في غضون نصف القرن الماضي خصص رجال التربية والتعليم والمحللون النفسانيون وأطباء النفس المختصون بالأطفال، وعلماء النفس وأطباء الأطفال قدراً كبيراً من دراساتهم وعنايتهم لشؤون نفسية الطفل. وكان الآباء والأمهات متلهفين على الاطلاع على نتائج تلك الدراسات، كما أن الصحف والمجلات لم تتوان عن الإسهام في هذا الاهتمام من خلال نشر أكبر قسط ممكن من تلك الدراسات. ومن خلال ذلك كله، تعلمنا شيئاً فشيئاً، أن الأطفال بحاجة إلى حب الأبوين الطيبين أكثر من أي شيء آخر وانهم - أي الأطفال - يبذلون عفوياً اقصى الجهد للتشبه بالكبار الراشدين وتحمل المسؤولية. وان الكثيرين ممن يقعون في الاضطراب والمتاعب إنما يعانون في الواقع من فقدان العطف، لا من فقدان العقوبة. وتعلمنا فوق ذلك كله أن الأطفال يتلهفون على التعلم إذا أعطوا موضوعات مدرسية مناسبة لأعمارهم، واشرف عليها معلمون متفهمون، وإن بعض مشاعر الغيرة من الإخوة والأخوات، وبعض مشاعر الغضب العارمة نحو الآباء والأمهات، هي أمور طبيعية، ولا داعي لأن يحس الطفل بالخجل الشديد لدى تعرضه لمثل هذه المشاعر، وأن الاهتمام الصبياني بحقائق الحياة، وببعض الجوانب الجنسية، هي أمور طبيعية. كذلك تعلمنا أن القمع العنيف للمشاعر العدوانية والاهتمامات الجنسية، قد يفضي إلى حالة من التوتر، وأن الأفكار التي تدور في العقل الباطن، لها من التأثير في حياة الإنسان، بقدر ما للأفكار التي تدور في عقله الواعي، وان كل طفل هو عنصر مستقبل وينبغي أن يبقى كذلك.
هذه الأفكار كلها أصبحت اليوم من الأمور العادية المعروفة والمألوفة، ولكنها عندما اعلنت لأول مرة، أحدثت هزة كبيرة. فكثير منها يتناقض مع معتقدات تضرب جذورها في أعماق الماضي منذ مئات الأعوام. ومن الطبيعي أن لا يكون سهلاً تغير العديد من الأفكار عن طبيعة الطفل واحتياجاته، دون إرباك الكثيرين من الآباء والأمهات. بيد أنه لوحظ أن الآباء والأمهات الذين مروا بحياة طفولة سعيدة جداً، ويتمتعون باستقرار راسخ، كانوا أقل الناس تعرضاً لهذا الارتباك. لقد أثارت هذه الأفكار الجديدة اهتمامهم، ولعلهم أقروها. ولكن عندما حان الوقت لكي يربوا أطفالهم، لم يستطيعوا أن يربوهم إلا وفق الأسلوب الذي نشأوا هم أنفسهم عليه. وقد لاقي هؤلاء الآباء والأمهات نجاحاً في تربية اطفالهم بمقدار ما لاقي آباؤهم وأمهاتهم في تربيتهم. وليس في ذلك ما هو غير طبيعي، فتعلم طريقة تربية طفلك من خلال طفولتك السعيدة التي نشأت فيها في أسرة سعيدة، هو أمر طبيعي جداً.
أما الآباء والأمهات الذين قاسوا الكثير من الاضطراب والارتباك في تقبل الأفكار الجديدة، فهم أولئك الذين لم تتوافر لهم طفولة ناجحة سعيدة. فكثير من هؤلاء انتابهم شعور من الاستياء والإثم، مردهما العلاقات المتوترة التي كانت سائدة بينهم وبين آبائهم وأمهاتهم، لكنه لم يكن لهم بالطبع أن يرضوا بأن تكون مشاعر ابنائهم نحوهم كمشاعرهم هم نحو آبائهم وأمهاتهم. ومن هنا فقد رحبوا بالنظريات الجديدة. ولكنهم كثيراً ما كانوا يقرؤون في ثنايا تلك النظريات معاني تتجاوز المعاني التي قصدها أصحاب النظريات المذكورة. فقد اعتقدوا مثلاً أن كل ما يحتاج اليه الأطفال هو الحب، وان لا يخضع الأطفال للأصول المتبعة بل أن يسمح لهم بالتعبير عما يجيش في صدورهم نحو الآباء والأمهات وغيرهم، وإن كل ما يصاب به الأطفال من اضرار أو عادات سيئة أنما المسؤول عنه هم آباؤهم وأمهاتهم. ومن ثم فإذا اساء الأطفال التصرف مع آبائهم وأمهاتهم. فليس لهؤلاء أن يغضوا أو حتى يتناسوا ويعمدوا إلى معاقبة ابنائهم، بل لا بد لهم من إحاطة أبنائهم بمزيد من العطف والحنان. على أنه إذا بولغ بمراعاة هذه المفاهيم، أصبح تطبيقها متعذرا، فهي تشجيع الأطفال على الإكثار من مطالبهم، كما تحملهم في حالات أخرى شعوراً بالإثم بسبب سوء السلوك الشنيع وهي - فوق ذلك - تكلف الآباء والأمهات أن يكونوا فوق البشر. وعندما يظهر سوء السلوك فعلاً، يحاول الأبوان في أول الأمر أن يكبحا جماح غضبهما، ولكنهما في النهاية ينفجران، ثم يبدو عليهما تأنيب الضمير والشعور بالإثم، الأمر الذي يزيد سلوك طفلهما سوءاً.
على أن بعض الآباء والأمهات، ممن التهذيب من طبعهم، يسمحون لأطفالهم - بصورة تدعو إلى الدهشة - أن يتصرفوا تصرفاً ذميماً لا في علاقاتهم مع أبويهم وحسب، بل في علاقاتهم مع الناس أيضاً. ولا يبدو على هؤلاء الآباء والأمهات أنهم يبالون بما يدور حولهم. وبعض هذه الحالات تكشف، عندما تدرس بعناية، عن أن هؤلاء الآباء والأمهات مروا بحياة طفولة كانوا مكرهين خلالها على ممارسة التهذيب البالغ وكبح كل ما يعانونه من الاستياءات الطبيعية. ولذا فإنهم الآن يشعرون بفرحة غامرة، وهم يرون أبنائهم وفلذات اكبادهم يمارسون جميع ألوان التصرفات التي اضطروا هم إلى كبتها في طفولتهم. وهم اذ يفعلون ذلك، يحاولون اقناع انفسهم بأنهم إنما يفعلون ذلك انسجاماً مع احدث النظريات في تربية الأطفال.
منقوووووووووووووووول

توتا2006 @tota2006_1
محررة برونزية
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

توتا2006
•
up
الصفحة الأخيرة