هذي القصه من التراث الشعبي للإمارات من جريده الخليج
وهي من جمع واعداد الكاتب عبدالعزيز المسلم...
صلوا على النّبِي، اللهُمّ صَلِّ وسَلمْ عليه، كان يا ما كان.. في قديم الزمان، يوم الزمان.. يضرب الزمان، كان سلطان من السلاطين، يعيش في أحد البلاد البعيدة، وكان له ثلاثة أبناء أحدهم معاق، ولم تكن معاملة السلطان لأبنائه متماثلة، فقد كان يفرق في المعاملة بين ولديه السليمين وولده المعاق، حتى أصبح يخجل من إعاقته ويتوارى عن أعين الناس حتى إخوته.
كبر الأولاد واشتهر الولدان السليمان بالشجاعة والإقدام، وبمرور الوقت أحسا بأنه يجب عليهما البحث عن مغامرة وتجارة تكسبهما شيئاً من التميز الذي يضيف لحياتهما، ويرفع من شأنهما عند والدهما بصفة خاصة وعند الناس بشكل عام.
ذهب الولدان إلى أبيهما يخبرانه بقرارهما الذي اتخذاه بشأن السفر، وطلبا منه أن يبتني لهما مراكب شراعية كبيرة للسفر عبر الخلجان والبحار للتجارة، فوافق الأب بعد أن رأى أن ابنيه عقدا العزم على السفر وأنهما جادان في ذلك.
شرع العمال في بناء مركبين شراعيين خشبيين كبيرين، وعلمت البلاد بعزم أبناء السلطان على السفر، وفرحوا لهما كثيرا، وكان ابن السلطان “المعاق” يراقب كل ما يجري ويسمع ما يقال ويتحسر، إذ كان يتمنى أن يكون معهما وأن يعطيه أبوه الثقة التي يعطيها لأخويه، كما أنه كان يحس بأن لديه أفكارا وقوة لم يستفد منها.. لكن ما العمل؟
أنجز الأساتذة (1) والعمال أعمال القلافة (2) الخاصة بسفينتي أبناء السلطان، وكانا مركبين عظيمين، وأمر السلطان أن يملأ المركبان ب “البز” (3) من الحرير وسائر أنواع الأقمشة المختلفة الأصناف والألوان.
حانت ساعة الرحيل ووقف الجميع على مرفأ المدينة يودعون ابني السلطان الساعيين إلى التجارة والمغامرة.
أبحر الشابان في سفر طويل حتى بلغا مرفأ مدينة “البصرة” وهناك كانت أنباء سفرهما وصلت للجميع، أنزلا المراسي إلى البحر وهمّا بالنّزول، والناس يتزاحمون لرؤية مركبيهما، ثم ظهر من بين الجموع رجل أنيق ذو هيبة ووقار، تقدم إلى الشابين، وما إن تقدم حتى انسحب الجميع وولوا مدبرين.
سلم الرجل على الشابين وسألهما عن بضاعتهما فأخبراه بما يحملانه من أجود أنواع “البز” فقال لهما انه يرغب في شراء كل حمولتهما من “البز” لكن “شحنة بشحنة” أي أن يملأ لهما مركبيهما بحمولة بمقدار حمولة “البز” التي سيأخذها منهما، وافق الشابان وهما في غاية الفرح والسرور، إذ تمكنا من بيع البضاعة بأكملها بسرعة لا يمكن أن يتخيلها أحد.
سأل الشابان الرجل “التاجر” عن موعد استلام شحنة الحمولة الجديدة، فقال لهما إنه جاهز متى أمرا بذلك، فقالا له إنهما ينويان قضاء خمسة أيام ليستريحا من عناء السفر ويتجولا في “البصرة” وبعدها سيعودان فورا إلى بلدهما، فأقرّهما على ذلك وقال لهما إنه في غضون هذه الأيام الخمسة سيملأ المركبين بالشحنات المتفق عليها.
عاد الشابان ولكن بعد عشرة أيام قضياها في التجوال والمرح البريء في مدينة البصرة، إذ أعجبهما هواؤها وماؤها ونخلها، وعندما وصلا فوجئا برائحة كريهة تنبعث من ناحية المركبين فتقدما والرائحة تزداد، وما ان وصلا إلى المركبين حتى وجداهما مليئتين بالأسمدة وروث البهائم من الأغنام والأبقار، فكانت صدمة عظيمة. وتساءلا: ما هذا؟ ماذا سيصنعان بهذه القمامة؟
اتجها فورا إلى قاضي المدينة ورفعا دعوى على التاجر الذي احتال عليهما، فاستدعى التاجر المحتال وسمع حجته، ثم استدعى من كان شاهدا على الواقعة، وبعد إتمام سماع كامل الدعوى والحجج وأقوال الشهود، حكم ببراءة التاجر من تهمة الاحتيال على الشابين، لأن الاتفاق الذي تم بينهم كما قال التاجر وشهد الشهود كان على تبادل “شحنة بشحنة” من دون تعيين ماهية الشحنة البديلة لشحنة “البز”، وأقر الشابان بذلك، وبذلك خسرا كل أموالهما وأصبحا عاجزين حتى عن دفع أجور البحارة ورسوم المرفأ، مما دعا سلطة الميناء إلى احتجاز المركبين لحين دفع الرسوم.
بات الشابان في ضائقة مادية كبيرة، فقد صرفا كل ما يملكانه من مال في جولتهما في البصرة التي استغرقت عشرة أيام، كما أنهما كانا يعوّلان على بيع جزء من البضاعة التي كان سيعطيها لهما التاجر المحتال ليتدبرا مصاريف السفر وأجور البحارة ورسوم المرفأ.
اضطر الشابان إلى البحث عن عمل يقتاتان منه، فعمل الأول عاملا عند بائع الحلوى (4) والثاني عمل عند الخباز، وهكذا مرت الأيام والشهور والسنون، لا أحد يعلم عن ابني السلطان شيئاً، إذ انقطعت الأخبار وساد القلق في مدينة السلطان.
في يوم من الأيام بعد أن اشتد الحزن بالأخ الثالث “المعاق” توجه إلى أبيه وهو يبكي وطلب منه أن يجهز له مركبا يبحر به في اثر أخويه للبحث عنهما، تعجب السلطان من طلب ابنه “المعاق” وصرخ في وجهه قائلا: إن الشابين اللذين اتّصَفا بالشجاعة وحب المغامرة فشلا من أول رحلة لهما ولم يعودا ولم يُسْمَعْ لهما خبر، فكيف بك أنت وأنت معاق لا تقوى على الحركة بشكل سليم؛ كيف ستواجه الأهوال والأخطار؟ اغرب عن وجهي الآن.
حزن الفتى من زجر أبيه له، وأخذ يبكي وتوجه إلى جدته يبث لها همّه ويشكو حالته، فاحتضنته وأخذت تُرَبّت على كتفه وتهدئ من حزنه وغضبه، ووعدته بأنها هي التي ستحقق له أمنيته وتنفذ طلبه.
توجهت الجدة إلى ابنها السلطان وعنّفته على فعله غير اللائق بابنه الصغير، وقالت له مهما يكن يجب ألا يقلل من شأن أي واحد من أبنائه وألا يستهين بقدراتهم، وأن يعاملهم بعدل ومساواة دائما، فاعتذر لها السلطان عن سوء تصرفه وطلب منها الصفح.
قالت له الجدة إذا كنت ترى أنك أخطأت في حق ابنك فنفذ له ما يطلب من دون شروط، أطاع السلطان والدته واشترى لولده المعاق قارباً صغيراً وملأه له بالبضائع المختلفة وتمنى له حسن الطالع والحظ السعيد.
توجه الابن بقاربه إلى البصرة، وبعد مدة من مصارعة موج البحر والأهوال وصل إلى مرفئها، وهناك تجمهر عليه الناس كعادتهم، باستقبال الزائر الجديد، ثم ظهر التاجر المحتال وسلّم على الفتى وطلب منه شراء “الشحنة بالشحنة” فوافق الفتى لكن بشرط أن يتكاتبا على صنف معلوم ليكون بدلا لبضاعته الثمينة، إذ كان الفتى حريصا حذقا لم تنطل عليه هذه الحيلة.
طلب الفتى بدلا لبضاعته “ذهبا وفضة” وتكاتبا على ذلك وبصم كل منهما على ذلك وأشهدا الشهود وعلم الجميع باتفاقهما، ثم غادر الفتى المرفأ ليعود بعد أيام ليتسلم بضاعته ويغادر إلى بلاده.
أغرق التاجر المحتال في التفكير فهو لا يريد التفريط في أمواله هكذا، فوصل الى حيلة جديدة تمكنه من المحافظة على ماله، كانت لديه ابنة جميلة فقدمها للفتى ابن السلطان يعرضها للزواج، فوافق الفتى وعقد القران، وبعد مدة من زواجه قرر الفتى العودة إلى دياره، فاستأذن من التاجر المحتال فسأله عن زوجته فقال له إنه سيأخذها معه بالطبع، لكنه طلب منه الدين الذي في ذمته وهو شحنة من الذهب والفضة ثمن شحنته، فقال له التاجر المحتال ولكنك الآن أصبحت زوج ابنتي، فقال له إن هذا اتفاق قديم وليس له علاقة بالزواج.
كان التاجر المحتال يملك ثلاثة صناديق كبيرة كل منها لا يقوى على حمله إلا أربعة رجال أشداء، وكانت الصناديق مملوءة بالذهب والفضة، فسلمها إلى ابن السلطان، وبينما العمال يحملون صناديق الذهب والفضة في القارب لمح الفتى مركبي أخويه على جانب من المرفأ فسأل التاجر المحتال عن المركبين فقال له إنهما لتاجرين فاشلين خسرا مالهما وباعا هذين المركبين له، فإن شاء باعهما له، فقبِل أن يشتريهما لأنه بحاجة لمراكب كبيرة لكثرة البضاعة التي اشتراها من البصرة، فاشترى المركبين ثم توجه إلى السوق لشراء كميات كبيرة من الحلوى والخبز فأرسل كل من بائع الحلوى وبائع الخبز عامله ليأخذ ما اشتراه الفتى التاجر إلى سفنه في المرفأ.
توجه الشابان العاملان شقيقا الفتى معه إلى المرفأ وفي الطريق أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث فعلم بقصتهما وأنهما أخواه اللذان سافرا إلى البصرة، فعرض عليهما أن يأخذهما إلى بلدهما لأنه على مقربة من بلده الذي يقصده، وأنه سيدفع لهما أجرة سخية، فوافقا على الفور، لكنه قال لهما إنه سينفذ ذلك بشرط، فسألوه عن الشرط، فقال إن شرطه الوحيد أن يختمهما على جسديهما بخاتمه حتى يضمن ألا يغدرا به، فوافقا على الفور!
انطلقت المراكب وجعل الفتى المركبين الكبيرين في المقدمة وقاربه الذي يحمل زوجته وصناديق الذهب والفضة في الخلف.
مضت السفن في طريق طويل عبر أمواج البحر، وبينما الشابان يتحادثان مع بعض البحارة علما بأن صاحب السفن هو أخوهما المعاق وأنه ربما فعل ذلك ليشمت بهما، فقررا التخلص منه، فاختبآ له في الليل ودفعا به إلى مياه البحر وتخلصا منه، وقالا إنه لو سألهما والدهما السلطان سيخبرانه بأنهما تأخرا لغرض التجارة، وإنهما التقيا بأخيهما المعاق الذي وقع ضحية التاجر المحتال في البصرة ولكنهما لم يستطيعا تقديم العون له بسبب تورطه مع المحتال، فتركاه وعادا بمركبه وزوجته ليطمئنا والدهما.
الفتى المعاق تمكن من النجاة بتمسكه بسلّم قاربه الصغير، فتعلق بالقارب وساعدته زوجته على الصعود إلى ظهر القارب فاختبأ في صندوق له قفل من الداخل، وطلب من زوجته أن توهم الجميع بأنها خرساء من هول الصدمة لفقدها زوجها، حتى يصل الى بلده ويفتح الصندوق من الداخل ويتوجه إلى دار جدته التي لن تفضح أمره لحبها الشديد له.
وصل ابنا السلطان وعلم بمقدمهما الجميع وفرحوا لذلك وأطلقت المدافع، وأنزلت البضائع المتنوعة التي كانت على ظهر المراكب، وصناديق الذهب والفضة، وتوجه الشابان إلى ابيهما وعانقاه عناقا حارا بعد فراق طويل، وقدم له أحدهما ابنة التاجر المحتال على أنها زوجته لكنها خرساء.
في اليوم التالي علم السلطان بأن تاجرا من بلاد غريبة وصل إلى البلاد ويطلب مقابلته لأمر مهم، فأذن له فدخل التاجر وكان ملثما، سأله عن حاجته فقال التاجر الغريب إن له خادمين هربا منه والتجآ إلى قصر السلطان، فأمر بالبحث عنهما لكن من دون جدوى فلم يكن في المدينة غريب.
اعتذر السلطان للتاجر الغريب وقال له إنه لم يعثر على خادميه في المدينة، لكن التاجر الغريب فاجأ السلطان بقوله إنه يعلم بوجودهما فهما يقفان إلى جانبه.
صدم السلطان وقال للتاجر إنهما ابناه، وأصر التاجر وطلب الكشف على جسد الشابين لأنه ختمهما بخاتمه الذي يحمل اسمه، وبالفعل كشف عن الختمين وصدم السلطان بأن ما كتب على الختم هو اسم ولده المعاق.
استدعيت الزوجة فنطقت وحكت القصة بأكملها، فعنفهما الأب على فشلهما وعلى خيانتهما للأمانة ومحاولة قتل أخيهما الذي أنقذهما ومحاولة الاستيلاء على أمواله وزوجته.:42:
هوامش
* تشتهر هذه الحكاية في الإمارات باسم “لص البصرة” كما أن كثيراً من أحداثها تدور في البصرة، وهذا الشائع عند أغلب الرواة وفي أكثر من مكان مثل الشارقة، ورأس الخيمة، والذيد.
(1) في عامية الامارات كما في عامية باقي دول الخليج يسمى المعلم في تصنيع السفن “استاذ” وتجمع على “اساتيذ” أي معلمين، وهو بمثابة المهندس.
(2) القلافة: أو الجلافة بقلب القاف جيما هي حرفة صناعة السفن الخشبية في الخليج.
(3) البز: هو اللفظ الإماراتي الذي يعني سائر أنواع الأقمشة.
(4) بائع الحلوى في الإمارات يسمى “المحلوي”.

NSEEM ALEEL @nseem_aleel
محررة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.


الصفحة الأخيرة
يعطيك العافية