
يا رب!
بك أستــجــير، ومن يجـــير سواكـا
فأجــــر ضعيـــفًا يحتمـي بحـــماكــا إنـــي ضــعيف أستعــين علــى قوى
ذنبـــي ومعصــيتي ببعـــض قواكـــا يا مــدرك الأبصــار! والأبصــار لا
تـــدري لــــه ولكــــنـــهــه إدراكـــا أتــراك عــين، والعيــون لــها مـدى
مــا جـــاوزتــه ولا مـــدى لــمداكــا إن لم تــكـــن عينــي تـــراك فإنــني
فــي كـــل شـــيء أستـبيــن عـــلاكا يا منــبــت الأزهـار عاطــرة الشذى
هـــذا الشـــذى الفواح نفـــــح شذاكا يا مجــري الأنــهــار عاذبــة النــدى
ما خـــاب يومـــا من دعـــا ورجاكا ربــاه قد أفلــتُّ مــن أســر الهــوى
واستقــــبل القلـــب الــخلي هواكـــا وتركــت أنســـي بالحيــاة ولهـــوها
ولقيــت كـــل الأنــس فـي نجـــواكا ونســـيت حــبي واعتــزلت أحــبتي
ونســيــت نفســي خـوف أن أنــساكا أنا كنــت -يا ربي- أسير غـــــشاوة
رانــت علــى قلبــي فَضــَلّ ســـناكا والــيوم ها أنا ذا مـــسحت غشاوتي
وبــدأت بالقــــلــب البصــير أراكــا
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة». متفق عليه (1).
وقد جاء في بعض روايات الحديث زيادة عدد هذه الأسماء الحسنى: «هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن الرحيم...» . إلى آخر الحديث الذي عد فيه تسعة وتسعين اسمًا لله عز وجل.
وهذه الزيادة انفرد بها الترمذي (2) -وعند ابن ماجه (3) أيضًا من طريق آخر- ولا تصح مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما أجمع عليه المحققون من أهل العلم وأهل الحديث (4).
ولنا مع هذا الحديث الجليل العظيم وقفات:
أولًا: أسماء الله تبارك وتعالى كثيرة، بل كما قال ربنا عز وجل: "قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا"... "وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"..
فلله عز وجل من معاني الحمد والمجد، والكمال والعظمة، والقوة والقدرة والسلطان ما لا يحيط به بشر، ولا يدركه عقل، ولا يقف عند منتهى كنهه إدراك؛ وهذا الحديث لا يعني قصر الأسماء الحسنى على التسعة والتسعين، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح– الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه- مناجيًا وداعيًا ربه تبارك وتعالى: «أسألك بكل اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك...» (5).
وذكر في حديث الشفاعة أنه يسجد صلى الله عليه وسلم تحت العرش، فيفتح الله عليه بمحامد يعلِّمها الله له، لم يكن يعلمها من قبل (6).
فلربنا تبارك وتعالى أسماء سمى بها نفسه، منها ما أنزله في كتابه، كالأسماء الموجودة في القرآن، وقد أوصلها بعضهم إلى واحد وثمانين اسمًا (7)، ومنها ما علّمه الله تعالى بعض خلقه من الأنبياء والمرسلين، أو الملائكة المقربين، أو ما شاء الله تبارك وتعالى.
ومن أسمائه سبحانه ما استأثر بها في علم الغيب عنده، فلا يعلمه أحد، وذلك أن لله تعالى من معاني العظمة ما لا تستطيع المخلوقات إدراكه؛ لأنه الإله الحق المبين، له الجمال المطلق، والكمال المطلق، والجلال المطلق، والعظمة التامة، والقدرة الكاملة، فلله تعالى أسماء وصفات لا يحيط بها إلا هو سبحانه وتعالى، وإنما لهذه الأسماء التسعة والتسعين خصائص معينة، منها أن من أحصاها دخل الجنة، كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: أسماء الله تبارك وتعالى توقيفية، فلا يحق لأحد من الناس أن يخترع لله تعالى اسمًا، وقد يتكلم الناس عن ربهم بألوان المجد والحمد والثناء والخير، وهو باب واسع تكلم عنه العلماء والمبدعون والأدباء والشعراء، بل ربما تجد أعرابيًّا أو فلاحًا أميًّا، أو مؤمنًا حديث عهد بإيمان يعرف ربه، وينبض قلبه بحبه؛ فيتكلم لسانه بألوان من الكلام الجميل العظيم في تمجيد الله تعالى، ومدحه والثناء عليه، وهذا لا غبار عليه؛ لأنه من باب الإخبار والثناء بمحمود الفعال، ولكن الكلام هو في باب الأسماء، فلا يجوز أن يتحول هذا الكلام إلى اسم لله عز وجل، يُنادَى به، ويُسمَّى به، وينسب إليه، فالأسماء توقيفية، لا يحل لأحد أن يخترع لله تبارك وتعالى اسمًا حتى من الأخبار التي جاءت في القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى يتكلم ويقول، ولكن لا يسمى المتكلم أو القائل، وإنما أسماؤه سبحانه ما جاء في القرآن أو السنة بصفة الاسم، مثل:(الخالق، البارئ، المصور، الملك، القدوس، السلام، العزيز، الحكيم، العلي، العظيم، المؤمن، المهيمن...).
ثالثًا: من أسماء الله الحسنى ما يختص به سبحانه، فلا يجوز أن يسمى بها غيره، وهي (الرحمن، الله) "قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ".؛ ولهذا لا يتسمى أحد بهذين الاسمين من المخلوقين قط إلا قصمه الله تعالى، كما فعل بمسيلمة حينما تسمى باسم الرحمان، فقتله الله وأباده وأخمل ذكره، وكانوا يسمونه: رحمان اليمامة. فعاقبه الله بما حصل له من سوء السمعة، والكلام الذي جرى عليه في حياته وبعد مماته، فـ «الله» و«الرحمن» من الأسماء التي لا يسمى بها أحد إلا الله عز وجل.
وبقية الأسماء قد يسمى بها غيره، كالسميع، والبصير، والإنسان يوصف بذلك ويسمى، كما قال تعالى في القرآن الكريم: "إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا"..
وكذلك الرؤوف الرحيم، والعلي، والكبير، والخبير، وسواها، ولكن بين الوصفين من الفرق كما بين الخالق والمخلوق، فإن للعبد من الحقيقة والصفة معنى يناسبه، فحينما نصف العبد بأنه سميع أو بصير؛ نتحدث عن مستوى من السمع والبصر تحده الحدود والسدود، والحواجز، وله قدر معين لا يتجاوزه، أما ربنا عز وجل فله من هذه الصفات أعلاها وأوفاها، وأكملها وأجملها، مما لا تحيط به العقول، ولا تدركه الأفهام.
الـعــجــز عن درك الإدراك أدراك
والبــحث في ذاتـه كفــر وإشـــراك
فقد يسمى العبد ببعض أسماء الله تبارك وتعالى، ولكن بين حقيقة الاسم لله عز وجل. وحقيقة الاسم للمخلوق بون شاسع عظيم.
الأسماء الحسنى

من أسماء الله عز وجل ما يجوز أن يذكر وحده منفردًا، كالعزيز، والحميد، والحكيم، والرحيم، والعليم، والخبير، والبصير... وما أشبه ذلك، فتناديه بها، وتدعوه بها، وتعرفه بها سبحانه.
ومن الأسماء ما لا يذكر إلا مع نظيره، بأن تصف الله تبارك وتعالى بأنه هو «النافع الضار»، أو «القابض الباسط»، وما أشبه ذلك من الأسماء التي تكون متقابلة، فلو وصفت ربك تبارك وتعالى بأنه الضار فحسب، أو القابض فحسب؛ لكان هذا موهمًا لمعنى لا يليق بمجد الله تعالى وكرمه وعظمته وكماله وقدسيته؛ فلهذا لا تذكر هذه الأسماء منفردة، وإنما تذكر مع نظيرها، ومقابلها.
معنى الإحصاء في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعةً وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة» . يشمل أمورًا منها:
أولًا: معرفة هذه الأسماء وحفظها، بحيث يستطيع الإنسان أن يعدها عدًّا، وقد اعتنى جماعة من أهل العلم بِعَدِّ هذه الأسماء، كالزجاج، وابن منده، وابن حزم،وأبي حامد الغزالي، وابن العربي، والقرطبي، وغيرهم، ومن المعاصرين الشيخ ابن عثيمين، وعمر الأشقر، ومحمد الحمود النجدي، وغيرهم من المصنفين والعلماء الذين اعتنوا بذكر هذه الأسماء وتعدادها، واستخراجها من القرآن والسنة النبوية الصحيحة(1).
وهذا داخل في معنى إحصاء أسماء الله الحسنى، وفضل عظيم للإنسان أن يكون عنده إلمام ومعرفة بأسماء الله عز وجل، وأن يتلوها، وأن يدعو الله بها، ولذا يحسن أن يجمعها المؤمن في ورقة أو لوحة، ويجعلها نصب عينه في غرفته أو سيارته، لينال بركتها ويسهل عليه حفظها.
ثانيًا:من معاني إحصائها: معرفة معانيها، فإن هذه الأسماء ليست أسماء رمزية، ولا وهمية، ولا جامدة، ولا غامضة المعنى، وإنما هي بلسان عربي مبين، أُريِدَ من الإنسان أن يتفهم معانيها، فلا بد أن يطلع الإنسان ولو على كتاب مختصر يفسر له معنى الاسم الإلهي.
فهلم نتعرف على معاني هذه الأسماء؛ حتى تكون تلاوتنا لها ذات معنى، وليس مجرد ترديد لألفاظ لا نفقه ما وراءها، وهذا بحد ذاته مكسب عظيم، يبارك النفس ويزكيها، ويرتقي بالقلب والعقل والروح والوجدان إلى مدارج ومعارج الكمال.
ثالثًا: الإلحاح بالدعاء لله عز وجل بهذه الأسماء، كما قال الله تعالى: "وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ" . .
إن الله تبارك وتعالى يحب أن يدعى بها؛ ولهذا قيل:
لا تســـألــن بُــنَــــيَّ آدم حــــاجـــة
وســل الــذي أبوابـــه لا تــحــجــب الله يغــضـــب إن تركــــت ســـؤاله
وبُنَيُّ آدم حـــين يســـأل يغضــــــب
فندعو الله تعالى بأسمائه الحسنى، والدعاء يشتمل على معنيين:
الأول: دعاء المسألة. بأن تدعو الله تعالى وتسأله وترجوه فيما ألم بك من أمر دنياك وآخرتك مما تحب وترجو، أو مما تخاف وتكره.
والمعنى الثاني: دعاء العبادة. ويقصد به: التعبد لله تعالى بهذه الأسماء، باستحضار معانيها، وتأملها وتدبرها والتعبد بمقتضياتها، والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والصلاة والذكر والاستحضار.
كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «إن الله تعالى عالم يحب العلماء، جميل يحب الجمال، رحيم يحب الراحمين، محسن يحب المحسنين...» (2).
فإذا اقتبس الإنسان من نور هذه الأسماء الحسنى، وتعلم منها، وتربى عليها وأطاقها، فإنه يكون بذلك قد أحصى أسماء الله عز وجل.
ومن ذلك: قراءة القرآن لاشتماله على أسماء الله تعالى الحسنى، ويدخل في ذلك أن يستحضر الإنسان معانيها، فيكون الله تعالى معه في كل حال، ويكون عنده من التوكل على الله والإنابة إليه ومراقبته والإيمان به والتفويض إليه، وغير ذلك من المعاني العظيمة ما يستغني به، ويحقق به معنى هذه الأسماء الحسنى.
رابعًا: استحضار معاني تلك الأسماء؛ فإن شر ما يُبتلى به الناس: الغفلةُ والاستغراق في ماديات الحياة، والانسياق وراء صوارفها.
وخيرُ دواءٍ للقلوب هو استحضار عظمة علَّام الغيوب، والتدرج بالنفس في مراقي معرفته والإيمان به سبحانه، حتى تصل إلى درجة: «أن تعبد الله كأنك تراه»، فهذا يزيد المرء إقبالًا على الطاعة وحفاوة ونشاطًا، كما قال سبحانه: "الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ" . .
كما أن استشعار معاني هذه الأسماء يزيد المؤمن إعراضًا عن المعصية وزهدًا فيها، وإسراعًا في الإقلاع عنها، وقوة في التوبة والأوبة؛ لِمَا يحس به من وحشة القلب والبعد عن الرب، ولِما يُحاذره ويستشعره من غضبه أو عتبه أو مؤاخذته سبحانه للعبد على إقامته على الذنب.
الكاتب: فضيلة الشيخ / سلمان بن فهد العودة