البلاء موكل بالمنطق
مما جاء في المثل: "البلاءُ مُوَكَّلٌ بالمَنْطِقِ".
وقيل: "البلاء مُوَكَّلٌ بالقول".
ومعناه: ألَّا يعجلَ المرءُ على نفسه بالكلام فيكونَ فيه هلاكُه، أو يوافق ساعةَ استجابة فيصادف قولُه قدَرًا سبق في عِلم الله عز وجل؛ كما جاء في الحديث: ((لا تدعوا على أنفسِكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا تُوافقوا من اللهِ تعالى ساعةَ نَيلٍ فيها عطاءٌ، فيستجيبَ لكم))؛ رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وذكر المناوي في "فيض القدير" (3/ 222) أن المراد به: التحذير من سرعة النطق بغير تثبُّتٍ؛ خوفَ بلاءٍ لا يُطيق دفعه.
وقال المناوي أيضًا: إن العبدَ في سلامةٍ من أمره ما سكت، فإذا نطق عُرف ما عنده بمحنة النطق، فيتطرَّق للخطر أو الظرف.
• وقد جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ ؛ أي: طُردوا وأُبعدوا عن رحمة الله عز وجل؛ لأن "البلاء موكل بالمنطق"، فهُمْ لمَّا وصفوا اللهَ بالإمساك، طُردوا وأُبعدوا عن رحمته؛ قيل لهم: إذا كان الله عز وجل كما قلتم لا يُنفق، فليمنعْكم رحمتَه حتى لا يعطيكم من جُودِه، فعُوقبوا بأمرين:
1- بتحويل الوصف الذي عابوا به الله سبحانه إليهم بقوله: ﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ .
2- وبإلزامهم بمقتضى قولهم بإبعادهم عن رحمة الله؛ حتى لا يجدوا جُودَ الله وكرمه وفضله. .
وفيه الحذر من عاقبة اللسان، وأنه ربما نطق الإنسان بما يكون فيه بلاء؛ فإن يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه في يوسف: ﴿ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ ، جاؤوا إليه عِشاءً وقالوا: أكله الذئب، فابُتليَ من ناحية هذا القول، ولمَّا قال لهم في أخيهم بنيامين عند سفرهم إلى مصر: ﴿ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ﴾ ، أُحيط بهم وغُلبوا عليه، ورجعوا إليه من غيره، ويوسف عليه السلام لما قال في محنة امرأة العزيز: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ ، سُجِن ولبِث في حبسه بضع سنين.
• وفي صحيح الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجلٍ يعُودُه، فقال: ((لا بأس، طَهورٌ إن شاء الله))، فقال: "كلا، بل حُمَّى تفور، على شيخٍ كبيرٍ، كيما تُزِيرَه القبورَ"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فنعم إذًا)).
وعند الطبراني وغيره، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أمَّا إذا أبيتَ، فهي كما تقول، وقضاءُ الله كائن))، فأصبح الأعرابي ميتًا.
وأنشد ابن بهلول في معناه:
لا تنطقنَّ بما كرهتَ فربما ♦♦♦ نطَق اللسانُ بحادثٍ فيكونُ
وأنشد غيره:
لا تمزحنَّ بما كرهتَ فربما ♦♦♦ ضرب المُزَاح عليك بالتحقيقِ
وحُكي أن المؤمل بن أميل الشاعر لمَّا قال يوم الحيرة:
شفَّ المؤمل يومَ الحيرة النَّظرُ ♦♦♦ ليتَ المؤملَ لم يُخلَقْ له بصرُ
عمِيَ، فأتاه آتٍ في منامه، فقال له: "هذا ما طلبتَ"؛ .
• وقال مجنون بني عامر في ليلى:
فلو كنتُ أعمى أخبِط الأرضَ بالعصا ♦♦♦ أصمَّ فنادتني أجبتُ المناديا
فعمي وصَمَّ، وذهب بصره وسمعه. .
قال ابن القيم: "رأيتُ أخبارَ كثيرٍ من المُتمنِّين، أصابتهم أمانيُّهم أو بعضها". .
وأخرج ابن أبي الدنيا عن إبراهيم النخَعي أنه قال: "إني لأجد نفسي تُحدِّثني بالشيء، فما يمنعني أن أتكلَّمَ به إلا مخافةَ أن أُبتلى به".
• وذكر الدورقي قال: اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد فحضرت العِشاء، فقدَّموا الكسائي، فارتجَّ عليه في قراءة ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ ، فقال اليزيدي: قراءةُ هذه السورة يُرتجُّ فيها على قارئ أهل الكوفة! قال: فحضرت الصلاة فقدَّموا اليزيدي فارتج عليه في الحمد (أي: الفاتحة)، فلما سلَّم قال:
احفظ لسانَك لا تقول فتُبتلى ♦♦♦ إن البلاء موكَّل بالمنطقِ
.
• ولما نزل الحسينُ وأصحابُه بكربلاء، سأل عن اسمها فقيل: كربلاء، فقال: "كربٌ وبلاء".
• ولما وقفت حليمةُ السعدية على عبدالمطلب تسأله رَضاعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لها: "من أنت؟"، قالت: "امرأة من بني سعد"، قال: "فما اسمك؟"، قالت: "حليمة"، فقال: "بخٍ بخٍ؛ سعدٌ وحِلْمٌ؛ هاتان خُلَّتان فيهما غَناء الدهر". .
• ورُوي أن رجلًا من النصارى - وكان بالمدينة - إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: "حُرِق الكاذب"، فسقطت في بيته شرارةٌ من نار وهو نائم، فتعلَّقت النارُ بالبيت فأحرقته، وأحرقت ذلك الكافرَ معه؛ فكانت عبرة للخلق، "والبلاء موكل بالمنطق". .
• وولَّى ابن حفصون - أحد أشهر معارضي سلطة الدولة الأموية في الأندلس - قائدَه (عيشون) المُلقَّب بالخير على مدينة "رية"، فسار إليه الأمير المنذر بن محمد ليقاتله، فقال عيشون لأصحابه: "إذا المنذرُ ظفر بي، فليصلبْني بين خِنزيرٍ وكلب"؛ دلالةً على استهانته به، ويقينه من الانتصار عليه، فحاصره المنذر حتى عجز أهل "رية" مما حلَّ بهم، فسلموا إلى الأمير المنذر "عيشون"، فوجه به إلى قرطبة، وصلبه وعن يمينه خنزير وعن يساره كلب كما قال. .
وروى ابن أبي شيبة في الأدب المفرد عن ابن مسعود أنه قال: "البلاء موكل بالمنطق لو سخِرتُ من كلب، لخشيتُ أن أُحَوَّلَ كلبًا". .
وعن ابن مسعود أيضًا قال: "ولا تستشرفوا البليَّة؛ فإنها مُولعةٌ بمَن يُشرِف لها، إن البلاء مولع بالكَلِم".
• وضاق الصحفي اللبناني (فرح أنطون) بكثرة التضييقات الصحفية في مقالاته، فكتب في مقالٍ له يومًا:
فيا موتُ زُرْ إن الحياةَ ذميمةٌ ♦♦♦ ويا نفسُ جِدِّي إن دهرَك هازلُ
فمات في اليوم التالي.
• ويروي الكاتب (مصطفى أمين) أن الممثل المصري (أنور وجدي) قال يومًا للممثلة (زينب صدقي) في إحدى الحفلات - وكان ساعتها ممثلًا صغيرًا لم يشتهر بعد -: "كم أتمنى أن يكونَ معي مليون جنيه! وإن أُصبت بأي مرض"، فقالت له زينب صدقي: "وماذا يفيدك المال وأنت حينها تكون مريضًا؟"، فأجابها: "سأنفق بعضَ هذا المال على المرض، ثم أتمتع بباقي المال".
تقول زوجته في مذكراتها: (فكان معه المليون جنيه وأكثر؛ ولكن الله ابتلاه بمرض السرطان في الكبد، فأنفق كل ماله، ولم يذهب المرض؛ بل بقي في تعاسة).
• وللباحثة د. هيفاء بنت ناصر الرشيد بحث منشور بمجلة العلوم الشرعية واللغة العربية بجامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز، يتعلق بالمعاني المقبولة والمردودة للمقولة المشهورة (البلاء موكل بالمنطق) من منظور عقدي، وذلك تحت عنوان "البلاء موكل بالمنطق: دراسة عقدية".
ذواقــه @thoakh_2
عضوة فعالة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
ملَك إنسان
•
يعطيك العافية
الصفحة الأخيرة