسف - عليه السلام - لم يتعرض للفتنة، بل هي التي تعرضت له.
ومع ذلك لم يثق بإيمانه، وعلمه، وشرفه المُعْرِق، بل فر من الفتنة، واستعاذ بالله من شرها، واعترف بأنه إن لم يصرف الله عنه كيد النسوة صبا إليهن وكان من الجاهلين.
ولما كانت هذه هي حالَه صاحَبَهُ اللطف، وأُعِين على الخلاص من ذلك البلاء العظيم.
ومما يعين على تعدي هذه البلايا أن يخصص الإنسان وقتاً محدداً، وعملاً معيناً، وأن يكون له هدف واضح، ويتعامل من خلال ذلك مع الإنترنت.
أما إذا استرسل مع تصفُّح الأوراق، والانتقال من موقع إلى موقع دون هدف أو غاية - ضاع وقته، وقلَّت فائدته، وإفادته.
ومما يعين على ذلك - أيضاً - أن ينظر العاقل في العواقب، وأن يقهر نفسه، ويلجمها بلجام التقوى.
قال ابن الجوزي - رحمه الله -: " بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى لا تبع عزها بذل المعاصي، وصابر عطش الهوى في هجير المشتهى وإن أمضَّ وأرمض ".
يعني وإن آلم وأحرق.
ومما يعين على النجاة من فتنة الإنترنت غض البصر، لأن الصورة القبيحة تعرض للإنسان ولو بدون قصد؛ فإذا غض بصره أرضى ربه، وأراح قلبه؛ فالعين مرآة القلب، وإطلاق البصر يورث المعاطب، وغض البصر يورث الراحة؛ فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته.
قال ربنا - عز وجل -: (( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ )).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في هذه الآية: " فجعل - سبحانه - غض البصر، وحفظ الفرج هو أقوى تزكيةٍ للنفوس.
وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشر ور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك ".
ومما يجب على الإنسان حال تعامله مع الإنترنت أن يتثبت مما يقوله، ويسمعه، ويقرؤه، ويرويه.
وبذلك يُعْلَمُ عقلُ الإنسان، ورزانته، وإيمانه.
كيف والإنترنت يُكْتَبُ فيه الغث في السمين، ويَكْتُبُ كل من هب ودب، وبأسماء مجهولة مستعارة ؟
فعلى العاقل أن ينظر في هذا الأمر؛ فإذا اطلع على خبر أو أمر من الأمور تَثَبَّتَ في شأنه، وإذا ثبت له نظر في جدوى نشره، فإن كان في ذلك حفز للخير، واجتماع عليه نشره، وأظهره، وإن كان خلاف ذلك طواه وأعرض عنه.
وكم حصل من جراء التفريط في هذا الأمر من الشر والخلل.
وكم من الناس من يلغي عقله، ويتعامل مع ما ينشر في الإنترنت وكأنه وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وإلا فإن العاقل اللبيب يتثبت، ويتأنى حتى ولو اطلع على كلام لشخص معروف موثوق، فضلاً عن مجهول، أو غير موثوق.
ولقد جاء النهي الصريح عن أن يحدث المرء بكل ما سمع.
قال صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع ". رواه مسلم.
ويتعين هذا الأدب في وقت الفتن والملمات، فيجب على الناصح لنفسه أن يتحرى هذا الأدب؛ حتى يقرب من السلامة، وينأى عن العطب
وكما أنه يجب على المسلم أن ينأى بنفسه عن شر الإنترنت فكذلك ينبغي له أو يجب عليه ألا يحرم نفسه من خيره، خصوصاً إذا كان ذا دراية، وتخصص فيه؛ فلا يحسن به أن يكون قصاراه ألا يقع في المحذور.
بل عليه أن يقدم النافع المفيد، من المشاركات الهادفة، والاقتراحات النافعة، والدلالة على المواقع الإسلامية الموثوقة.
كما عليه ألا يحقر نفسه في إنكار ما يراه من منكر أو قبيح في الإنترنت كل ذلك بحسب قدرته واستطاعته.
وأخيراً إليك أيها الأخ الكريم هذه التساؤلات:
ألا تشعر - وأنت تقلب بصرك في الصور الخليعة - بظلمة في قلبك، ووهن في بدنك، وزهد بالفضيلة ورغبة في الرذيلة ؟ !
ألا تحسُّ - وأنت تطالع المهاترات، وتصيخ سمعك لما يقال في فلان وفلان - بقسوة في قلبك، وإساءة في ظنك، وتشاؤمٍ في نظرتك.
ألا تشعر - إذا قضيت الساعات الطوال أمام الإنترنت بلا فائدة - بضيق في صدوك، وتكسُّرٍ لحاجاتك ؟ حتى إنك لا تطيق من بجانبك، ولا تحرص على الرد بمن يتصل بك عبر الهاتف ؟
وفي مقابل ذلك ألا تشعر بنشاط، وأنس، وسرور وقوةٍ إذا قدمت الخير، وغضضت البصر عن الحرام، واتقيت الله في الخلوة ؟ !.
أسأل الله - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى - أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، مباركين أينما كنا.
والحمد لله رب العالمين.
** نُقل بتصرف من مقال الشيخ محمد بن ابراهيم الحمد حفظه الله **
لولو12 @lolo12_1
عضوة جديدة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️