دروس في الإيمان الحلقة (59)
ما يترتب على الإيمان بأنه خاتم النبيين .
ويترتب على الإيمان بأنه خاتم النبيين أمور:
الأمر الأول:
عظم مسئولية أمته عن هذا الدين الذي جاء به، لأنهم ورثوه عنه ولا ينتظرون أن يأتي من ينوب عنه في حفظه وتبليغه غيرهم، بخلاف الأمم السابقة، فقد كان كلما هلك نبي خلفه نبي كما سبق في الحديث قريبا.
لذلك يجب على هذه الأمة الاهتمام بهذا الدين إيماناً، وفقهاً، وعملاً، ودعوة، لأن الله شرفها بهذا الفضل - وهو مسئوليتها عن هذا الدين بعد نبيها وكون الله قد كلفها حمل هذا الشرف والشهادة به على الأمم الأخرى إلى يوم القيامة - الذي لم تنله أمة غيرها.
الأمر الثاني:
أن كل ما يحتاج إليه الناس، لجلب مصالحهم، ودفع المضار عنهم في دينهم ودنياهم، لا بد أن تكون مصادر هذا الدين قد اشتملت عليه، إما نصا أو استنباطا من نص، أو قياسا معتبرا على ما ورد به النص، أو إجماعا من علماء الأمة، لأن البشر كلهم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ملزمون بالدخول في هذا الدين إلى يوم القيامة.
فإذا لم يكن في مصادر هذا الدين ما يحقق مصالحهم في كل زمان لزم احتياجهم إلى غيره، وكانوا غير ملزمين به، لعدم تحقيقه مصالحهم وهذا باطل، فلزم أن تَفِيَ شريعة الرسول الخاتم بكل المصالح لكل البشر وفي كل الأزمان، وهذا هو واقع هذا الدين.
الأمر الثالث:
أن باب الاجتهاد مفتوح لأهله إلى يوم القيامة، إذ يلزم من كون الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ووجوب اتباع الناس كلهم لدينه، أن يجد هؤلاء الناس أحكاما في هذا الدين لكل ما يجد لهم من قضايا في حياتهم، والقضايا لا تحصى كثرة، ولا يمكن أن يوجد في كل قضية ما هو نص فيها، بل لا بد من البحث والاجتهاد في أغلب القضايا.
فإذا أغلق باب الاجتهاد، خلت قضايا كثيرة من وجود أحكام لها في هذا الدين، ويلزم من ذلك فتح الباب لغير ذوي الفقه في الدين أن يشرعوا للناس ما لم يأذن به الله، إما اضطراراً لعدم وجو الفصل الشرعي في قضايا الناس المتجددة، وإما مكراً واغتناماً لغياب العلماء المجتهدين لتسويغ الخروج عن شرع الله، بحجة عدم وفائه بتحقيق المقاصد وحل مشكلات الناس.
وقد نبه الإمام الشافعي رحمه الله على هذا الخطر لو حصل، فقال:
"ولو جاز تعطيل القياس جاز لأهل العقول من غير أهل العلم أن يقولوا فيما ليس فيه خبر، بما يحضرهم من الاستحسان، وإن القول بغير خبر ولا قياس لغير جائز.." .
كما نعى ابن القيم رحمه الله على من فرطوا في هذه الشريعة فضيعوا بتفريطهم الحدود والحقوق، فجرءوا بذلك أهل الفجور والفساد بجعلهم الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، فقٌال:
"قلت: هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك في معترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل، وعطلوها مع علمهم وعلم الناس أنها أدلة حق، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها.
فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة، فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم، فتولد من تقصير أولئك في الشريعة، وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض، وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يناقض حكم الله ورسوله.
وكلا الطائفتين أُتِيَتْ من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، فإن الله بعث رسله وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأمارا ته في نوع واحد، وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر، بل بين بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط.
فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها، والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها وإن تجد طريقاً من الطرق المثبتة للحق إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها، وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟
ولا نقول:
إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها، وتسميتها سياسة أمر اصطلاحي، وإلا فإذا كانت عدلا فهي من الشرع". .
فلزم وجوب فتح باب الاجتهاد، ولكن لأهله الذين يفقهون الشريعة والواقع المراد تطبيق الحكم عليه، وليس للأدعياء والمتعالمين أو من يستظهرون نصوصاً ويحفظون أحكاماً وهم لا يدرون عن الواقع ولا يتصورون حقيقته.
وقد بين الإمام الشافعي رحمه الله الشروط التي يجب أن تتوافر في المجتهدين الذين تطمئن الأمة إلى اجتهادهم، فقال:
"ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها، وهي العلم بأحكام كتاب الله: فرضه وأدبه، وناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصة، وإرشاده.
ويستدل على ما احتمل التأويل بسنن رسول الله، فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماع فبالقياس.
ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالماً بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف، وإجماع الناس، واختلافهم، ولسان العرب.
ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرق بين المشتبه، ولا يعجل بالقول به دون التثبت.
ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه، لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزداد به تثبيتاً، فيما اعتقد من الصواب.
وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده، والإنصاف من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول، وترك ما يترك.
ولا يكون بما قال أعنى منه بما خالفه، حتى يعرف فضل ما يصير إليه على ما يترك، إن شاء الله.
فأما من تم عقله، ولم يكن عالماً بما وصفنا، فلا يحل له أن يقيس، وذلك أنه لا يعرف ما يقيس عليه، كما لا يحل لفقيه عاقل أن يقول في ثمن درهم ولا خبرة له بسوقه.
ومن كان عالماً بما وصفنا بالحفظ لا بحقيقة المعرفة، فليس له أن يقول أيضا بقياس، لأنه قد يذهب عليه عقل المعاني.
وكذلك لو كان حافظاً مقصر العقل، أو مقصراً في علم لسان العرب، لم يكن له أن يقيس، من قبل نقص عقله عن الآلة التي يجوز بها القياس".
وهذا يوجب على الأمة السعي في إيجاد علماء مجتهدين يقوم بهم فرض الكفاية في كل باب من أبواب الشريعة.
هذا الموضوع مغلق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️