fraternity88

fraternity88 @fraternity88

عضوة فعالة

التبيان في أقسام القرآن(4)

ملتقى الإيمان

القسم في سورة المرسلات:
ومن ذلك قوله تعالى { والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا * والناشرات نشرا * فالفارقات فرقا * فالملقيات ذكرا * عذرا أو نذرا * إنما توعدون لواقع } فسرت المرسلات بالملائكة،وفسرت بالرياح،وفسرت بالسحاب،وفسرت بالأنبياء.
الله سبحانه يرسل الملائكة ويرسل الأنبياء ويرسل الرياح ويرسل السحاب فيسوقه حيث يشاء ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء فإرساله واقع على ذلك كله وهو نوعان : إرسال دين يحبه ويرضاه كإرسال رسله وأنبيائه وإرسال كون وهو نوعان : نوع يحبه ويرضاه كإرسال ملائكته في تدبير أمر خلقه ونوع لايحبه بل يسخطه ويبغضه كإرسال الشيطان على الكفار
فالإرسال المقسم به ههنا مقيد بالعرف فإما أن يكون ضد المنكر فهو إرسال رسله من الملائكة وأما إرسال الأنبياء فلو أريد لقال : والمرسلين وليس بالفصيح تسمية الأنبياء مرسلات وتكلف الجماعات المرسلات خلاف المعهود من استعمال اللفظ فلم يطلق في القرآن جمع ذلك إلا جمع تذكير لا جمع تأنيث وأيضا فاقتران اللفظة بما بعدها من الأقسام لا يناسب تفسيرها بالأنبياء وأيضا فإن الرسل مقسم عليهم في القرآن لا مقسم بهم كقولهم { تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك} وقوله { إنك لمن المرسلين}
وإن كان العرف من التابع - جاز أن تكون المرسلات الرياح ويؤيده عطف العاصفات عليه والناشرات وجاز أن تكون الملائكة وجاز أن يعم النوعين لوقوع الإرسال عرفا عليهما ويؤيده أن الرياح موكل بها ملائكة تسوقها وتصرفها ويؤيد كونها الرياح عطف العاصفات عليها بفاء التعقيب والتسبب فكأنها أرسلت فعصفت ومن جعل المرسلات الملائكة قال : هي تعصف في مضيها مسرعة كما تعصف الرياح و الأكثرون على أنها الرياح وفيها قول ثالث أنها تعصف بروح الكافر يقال عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه. وهو قول متكلف فإن المقسم به لا بد أن يكون آية ظاهره تدل على الربوبية وأما الأمور الغائبة التي يؤمن بها يقسم عليه وإنما يقسم سبحانه بملائكته وكتابه لظهور شأنهما ولقيام الأدلة والأعلام الظاهره الدالة على ثبوتهما
وأما { الناشرات نشرا } فهو استئناف قسم آخر ولهذا أتى به بالواو وما قبله معطوف على القسم الأول بالفاء. قال ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة : هي الرياح تأتي بالمطر ويدل على صحة قولهم قوله تعالى { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } يعني أنها تنشر السحاب نشرا وهو ضد الطي وقال مقاتل : هي الملائكة تنشر كتب بني آدم وصحائف أعمالهم وقاله مسروق وعطاء بن ابن عباس وقالت طائفة : هي الملائكة تنشر أجنحتها في الجو عند صعودها ونزولها وقيل : تنشر أوامر الله في الأرض والسماء وقيل : تنشر النفوس فتحييها بالإيمان وقال أبو صالح : هي الأمطار تنشر الأرض أي تحييها
قلت : ويجوز أن تكون الناشرات لازما لا مفعول له ولا يكون المراد أنهن نشرن كذا فإنه يقال : نشر الميت : حيى وأنشره الله إذا أحياه فيكون المراد بها الأنفس التي حييت بالعرف الذي أرسلت به المرسلات.
فإن الرياح سبب لنشور الأبدان والنبات والوحي سبب لنشور الأرواح وحياتها لكن هنا أمرا ينبغي التفطن له وهو أنه سبحانه جعل الأقسام في هذه السورة نوعين وفصل أحدهما من الآخر وجعل العاصفات معطوفا على المرسلات بفاء التعقيب فصارا كأنهما نوع واحد ثم جعل الناشرات كأنه قسم مبتدأ فأتى فيه بالواو ثم عطف عليه الفارقات والملقيات بالفاء فأوهم هذا أن الفارقات والملقيات مرتبط بالناشرات وأن العاصفات مرتبط بالمرسلات.
وقد اختلف في الفارقات والأكثرون على أنها الملائكة ويدل عليه عطف الملقيات ذكرا عليها بالفاء وهي الملائكة بالاتفاق
وعلى هذا فيكون القسم بالملائكة التي تنشر أجنحتها عند النزول ففرقت بين الحق والباطل فألقت الذكر على الرسل إعذارا وإنذارا.
ومن جعل الناشرات الرياح جعل الفارقات صفة لها وقال : هي تفرق السحاب ههنا وههنا ولكن يأبى ذلك عطف الملقيات بالفاء عليها ومن قال : الفارقات أي القرآن يفرق بين الحق والباطل فقوله يلتئم مع كون الناشرات الملائكة أكثر من التئامه إذا قيل : إنها الرياح ومن قال : هي جماعات الرسل فإن أراد الرسل من الملائكة فظاهر.
ويظهر - والله أعلم بما أراد من كلامه - أن القسم في هذه الآية وقع على النوعين : الرياح والملائكة ووجه المناسبة أن حياة الأرض والنبات وأبدان الحيوان بالرياح فإنها من روح الله وقد جعلها الله تعالى نشورا وحياة القلوب والأرواح بالملائكة فبهذين النوعين يحصل نوعا الحياة ولهذا - والله أعلم - فصل أحد النوعين من الآخر بالواو وجعل ما هو تابع لكل نوع بعده بالفاء
وتأمل كيف وقع القسم في هذه السورة على المعاد والحياة الدائمة الباقية وحال السعداء والأشقياء فيها وقررها بالحياة الأولى في قوله { ألم نخلقكم من ماء مهين } فذكر فيها المبدأ والمعاد وأخلص السورة لذلك فحسن الأقسم بما يحصل من نوعا الحياة المشاهدة وهو الرياح والملائكة فكان في القسم بذلك أبين دليل وأظهر آية على صحة ما أقسم عليه وتضمنته السورة ولهذا كان المكذب بعد ذلك في غاية الجحود والعناد والكفر فاستحق الويل بعد الويل فتضاعف عليه الويل كما تضاعف منه الكفر والتكذيب.
القسم في سورة القيامة:
ومن ذلك قوله تعالى { لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة } وقد تقدم ذكر هذين القسمين ومناسبة الجمع بينهما في الذكر وكون الجواب غير مذكور وأنه يجوز أن يكون مما حذف لدلالة السياق عليه والعلم به ويجوز أن يكون من القسم المقصود به التنبيه على دلالة المقسم به وكونه آية ولم يقصد به مقسما عليه معينا فكأنه يقول : اذكر يوم القيامة والنفس اللوامة مقسما بها لكونها من آياتنا وأدلة ربوبيتنا
ثم أنكر على الإنسان بعد هذه الآية حسبانه وظنه أن الله لا يجمع عظامه بعدما فرقها البلى ثم أخبر سبحانه عن قدرته على جمع غيرها من عظامه وعلى هذا فيكون سبحانه قد احتج على فعله لما أنكره أعداؤه بقدرته عليه وأخبر عن فعله بأنه لا يلزمهم من القدرة ووقوع المقدور والمعنى : بل نجمعها قادرين على تسوية بنانه ودل على هذا المعنى المحذوف قوله ( بلى ) فإنها حرف إيجاب لما تقدم من النفي فلهذا يستغنى عن ذكر الفعل بذكر الحرف الدال عليه فدلت الآية على الفعل وذكرت القدرة لإبطال قول المكذبين
وفي ذكر البنان لطيفة أخرى وهي أنها أطرافه وآخر ما يتم به خلقه فمن قدر على جمع أطرافه وآخر ما يتم به خلقه مع دقتها وصغرها ولطافتها فهو على مادون ذلك أقدر.
فالقوم لما استبعدوا جمع العظام بعد الفناء و الإرمام قيل إنا نجمع ونسوى أكثرها تفرقا وأدقها أجزاء وآخر أطراف البدن وهي عظام الأنامل ومفاصلها
وقالت طائفة : المعنى نحن قادرون على أن نسوى أصابع يديه ورجليه ونجعلها مستوية شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار لا نفرق بينهما ول أيمكنه أن يعمل بها شيئا مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال والبسط والقبض والتأتي لما يريد من الحوائج وهذا قول ابن عباس وكثير من المفسرين والمعنى على هذا القول : إنا في الدنيا قادرون على أن نجعل عظام بنانه مجموعة دون تفرق فكيف لا نقدر على جمعها بعد تفريقها
فهذا وجه من الاستدلال غير الأول وهو الاستدلال بقدرته سبحانه على جمع العظام التي فرقها ولم يجمعها والأول استدلال بقدرته سبحانه على جمع عظامه بعد تفريقها وهما وجهان حسنان وكل منهما له ترجيح من وجه فيرجح الأول أنه هو المقصود وهو الذي انكره الكفار وهو إجراء على نسق الكلام وأطراده و لأن الكلام لم يسق لجمع العظام وتفريقها في الدنيا وإنما سبق لجمعها في الآخرة بعد تفرقها بالموت ويرجح القول الثاني - ولعله قول جمهور المفسرين حتى أن فيهم من لم يذكر غيره - وأنه استدلال بآية ظاهرة مشهورة وهي تفريق البنان مع انتظامها في كف واحد وارتباط بعضها ببعض فهي متفرقة في عضو واحد يقبض منها واحدة ويبسط أخرى ويحرك واحدة والأخرى ساكنة ويعمل بواحدة والأخرى معطلة وكلها في كف واحد قد جمعها ساعد واحد فلو شاء سبحانه لسواها فجعلها صفة واحدة كباطن الكف ففاته هذه المنافع والمصالح التي حصلت بتفريقها ففي هذا أعظم الأدلة على قدرته سبحانه على جمع عظامه بعد الموت
ثم أخبر سبحانه عن سوء حال الإنسان وإصراره على المعصية والفجور وأنه لا يرعوي ولا يخاف يوما يجمع الله فيه عظامه و يبعثه حيا بل هو مريد للفجور ما عاش فيفجر في الحال ويريد الفجور في غد وما بعده وهذا ضد الذي يخاف الله والدار الآخرة فهذا لا يندم على ما مضى منه ولا يقلع في الحال ولا يعزم في المستقبل على الترك بل هو عازم على الاستمرار وهذا ضد التائب المنيب
ثم نبه سبحانه على الحامل له على ذلك وهو استبعاده ليوم القيامة وليس هذا استبعادا لزمنه مع إقراره بوقوعه بل هو استبعاد لوقوعه كما حكى عنه في موضع آخر قوله { ذلك رجع بعيد } أي بعيد وقوعه.
قال ابن عباس : يقدم الذنب ويؤخر التوبة وقال قتادة : وعكرمة : قدما في معاصي الله لا ينزع عن فجوره .
وفي الآية قول آخر وهو أن المعنى بل يريد الإنسان ليكذب بما أمامه عن البعث ويوم القيامة
ودليل ذلك قوله { يسأل أيان يوم القيامة } ويرجع هذا القول لفظه ( بل ) فإنها تعطى أن الإنسان لم يؤمن بيوم القيامة مع هذا البيان والحجة بل هو مريد للتكذيب به ويرجحه أيضا أن السياق كله في ذم المكذب بيوم القيامة لا في ذم العاصي والفاجر وأيضا فإن ما قبل الآية وما بعدها يدل على المراد فإنه قال { أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوي بنانه } فأنكر سبحانه عليه حسبانه أن الله لا يجمع عظامه ثم قرر قدرته على ذلك ثم أنكر عليه إرادة التكذيب بيوم القيامة فالأول حسبان منه أن لا يحييه بعد موته والثاني تكذيب منه بيوم البعث وأنه يريد أن يكذب بما وضح وبان دليل وقوعه وثبوته فهو مريد للتكذيب به ثم أخبر عن تصريحه بالتكذيب فقال { يسأل أيان يوم القيامة } فالأول إرادة التكذيب والثاني نطق بالتكذيب وتكلم به وهذا قول قوي كما ترى لكن ينبغي إفراغ هذه الألفاظ في قوالب هذا المعنى فإن لفظة ( يفجر ) إنما تدل على عمل الفجور لا على التكذيب وحذف الموصول مع ما جره وإبقاء الصلة خلاف الأصل فإن أصاب هذا القول قالوا تقديره ليكفر بما أمامه وهذا المعنى صحيح لكن دلالة هذا اللفظ عليه ليست بالبينة
فالجواب أن الأمر كذلك لكن الفعل إذا ضمن معنى فعل آخر لم يلزم إعطاءه حكمه من جميع الوجوه بل من جلالة هذه اللغة العظيمة الشأن وجزالتها أن يذكر المتكلم فعلا وما يضمنه معنى فعل آخر ويجري على المضمن أحكامه لفظا وأحكام الفعل الآخر معنى فيكون في قوة ذكر الفعلين مع غاية الاختصار ومن تدبر هذا وجده كثيرا في كلام الله تعالى
فلفظ ( يفجر ) اقتضت ( أمامه ) بلا واسطة حرف ولا اسم موصول فأعطيت ما اقتضته لفظا واقتضى ما تضمنه الفعل من ذكر الحرف والموصول فأعطيته معنى فهذا وجه هذا القول لفظا ومعنى والله أعلم
ثم أخبر سبحانه عن حال هذا الإنسان إذا شاهد اليوم الذي كذب به فقال { فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر * يقول الإنسان يومئذ أين المفر } فبرق بصره أي يشخص بما يشاهده من العجائب التي كان يكذب بها وخسف القمر ذهب ضوءه وانمحى وجمع الشمس والقمر ولم يجتمعا قبل ذلك بل يجمعهما الذي يجمع عظام الإنسان بعدما فرقها البلى ومزقها ويجمع للإنسان يومئذ جميع عمله الذي قدمه وأخره من خير أو شر ويجمع ذلك من جمع القرآن في صدر رسوله ويجمع المؤمنين في دار الكرامة فيكرم وجوههم بالنظر إليه ويجمع المكذبين في دار الهوان وهو قادر على ذلك كله
فكيف ( أنكر ) هذا الإنسان أن يجمع بينه وبين عمله وجزائه وأن يجمع مع بني جنسه ليوم الجمع وأن يجمع عليه بين أمر الله ونهيه وعبوديته فلا يترك سدى مهملا معطلا لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب.
فما أجمع هذه السورة لمعان الجمع والضم وقد افتتحت بالقسم بيوم القيامة الذي يجمع الله فيه بين الأولين والآخرين وبالنفس اللوامة التي اجتمع فيها همومها وغمومها وإرادتها واعتقاداتها وتضمنت ذكر المبدأ والمعاد والقيامة الصغرى والكبرى وأحوال الناس في المعاد وانقسام وجوههم إلى ناظرة منعمة و باسرة معذبة وتضمنت وصف الرياح بأنها جسم ينتقل من مكان إلى مكان فتجمع من تفاريق البدن حتى تبلغ التراق ويقول الحاضرون ( من راق ؟ ) أي من يرقى من هذه العلة التي أعيت على الحاضرين أي التمسوا له من يرقيه والرقية آخر الطب وقيل : من يرقى بها ويصعد أملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ؟ فعلى الأول تكون من رقى يرقى كرمى يرمى وعلى الثاني من رقى يرقى كشقى يشقى ومصدره الرقاء ومصدر الأول الرقية والقول الأول أظهر لوجوه
( أحدها ) أنه ليس كل ميت يقول حاضروه من يرقى بروحه وهذا إنما يقوله من يؤمن برقي الملائكة بروح الميت.
( الثاني ) أن الروح إنما يرقى بها الملك بعد مفارقتها وحينئذ يقال من يرقى بها وأما قبل المفارقة فطلب الرقية للمريض من الحاضرين أنسب من طلب علم من يرقى بها إلى الله ( الثالث ) أن فاعل الرقية يمكن العلم به فيحسن السؤال عنه ويفيد السامع وأما الراقي إلى الله فلا يمكن العلم بتعيينه حتى يسأل عنه و ( من ) إنما يسأل بها عن تعيين ما يمكن السائل أن يصل إلى العلم بتعيينه
( الرابع ) أن مثل هذا السؤال إنما يراد به تحضيض وإثارة اهتمام إلى فعل يقع بعد من نحو قوله { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وفعل الراقي إلى الله لا يحسن فيه واحد من الأمرين هنا بخلاف فاعل الرقية فإنه يحسن فيه الأول ( الخامس ) أن هذا خرج على عادة العرب وغيرهم في طلب الرقية لمن وصل إلى مثل تلك الحال فحكى الله سبحانه ما جرت عادتهم بقوله وحذف فاعل القول لأنه ليس الغرض متعلقا بالقائل بل بالقول ولم تجر عادة المخاطبين بأن يقولوا من يرقى بروحه فكان حمل الكلام على ما ألف وجرت العادة بقوله أولى إذ هو تذكير لهم بما يشاهدونه ويسمعونه
( السادس ) أنه لو أريد هذا المعنى لكان وجه الكلام أن يقال من هو الراقي ومن الراقي ولا وجه للكلام غير ذلك.
( السابع ) إن كلمة من إنما يسأل بها عن التعيين كما يقول : من الذي فعل كذا ومن ذا الذي قاله فيعلم أن فاعلا وقائلا فعل وقال ولا يعلم تعيينه فيسأل عن تعيينه بمن تارة وبأي تارة وهم لم يسألوا عن تعيين الملك الراقي بالروح إلى الله.
( الثامن ) أن الآية إنما سيقت لبيان يأسه من نفسه ويأس الحاضرين معه وتحقق أسباب الموت وأنه قد حضر ولم يبق شيء ينجع فيه ولا مخلص منه بل هو قد ظن أنه مفارق لا محالة.
التاسع ) أن مثل هذا إنما يراد به النفي والاستبعاد : وهو أحد التقديرين فهو استبعاد لنفي الرقية لا طلب لوجود الراقي كقوله { قال من يحيي العظام وهي رميم } أي لا أحد يحييها وقد صارت إلى هذه الحال فإن أريد بها هذا المعنى استحال أن يكون من الرقي وإن أريد بها الطلب استحال أيضا أن يكون منه وقد بينا أنها في مثل هذا إنما تستعمل للطلب أو للإنكار وحينئذ أن يراد به طلب الفعل أو طلب التعيين ولا سبيل إلى حمل واحد من هذه المعاني على الرقي لما بيناه والله أعلم.
ومن أسرار هذه السورة أنه سبحانه جمع فيها لأوليائه بين جمال الظاهر والباطن : فزين وجوههم بالنضرة و بواطنهم بالنظر إليه فلا أجمل لبواطنهم ولا أنعم ولا أحلى - من النظر إليه ولا أجمل لظواهرهم من نضرة الوجه وهي إشراقه وتحسينه وبهجته وهذا كما قال في موضع آخر { ولقاهم نضرة وسرورا }
وينظر إلى هذا المعنى ويناسبه قوله { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } فقابل بين الجوع والعرى لأن الجوع ذل الباطن والعرى ذل الظاهر.
ومن أسرارها أنها تضمنت إثبات قدرة الرب على ما علم أنه لا يكون ولا يفعله وهذا على أحد القولين في قوله { بلى قادرين على أن نسوي بنانه } فأخبر أنه قادر عليه ولم يفعله ولم يرده وأصرح من هذا قوله تعالى { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون } وهذا أيضا على أحد القولين أي تغور العيون في الأرض فلا يقدر على الماء، فلا يقدر على الماء قال ابن عباس : يريد أن سيغيض فيذهب فلا يكون من هذا الباب بل يكون من باب القدرة على ما سيفعله وأصرح من هذين الموضعين قوله تعالى { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم } وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال عند نزول هذه الآية أعوذ بوجهك.
ولكن قد ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه لابد أنه لابد أن يقع في أمته خسف ولكن لا يكون عاما وهذا عذاب من تحت الأرجل وروى أنه كان في الأمة قذف أيضا وهذا عذاب من فوق فيكون هذا من باب الإخبار بقدرته على ما سيفعله وإن أريد به القدرة على عذاب الاستئصال فهو من القدرة على مالا يريده وقد صرح سبحانه بأنه لو شاء لفعل ما لم يفعله في غير موضع من كتابه كقوله { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } وقوله { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } ونظائره وهذا مما لا خفاء فيه بين أهل السنة وبه تبين فساد قول من قال : إن القدرة لا تكون إلا مع الفعل لا قبل وأن الصواب التفصيل بين القدرة الموجبة والمصححة فنفي القدرة عن الفاعل قبل الملابسة مطلقا خطأ والله أعلم.
ومن أسرارها أنها تضمنت التأني والتثبت في تلقي العلم وأن لا يحمل السامع شدة محبته وحرصه وطلبه على مبادرة المعلم بالأخذ قبل فراغه من كلامه بل من آداب الرب التي أدب بها نبيه صلى الله عليه و سلم أمره بترك الاستعجال على تلقي الوحي بل يصبر إلى أن يفرغ جبريل من قراءته ثم يقرأه بعد فراغه عليه فهكذا ينبغي لطالب العلم ولسامعه أن يصبر على معلمه حتى يقضي كلامه ثم يعيده عليه أو يسأل عما أشكل عليه منه ولا يبادره قبل فراغه
وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في ثلاثة مواضع من كتابه هذا أحدها والثاني قوله { وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا * فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما } والثالث قوله { سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله } فضمن لرسوله أن لا ينسى ما أقرأه إياه وهذا يتناول القراءة وما بعدها
وقد ذم الله سبحانه في هذه السورة من يؤثر العاجلة على الآجلة وهذا لاستعجاله بالتمتع بما يفنى وإيثاره ما يبقى و رتب كل ذم ووعيد في هذه السورة على هذا الاستعجال ومحبة العاجلة فإرادته أن يفجر أمامه هو من استعجاله وحب العاجلة وتكذيبه بيوم القيامة من فرط حب العاجلة وإيثاره لها واستعجاله بنصيبه وتمتعه به قبل أوانه ولولا حب العاجلة وطلب الاستعجال لتمتع به في الآجلة أكمل ما يكون وكذلك تكذيبه وتوليه وترك الصلاة هو من استعجاله ومحبته العاجلة والرب سبحانه وصف نفسه بضد ذلك فلم يعجل على عبده بل أمهله إلى أن بلغت الروح التراقي وأيقن بالموت وهو إلى هذه الحال مستمر على التكذيب والتولي والرب تعالى لا يعاجله بل يمهله ويحدث له الذكر شيئا بعد شيء ويصرف له الآيات ويضرب له الأمثال وينبهه على مبدئه : من كونه نطفة من منى يمني ثم علقة ثم خلقا سويا فلم يعجل عليه بالخلق وهلة واحدة ولا بالعقوبة إذ كذب خبره وعصى أمره بل كان خلقه وأمره وجزاؤه بعد تمهيل وتدريج وأناة ولهذا ذم الإنسان بالعجلة بقوله : { وكان الإنسان عجولا }
ومن أسرارها أن إثبات النبوة والمعاد يعلم بالعقل وهذا أحد القولين لأصحابنا وغيرهم
فإن الله سبحانه أنكر على من حسب أنه يترك سدى فلا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب ولم ينف سبحانه ذلك بطريق الخير المجرد بل نفاه نفي مالا يليق نسبته إليه ونفي منكر على من حكم به وظنه ثم استدل سبحانه على فساد ذلك وبين أن خلقه الإنسان في هذه الأطوار وتنقله فيها طورا بعد طور حتى بلغ نهايته - يأبى أن يتركه سدى فإنه ينزه عن ذلك كما ينزه عن العبث والعيب والنقص
وهذه طريقة القرآن في غير موضع كماقال تعالى { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم } فجعل كماله ملكه وكونه سبحانه الحق وكونه لا إله إلا هو وكونه رب العرش المستلزم لربوبيته لكل مادونه - مبطلا لذلك الظن الباطل والحكم الكاذب وإنكار هذا الحسبان عليهم مثل إنكاره عليهم حسبانهم أنه لا يسمع سرهم ونجواهم وحسبان أنه لايراهم ولايقدر عليهم وحسبان أن يسوي بين أوليائه وبين أعدائه في محياهم ومماتهم وغير ذلك مما هو منزه عنه
ولو كن نفي تركه سدى إنما يعلم بالسمع المجرد لم يقل بع ذلك { ألم يك نطفة } إلى آخره ومما يدل أن تعطيل أسمائه وصفاته ممتنع وكذلك تعطيل موجبها ومقتضاها فإن ملكه الحق يستلزم أمره ونهيه وثوابه وعقابه وكذلك يستلزم إرسال رسله وإنزال كتبه وبعث المعاد ليوم يجزى فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فمن أنكر ذلك فقد أنكر حقيقة ملكه ولم يثبت له الملك الحق ولذلك كان منكر ذلك كافرا بربه وإن زعم أنه يقر بصانع العالم.
فلم يؤمن بالملك الحق الموصوف بصفات الجلال والمستحق لنعوت الكمال كما أن المعطل لكلامه وعلوه على خلقه لم يؤمن به سبحانه فإنه آمن برب لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى و لا يصعد إليه قول ولا عمل ولا ينزل من عنده ملك ولا أمر ولانهي ولاترفع إليه الأيدي ومعلوم أن هذا النفي آمن به رب مقدر في ذهنه ليس هو رب العالمين وإله المرسلين
وكذلك إذا اعتبرت اسمه الحي وجدته مقتضيا لصفات كماله من علمه وسمعه وبصره وقدرته وإرادته ورحمته وفعله ما يشاء واسمه القيوم مقتض لتدبير أمر العالم العلوي والسفلي وقيامه بمصالحه وحفظ له فمن أنكر صفات كماله لم يؤمن بأنه الحي القيوم .
1
553

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

حكايه صبر
حكايه صبر
ღإلهيღ♥ღ
إرفع للغاليه ذكرا وأصلح لها أمرا وأغفر لها وزرا وأطل لها عمرا واشرح لها صدرا ولا تريها
ذعرا....
ღ♥ღواملأღ♥ღ
قلبها صبرا ولسانها شكرا واجعل لها من كل عسرا يسرا وزدها إيمانا ووقارا وسعادة
ثم
ღ♥ღإخلاصا
وستراღ♥ღ