البنات في شعر الآباء

ركن القصص والفوائد اللغوية والأدبية

يسعى الناقد الأستاذ الدكتور مسعد بن عيد العطوي في كتابه الصادر حديثاً بعنوان «البنات في شعر الآباء» إلى تأمل الخطاب الشعري في هذا الموضوع الذي أخلص فيه الشعراء الآباء حين راحوا يمحضون بناتهم بصفاء أرواحهم وعقولهم وشعورهم، وقد حاول المؤلف أن يرصد مسيرة الحياة للبنت من يوم ولادتها ومروراً بطفولتها ومؤانستها لأهلها، ومشاركة الأب لها في أفراحها وأتراحها إلى يوم وفاتها.

تناول المؤلف في كتابه الذي يمكن أن نعده الأول من نوعه في هذا الحقل النقدي إذ يحتوي على أربعة عشر موضوعاً حاول الإلمام فيها بتحولات إيقاع المراحل التي مرت بها المرأة العربية منذ العصر الجاهلي الذي احتفظت فيه المرأة الحرة بالكرامة والعفة والشرف، فقد كان العربي شديد الحساسية في مسألة الشرف، شديد الحذر للحفاظ على نسائه يختار الأماكن المخوفة والدار ذات الارتياد الصعب حتى لو خلت من الماء والشجر كي لا يتعرض للغزو ويلطخ شرفه شيء أو عار. يقول الأعشى:

ودار حفاظ قد حللنا مخوفة
سراة قليل رعيها ونباتها

وكل منا يدرك أن المرأة العربية قبل الإسلام وبعده تستلهم قول عنترة بن شداد أو تتمثل به:

ولكن تبعد الفحشاء عني
كبعد الأرض عن جو السماء

ومن معالم التكريم للمرأة وصيانتها أن الرجل يؤثرها على غيرها متى ما تعلق بها، فهي تتلبسه وتستحوذ عليه فينظر إليها نظرة التعاطف والتمازج، فيسمو الحب ليكون علاقة دائمة تتجاوز الغرائز الجنسية إلى ماهو أسمى فترتبط روحهما معاً، ومن هنا كان الحب العذري الذي اشتهرت به العرب في الجاهلية والإسلام، وكانت غايته الارتباط الشرعي لا المتعة الحسية وأغلب العرب والشعراء يعشقون واحدة، وإن تكاثرت الأسماء في القصائد الشعرية لشاعر واحد فإنما هن رمز لأن الشاعر لا يبوح باسم معشوقته، حفاظاً عليها وستراً لها وخشيته من التأويل الخاطىء ولئلا تتعرض لمساءلة الأقارب.

كذلك كان من معالم تكريم المرأة قيام الحرب عندما يتجاوزون حدودهم عليها بالشتم أو بالضرب أو بكشف العورات، فحرب الفجار الثانية قامت بينهم لمّا تعرض فتية من قريش لامرأة من بني عامر بن صعصعة في سوق عكاظ. وكذلك قصة الزهراء أخت كليب التي صفعها بعلها لبيد بن عنسية، فلجأت باكية إلى أخيها فقتل كليب لبيداً، وأصبح ملكاً للعرب، وقصص الحروب التي يثيرها التعرض للمرأة كثيرة عند العرب قديماً وحديثاً، وكم في المقابر من قتيل في سبيل العرض.

وبمجيء الإسلام توسعت آفاق تكريم المرأة فأضحت مجاهدة مقاتلة فهذه صفية بنت عبدالمطلب تدافع عن نساء الخندق وعدد من النساء استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى غزوة خيبر فأذن لهن ومنهن المجاهدة خولة بنت الأزور التي وقفت جنباً إلى جنب مع خالد بن الوليد في معركة (أجنادين).

صورة البنات في الشعر العربي

جسد شعر الآباء في بناتهم صفاء الحب، ونقاء السريرة، وتعانق الود والتآلف، وحمل الشعر لنا بهجة الآباء ببناتهم، زمن الولادة، وفاض بالسعادة الغامرة واصفاً المداعبة والملاعبة، وتألق بالأنس في المحادثة والمجالسة ومجاذبة الحوار، وصوّر الشعر البنات رياضاً يدلف الآباء إليهن حين تكفهر الحياة أمامهم. وأشرق بالحبور والسرور في بهجة حفل الزواج ومسرح الطرب والفرح، ووصف لنا انكماش الأبوين بانتقال الابنة الحبيبة إلى الحياة الزوجية الجديدة، وخلو البيت منها، واستشعر الشعر أثقال الحياة التي تلوح في ضباب الحياة لبناتهم، وروعنا الشعر بمآسي البنات في أمراضهن وغربتهن، وشارك الشعراء بناتهم المصائب التي تداهمن بفقد أولادهن ثم استبكانا كثيراً شعر الرثاء للبنات حتى إننا لم نر شعراً يحمل حزناً أصدق إحساساً من لوعة الشعراء على بناتهم.

فمن الصور الشعرية للبنات ولادة البنت في مستهل الحياة الزوجية فهو أمر موح بالخير والبركة، فخير النساء من بكّرت بأنثى، فهي تخدم أسرتها وتنشر المرح والمداعبات وتجمع شمل العائلة ويتعلق بها قلب الأب ويكنى بها فتحتل مكانة كبيرة. وفي هذا الحقل الدلالي انبرى الشعراء يهتفون ابتهاجاً بولادة بناتهم، فهذا الشاعر محمد حسن عواد يصوّر مولد ابنته (نجاة) بأنها «هتفة من هتفات الحياة يتخللها الأمل» فأول هاجس هو يتمثل في أعظم أمنية له أن تكون حياتها ناجية من المنغصات والأمراض، فهل هناك عاطفة أقوى من تلك العاطفة التي تنزع بقدوم البنت ثم هو يتمنى لها أن تؤدي رسالة الطهر والعفاف وأن تحمل راية العمل الصالح والعلم النافع، ثم يجعلها أنشودة الحياة وطيورها المغردة، وهي تضيء البيت وتبث البهجة في القلوب بابتسامتها التي يدعو إلى نثرها بل إن إطلالتها ومداعبتها إنما هي نسمات الفجر، وحفيف أشجاره وأغصانه وأنهاره وهذه الصور التي استدعتها البنت من ألوان السعادة في هذه الحياة.

ليلة الشك جئت يازهرة الشـ
ـشك، فكان اليقين أولى هباتك

يا«نجاتي» مناي لو ضمن الدهـ
ـر ـ على بخله ـ جميل نجاتك

فتؤدي رسالة الطهر وسعـ
ـي قوة منك تختفي في سمائك

وتغذي الحياة من شرف الخلـ
ـلق فتعلي بها مكان لداتك

أنت أنشودتي الصغيرة في الدنـ
ـيا فهذا الغناء من نغماتك

وابتساماتك الجميلة تغلي
لذة العيش فانثري بمساتك

أنت ترنيمة الصباح، إذا ما
أقبل الفجر حاملاً همساتك

أنت لي هيثم ـ تعجل ـ رفافاً
وهذا الرفيف في حركاتك

وأنا النسر نال في أفق الشعـ
ـر مدى تلمسينه في غداتك

ومن صور مداعبة الآباء لبناتهم ما يقوله الشاعر حسن القرشي عندما صور مشاجرة طفلته الصغيرة مع أخيها منطلقاً إلى وصف تلك الطفلة في أسلوب سردي قصصي، يرسم فيه الغم والهم

الذي أصاب ابنته جراء اعتداء أخيها على لعبتها، ويصور لنا تصويراً مسرحياً أحوالها وهو قد تفاعل مع ابنته بروح مرحة خفيفة، تتدفق فيها مشاعر الأبوة الحانية التي تفيض بالود والرقة:

أتتني على الصبح بنتي الصغيرة
وفي صوتها رعشة مستجيرة

وفي فمها لثغة حلوة
تموسق أحلام قلبي الأسيرة

أتت تشتكي من أخيها الصغير
فقد داس إحدى دماها الكثيرة

أتتني.. فيازهرة الأقحوان
ترف بآمال روحي الحسيرة

لها اسم الحبيبة أمي الرؤوم
وفي جرسها نغمات أثيرة

وفي خطوها ـ أي خطو صغير ـ
دلال كأن فتاتي أميرة

فقلت لها ياابتسام الربيع
وياضوء هذي الحياة الضريرة

سآتيك يومي بخير الدمى
فإن الفتى قد أتاها جريرة

فكيف يعابثها بالهوان
وأنت لها مثل أم خطيرة

وكيف يدوس التي في حماك
سيعلم كيف أربي شروره

وإن شئت أن تصفحي فهو أولى
وتعطيه لعبة طفل حقيرة

فقالت إذا ما رأيت الدمى
صفحت فإني بعفو جديرة

ولكنني لست أعطي دماي
وإن كن مثل التلال الكبيرة

تعيشين لي ياابنتي في سلام
فإنك كنز حياتي النضيرة

وبعد أن تتجاوز البنت مرحلة الطفولة، يهرع كثير من الشعراء إلى بناتهم لمناجاتهن ومحادثتهن وبثهن همومهم، فهذا الشاعر عبدالرحمن آل عبدالكريم يدلف إلى ابنته (غادة) بعد أن أعيته الحوادث، كي تخفف عليه من وطأة الحياة التي أبكت عيونه، فتكالب الإنسان وخداعه، ومكره الخفي، وتجاوز حدوده على الشاعر قد فجرت مشاعره، وألهبت جوانحه، فأصحاب الحقد الدفين لا يتركونه بحاله، إنما يؤججون نار الفتنة من حول الشاعر، بل إن القريب والقرين كلاهما ينسج مؤامرته كي تنال من الشاعر فإذا هو يفزع لابنته التي هي بمثابة الطبيعة التي يهرب إليها الرومانسي، فهي تضمد جراحه، وتشفي غليله، وتجلو همومه، وتمده بالحنان والرقة والملاطفة التي يفقدها عند من يحيطون به، فهي مصدر الحب، ومآل الصديق الذي يصدقك:

أدركيني أدركيني

غادتي كي تنقذيني

تنقذيني من نحيب

قرحت منه جفوني

إنني في هذه الدنيا

سعيد كحزين

كلما رمت التنائي

عن متاهات السنين

عن بنيات الليالي

عن ذوي الحقد الدفين

واجهتني ترهات

من قريب أو قرين

همه التنقيب والبحث

عن الأمر المشين

ثم ولى لا يبالي

بامتعاضي وأنيني

أحمد الله لأني

لم أضيع أمر ديني

وإذا همت اشتياقاً

للمعالي أي حين

صعداً طوفت في الأقذال

بالحبل المتين

أو ما تدرين أني

دائماً أخفي حنيني

أجعل الصبر سلاحي

ملء سمعي وعيوني


ومن مشاركة الآباء لبناتهم أفراحهن في ليلة زفافهن، هذا الشاعر محمد علي مغربي يحتفي بابنته أميمة ويبتهج في ليلة زفافها ويتمثلها مشرقة كالبدر، تملأ الدنيا جمالاً وسروراً ويحمد الله ويثني عليه، أن منحها الله الحسن والبهاء، والطهر والحياء، ويتأملها في حلة العروس البهية التي أخذت من التقاليد العربية، ولا بهاء للثوب إذا لم تكن العروس تتلبسه، فهي التي تكسبه الجمال والحيـاة:

أشرقي كالبدر نوراً وسناء

املئي الدنيا جمالاً ورواء

جل من سواك حسناً وبهاء

ثم زان الحس طهراً وحياء

ونقاء وصفاء وذكاء

إنه ما أحلاه ثوباً عربياً

أي كف نسجته نقيا

حينما أسدلته كان حفياً

ثم لما زنته صار زهياً

كيف لا يزهو وقد أصبح حياً

صانك الله بعين لا تنام

ورعاك سميراً في الأنام

ولتعيشا في صفاء ووئام

في دروب الحب في دنيا السلام

والشاعر لم يقف عند توديعها بل لم يعلن التوديع لكونها دائمة الحضور في قلبه، وكشف عن أمنيات الأب لابنته، فهو يحمل هاجسها الدائم فبعد ليلة البناء، طافت به أمانيه إلى أولاد ابنته وحياته التي يتمناها سعيدة، بل إنه تصور البيت وقد ازدان بعبث الطفولة:

إنني أرقب في يوم قريب

طفلة كالبدر، أو طفلاً نجيب

قد كساه الحسن بالثوب القشيب

يتناغى وهو كالغصن الرطيب

أين منه إن تغنى العندليب

يملأ البيت ضجيجاً وحبوراً

حين يصحو حين يحتاج أمورا

ظل في عينك بدراً وأميراً

وملاكاً هبط الأرض صغيرا

يملأ الدنيا ابتهاجاً وسرورا

أنت في يومي وعند الأمسيات

ذكريات تتجلى في حياتي

يشهد الفجر ندي النسمات

إنها والله أغلى الدعوات

يقبل الله دعائي وصلاتي

وإن من أكبر المآسي التي يصاب بها الإنسان فَقْد الآباء أو الأولاد، فالهاجس الذي ينغص حياة الفرد هو تفكيره في موت آبائه أو أولاده، والأب والأم أكثر توجساً، فإذا تقوضت أركان أحد الأولاد فإن الحياة تكسوها غاشية وأي غاشية، فالحدث جلل والمصاب عظيم، ولا حول للإنسان ولا قوة إلا بالله، وليس له إلا أن يقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون} فما يلقاها ويستلهمها إلا الذين آمنوا واتقوا. ولا ريب أن نجد رثاء الأولاد بنين وبنات يكثر في الشعر العربي ومما يعنينا رثاء البنات، وأغزر رثاء يطالعنا هو رثاء الصنوبري لابنته في اثنتي عشرة مقطوعة وقصيدة، فهو دائم البكاء، شديد التعلق بها. يقول:

نساء في حداد صائحات

كغربان تصايح في الوكور

ينادين الأحبة في صخور

وكيف يجيب من تحت الصخور



المصدر / المجلة العربية
1
45K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

بحور 217
بحور 217
تذكرت قصيدة الشاعر غازي القصيبي التي كتبها يوم زفاف ابنته ومطلعها

العمر أنت ورياه ورونقه

وأنت أطهر ما فيه وأصدقه

وجاء فيها

وأين كومة أشيائي تبعثرها

وأين دفتر أشعاري تمزقه

وأين في الرمل بيت كنت أصنعه

لها فتسكن فيه ثم تسحقه

تسع وعشر من الأعوام كيف مضت

من الزمان يكاد البرق يلحقه

هي العروس التي يختال موكبها

شيء أراه ولكن لا أصدقه

يمازج الورد من دمعي فيا لأب

يلقاك بالدمع والأفراح تخنقه!!



موضوع جميل حقا

جزاك الله خيرا