ومن ذلك قوله تعالى ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى ) أقسم سبحانه بالنجم عند هويه على تنزيه رسوله وبراءته مما نسبه إليه أعداؤه من الضلال والغي
واختلف الناس في المراد بالنجم فقال الكلبي عن ابن عباس أقسم بالقرآن إذا نزل نجما على رسوله أربع آيات وثلاثا والسورة وكان بين أوله وآخره عشرون سنة
وعلى هذا فسمي القرآن منجما لتفرقه في النزول والعرب تسمي التفرق تنجما والمفرق نجما ونجوم الكتاب أقساطها ويقول جعلت مالي على فلان نجوما منجمة
والنجم إذا هوى وقال ابن عباس يعني الثريا إذا سقطت وغابت وهو الرواية الأخرى عن مجاهد
والعرب إذا أطلقت النجم تعني به الثريا
وقال أبو حمزة اليماني يعني النجوم إذا انتشرت يوم القيامة وقال ابن عباس في رواية يعني النجوم التي ترمى بها الشياطين إذا سقطت في آثارها عند استراق السمع وهذا قول الحسن وهو أظهر الأقوال ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التي نصبها الله سبحانه آية وحفظا للوحي من استراق الشياطين له على: أن ما أتى به رسوله حق وصدق لا سبيل للشيطان ولا طريق له إليه بل قد أحرس بالنجم إذا هوى رصدا بين يدي الوحي وحرسا له وعلى هذا فالارتباط بين المقسم به والمقسم عليه في غاية الظهور وفي المقسم به دليل على المقسم عليه.
وبين المقسم به والمقسم عليه من التناسب مالا يخفى فإن النجوم التي ترمي الشياطين آيات من آيات الله يحفظ بها دينه ووحيه وآياته المنزلة على رسوله.
وجعلت هذه النجوم المشاهدة خدما وحرسا لهذه النجوم الهاوية ونفى سبحانه عن رسوله الضلال المنافي للهدى والغي المنافي للرشاد ففي ضمن هذا النفي الشهادة له بأنه على الهدى والرشاد فالهدى في علمه والرشاد في علمه وهذان الأصلان هما غاية كمال العبد وبهما سعادته وفلاحه وبهما وصف النبي خلفاءه فهم الراشدون المهديون من بعده .
فالراشد ضد الغاوي والمهدي ضد الضال
فالناس أربعة اقسام ضال في علمه غاو في قصده وعلمه وهؤلاء شرار الخلق وهم مخالفوا الرسل
الثاني مهتد في علمه غاو في قصده وعمله وهؤلاء هم الأمة الغضبية ومن تشبه بهم وهو حال كل من عرف الحق ولم يعمل به .
الثالث ضال في علمه ولكن قصده الخير وهو لا يشعر .
الرابع مهتد في علمه راشد في قصده وهؤلاء ورثة الأنبياء وهم وإن كانوا الأقلين عددا فهم الأكثرون عند الله قدرا وهم صفوة الله من عباده وحزبه من خلقه .
وتأمل كيف قال سبحانه ( ما ضل صاحبكم ) ولم يقل ما ضل محمد تأكيدا لإقامة الحجة عليهم بأنه صاحبهم وهم أعلم الخلق به وبحاله وأقواله وأعماله وأنهم لا يعرفونه بكذب ولا غي ولا ضلال
ثم قال سبحانه ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ينزه نطق رسوله أن يصدر عن هوى
ولم يقل وما ينطق بالهوى لأن نطقه عن الهوى أبلغ فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به فتضمن نفي الأمرين نفي الهوى عن مصدر النطق ونفيه عن نفسه فنطقه بالحق ومصدره الهدى والرشاد لا الغي والضلال.
ثم قال ( إن هو إلا وحي يوحى ) أي ما نطقه إلا وحي يوحى.
ثم أخبر تعالى عن وصف من علمه الوحي والقرآن فقال سبحانه ( علمه شديد القوى ) هو جبريل عليه السلام، وهذا نظير قوله ( ذي قوة عند ذي العرش ) وذكرنا هناك السر في وصفه بالقوة
وقوله ذو مرة أي جميل المنظر حسن الصورة ذو جلالة ليس شيطانا اقبح خلق الله وأشوههم صورة بل هو من أجمل الخلق وأقواهم وأعظمهم أمانة ومكانة عند الله وهذا تعديل لسند الوحي والنبوة وتزكية له وهذه كانت أوصاف الرسول البشري والملكي فكان رسول الله أشجع الناس وأعلمهم وأجملهم وأجلهم والشياطين وتلامذتهم بضد من ذلك فهم أقبح الخلق صورة ومعنى وأجهل الخلق.
ثم ذكر استواء هذا المعلم بالأفق الأعلى ودنوه وتدليه وقربه من رسول الله وإيحاء الله ما أوحى فصور سبحانه لأهل الإيمان صورة الحال من نزول جبريل من عنده إلى أن استوى بالأفق ثم دنى وتدلى وقرب من رسوله فأوحى إليه ما أمره الله بإيحائه حتى كأنهم يشاهدون صورة الحال ويعاينونها هابطا من السماء إلى أن صار بالأفق الأعلى مستويا عليه ثم نزل وقرب من محمد وخاطبه بما أمره الله به قائلا ربك يقول لك كذا وكذا وأخبر سبحانه عن مسافة هذا القرب بأنه قدر قوسين أو أدنى من ذلك وليس هذا على وجه الشك بل تحقيق لقدر المسافة وأنها لا تزيد عن قوسين البتة كما قال تعالى ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) تحقيق لهذا العدد وأنهم لا ينقصون عن مائة ألف رجل واحدا ونظيره قوله ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو اشد قسوة ) أي لا تنقص قسوتها عن قسوة الحجارة بل إن لم تزد على قسوة الحجارة.
ثم أخبر تعالى عن تصديق فؤاده لما رأته عيناه وأن القلب صدق العين وليس كمن رأى شيئا على خلاف ما هو به فكذب فؤاده بصره بل ما رآه ببصره صدقه الفؤاد وعلم أنه كذلك وفيها قراءتان إحداهما بتخفيف كذب والثانية بتشديدها
ثم أخبر سبحانه عن رؤيته لجبريل مرة أخرى عند سدرة المنتهى فالمرة الأولى كانت دون السماء بالأفق الأعلى والثانية كانت فوق السماء عند سدرة المنتهى وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رآه على صورته التي خلق عليها مرتين كما في الصحيحين عن زر بن حبيش أنه سئل عن قوله تعالى ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) قال أخبرني ابن مسعود أن النبي رأى جبريل له ستمائة جناح وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن مسعود ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ( ولقد رآه نزلة أخرى ) قال رأى جبريل عليه السلام.
وفي صحيحه أيضا عن مسروق قال كنت متكئا عند عائشة فقالت ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية قلت ما هن قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية قال وكنت متكئا فجلست فقلت يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله عز وجل ( ولقد رآه بالأفق المبين ) ( ولقد رآه نزلة ) أخرى فقالت أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله فقال إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته متهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض فقالت أولم تسمع أن الله عز وجل يقول ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) أولم تسمع أن الله عز وجل يقول ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ) قالت ومن زعم أن محمدا كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية والله عز وجل يقول ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) قالت ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله عز وجل يقول ( قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ) ولو كان محمد كاتما شيئا مما أنزل عليه لكتم هذه الآية ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) وفي الصحيحين عن مسروق أيضا قال سألت عائشة رضي الله عنها هل رأى محمد ربه فقالت سبحان الله لقد وقف شعري مما قلت وفيهما أيضا قال قلت لعائشة فأين قوله عز وجل ( ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ) قالت إنما ذاك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد الأفق وفي صحيح مسلم بأن أبا ذر سأله هل رأيت ربك فقال نور أني أراه وفي صحيح مسلم أيضا من حديث أبي موسى الأشعري قال قام فينا رسول الله بخمس كلمات فقال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه
ولا ينافي هذا قوله في حديث الصحيح حديث الرؤية يوم القيامة فيكشف الحجاب فينظرون إليه فقوله عز وجل ( لا تدركه الأبصار ) على عمومه وإطلاقه في الدنيا والآخرة ولا يلزم من ذلك أن لا يرى بل يرى في الآخرة بالابصار من غير إدراك وإذا كانت أبصارنا لا تقوم لإدراك الشمس على ما هي عليه وإن رأتها مع القرب الذي بين المخلوق والمخلوق فالتفاوت الذي بين أبصار الخلائق وذات الرب جل جلاله أعظم وأعظم ولهذا لما حصل للجبل أدنى شيء من تجلي الرب تسافى الجبل واندك وفي الحديث الصحيح المرفوع جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا راد الكبرياء على وجهه في جنة عدن فهذا يدل أن رداء الكبرياء على وجهه تبارك وتعالى هو المانع من رؤية الذات ولا يمنع من أصل الرؤية فإن الكبرياء والعظمة أمر لازم لذاته تعالى فإذا تجلى سبحانه لعباده يوم القيامة وكشف الحجاب بينهم وبينه فهو الحجاب المخلوق وأما أنوار الذات الذي يحجب عن إدراكها فذاك صفة للذات لا تفارق ذات الرب جل جلاله .
والمقصود أن المخبر عنه بالرؤية في سورة النجم هو جبريل.
وأما قول ابن عباس رأى محمد ربه بفؤاده مرتين فالظاهر أن مستنده هذه الآية وقد تبين أن المرئي فيها جبريل فلا دلالة فيها على ما قاله ابن عباس.
أما حديث ثوبان ومعاذ أن رسول الله قال رأيت ربي البارحة في أحسن صورة. وقد قال رسول الله قال في حديث أبي ذر إنه لم ير ربه وقال رسول الله لن تروا ربكم حتى تموتوا وقالت عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية وأجمع المسلمون على ذلك مع قول الله ( لا تدركه الأبصار ) :يعنون أبصار أهل الدنيا وإنما هذه الرؤية كانت في المنام، يمكن رؤية الله على كل حال كذلك.
وروى معاذ بن جبل عن النبي أنه قال صليت ما شاء الله من الليل ثم وضعت جنبي فأتاني ربي في أحسن صورة فهذا تأويل هذا الحديث عند أهل العلم.
وقوله تعالى ( ما زاغ البصر وما طغى ) قال ابن عباس ما زاغ البصر يمينا ولا شمالا ولا جاوز ما أمر به وعلى هذا المفسرون فنفى عن نبيه ما يعرض للرائي الذي لا أدب له بين يدي الملوك والعظماء من التفاته يمينا وشمالا ومجاوزة بصره لما بين يديه وأخبر عنه بكمال الأدب في ذلك المقام وفي تلك الحضرة إذ لم يلتفت جانبا ولم يمد بصره إلى غير ما أرى من الآيات.
بل قام مقام العبد الذي أوجب أدبه وإطراقه وإقباله على ما أرى دون التفاته إلى غيره ودون تطلعه إلى ما لم يره مع ما في ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته وهذا غاية الكمال.
وزيغ البصر التفاته جانبا وطغيانه مده أمامه إلى حيث ينتهي. فنزه في هذه السورة علمه عن الضلال وقصده وعمله عن الغي ونطقه عن الهوى وفؤاده عن تكذيب بصره وبصره عن الزيغ والطغيان.
ولما ذكر رؤيتة لجبريل عند سدرة المنتهى استطرد منها وذكر أن جنة المأوى عندها وأنه يغشاها من أمره وخلقه ما يغشى وهذا من أحسن الاستطراد وهو أسلوب لطيف جدا في القرآن وهو نوعان:
أحدهما أن يستطرد من الشيء إلا لازمه مثل هذا ومثل قوله ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ) ثم استطرد من جوابهم إلى قوله ( الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فانشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ) وهذا ليس من جوابهم ولكن تقرير له وإقامة الحجة عليهم.
والنوع الثاني أن يستطرد من الشخص إلى النوع كقوله ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ) إلى آخره فالأول آدم والثاني بنوه.

fraternity88 @fraternity88
عضوة فعالة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

**بيبـــــو**
•
جزاك الله خير

ومن ذلك قوله تعالى ( والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع ) تضمن هذا القسم خمسة أشياء وهي مظاهر آياته وقدرته وحكمته الدالة على ربوبيته ووحدانيته فالطور هو الجبل الذي كلم الله عليه نبيه وكليمه موسى بن عمران عند جمهور المفسرين من السلف والخلف وعرفه ههنا باللام وعرفه في موضع آخر بالإضافة فقال وطور سينين وهذا الجبل مظهر بركة الدنيا والآخرة وهو الجبل الذي اختاره الله لتكليم موسى عليه.
الثاني الكتاب المسطور في الرق المنشور واختلف في هذا الكتاب فقيل هو اللوح المحفوظ وهذا غلط فإنه ليس برق وقيل هو الكتاب الذي تضمن أعمال بني آدم وقال مقاتل تخرج إليهم أعمالهم يوم القيامة في رق منشور وهذا وإن كان أقوى وأصح من القول الأول واختاره جماعة من المفسرين ومنهم من لم يزك غيره فالظاهر أن المراد به الكتاب المنزل من عند الله وأقسم الله به لعظمته وجلالته وما تضمنه من آيات ربوبيته وأدلة توحيده وهداية خلقه.
ثم قيل هو التوراة التي أنزل الله على موسى. ولكن التوراة إنما أنزلت في الواح لا في رق إلا أن يقال هي في رق في السماء وأنزلت في ألواح وقيل هو القرآن ولعل هذا أرجح الأقوال لأنه سبحانه وصف القرآن بأنه في صحف مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة فالصحف هي الرق وكونه بأيدي سفرة هو كونه منشورا وعلى هذا فيكون قد أقسم بسيد الجبال وسيد الكتب ويكون ذلك متضمنا للنبوتين المعظمتين نبوة موسى ونبوة محمد وكثيرا ما يقرن بينهما وبين محلهما كما في سورة التين والزيتون
ثم أقسم بسيد البيوت وهو البيت المعمور وفي وصفه الكتاب بأنه مسطور تحقيق لكونه مكتوبا مفروغا منه وفي وصفه بأنه منشور إيذان بالاعتناء به وأنه بأيدي الملائكة منشور غير مهجور.
وأما البيت المعمور فالمشهور أنه الضراح الذي في السماء الذي رفع للنبي ليلة الإسراء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم وهو بحيال البيت المعمور في الأرض وقيل هو البيت الحرام ولا ريب أن كلا منهما معمور فهذا معمور بالملائكة وعبادتهم وهذا معمور بالطائفين والقائمين والركع والسجود وعلى كلا القولين فكل منهما سيد البيوت.
ثم أقسم سبحانه بمخلوقين عظيمين من بعض مخلوقاته وهما مظهر آياته وعجائب صنعته وهما السقف المرفوع وهو السماء فإنها من أعظم آياته قدرا وارتفاعا وسعة وسمكا ولونا وإشراقا وهي محل ملائكته وهي سقف العالم وبها انتظامه ومحل النيرين الذين بهما قوام الليل والنهار والسنين والشهور والأيام والصيف والشتاء والربيع والخريف ومنها تنزل البركات واليها تصعد الأرواح وأعمالها وكلماتها الطيبة
والثالث البحر المسجور وهو آية عظيمة من آياته وعجائبه لا يحصيها إلا الله واختلف في هذا البحر هل هو الذي فوق السموات أو البحر الذي نشاهده على قولين فقالت طائفة هو البحر الذي عليه العرش وبين أعلاه وأسفله مسيرة خمسمائة عام.وهذا القول في البحر الذي تحت العرش محكي عن علي بن أبي طالب .
والثاني أنه بحر الأرض واختلف في المسجور فقيل المملوء هذا قول جميع أهل اللغة. وكذا قال ابن عباس المسجورة الممتلئ وقال مجاهد المسجور الموقد قال الليث السجر إيقادك في التنور تسجره سجرا والسجر اسم الحطب وهذا قول الضحاك وكعب وغيرهما قال البحر يسجر فيزداد في جهنم وحكى هذا القول عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال مسجور قال الفراء وهذا يرجع إلى القول الأول لأنك تقول سجرت التنور إذا ملأته حطبا وروى ذو الرمة الشاعر عن ابن عباس أن المسجور اليابس الذي قد نضب ماؤه وذهب.
قال أبو زيد المسجور المملوء والمسجور الذي ليس فيه شيء جعله من الأضداد وقد روى عن ابن عباس أن المسجور المحبوس ومنه ساجور الكلب وهو القلادة من عود أو حديد تمسكه والمعنى على هذا أنه محبوس بقدرة الله أن يفيض على الأرض فيغرقها فإن ذلك مقتضى الطبيعة أن يكون الماء غامرا للأرض فوقها كما أن الهواء فوق الماء ولكن أمسكه الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا.
وهذا الموضع مما هدم أصول الملاحدة والدهرية فإنه ليس في الطبيعة ما يقتضي حبس الماء عن بعض جوانب الأرض مع كون كرة الماء عالية على كرة الأرض بالذات.
وأقوى الأقوال في المسجور أنه الموقد وهذا هو المعروف في اللغة من المسجور ويدل عليه قوله تعالى ( وإذا البحار سجرت ) قال علي وابن عباس أوقدت فصارت نارا ومن قال يبست وذهب ماؤها فلا يناقض كونها نارا موقدة وكذا من قال ملئت فإنها تملأ نارا .
وإذا اعتبرت أسلوب القرآن ونظمه ومفرداته رأيت اللفظة تدل على ذلك كله فإن البحر محبوس بقدرة الله ومملوء ماء ويذهب ماؤه يوم القيامة ويصير نارا فكل من المفسرين أخذ معنى من هذه المعاني والله أعلم
وأقسم سبحانه بهذه الأمور على المعاد والجزاء فقال ( إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع ) ولما كان الذي يقع قد يمكن دفعه أخبر سبحانه أنه لا دافع له وهذا يتناول أمرين أحدهما أنه لا دافع لوقوعه والثاني أنه لا دافع له إذا وقع .
ثم ذكر سبحانه وقت وقوعه فقال ( يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا ) والمور قد فسر بالحركة وفسر بالدوران وفسر بالتموج والاضطراب والتحقيق أنه حركة في تموج وتكفؤ وذهاب ومجيء ولهذا فرق بين حركة السماء وحركة الجبال فقال ( وتسير الجبال سيرا ) وقال ( وإذا الجبال سيرت ) من مكان إلى مكان وأما السماء فإنها تتكفأ وتموج وتذهب وتجيء قال الجوهري مار الشيء يمور مورا ترهيا أي تحرك وجاء وذهب كما تكفأ النخلة العيدانة أي الطويلة ومنه قوله ( يوم تمور السماء مورا ) قال الضحاك تموج موجا وقال أبو عبيدة والأخفش تكفأ وأنشد للأعشى
( كأن مشيتها من بيت جارتها % مور السحابة لا ريث ولا عجل ) .
ثم ذكر وعيد المكذبين بالمعاد والنبوة وذكر أعمالهم وعلومهم التي كانوا عليها وهي الخوض الذي هو كلام باطل واللعب الذي هو سعي ضائع فلا علم نافع ولا عمل صالح بل علومهم خوض بالباطل وأعمالهم لعب ولما كانت هذه العلوم والأعمال مستلزمة لدفع الحق بعنف وقهر أدخلوا جهنم وهم يدعون إليها دعا إي يدفع في أقفيتهم وأكتافهم دفعا بعد دفع فإذا وقفوا عليها وعاينوها وقفوا وقيل لهم ( هذه النار التي كنتم بها تكذبون ) وتقولون لا حقيقة لها ولا من أخبر بها صادق .
ثم يقال ( أفسحر هذا ) الآن كما كنتم تقولون للحق لما جاءتكم به الرسل أنه سحر وأنهم سحرة. فقيل لهم يومئذ ( اصبروا أو لا تصبروا ) كلاهما سواء عليكم لا يجدي عنكم الصبر ولا الجزع فلا الصبر يخفف عنكم حمل هذا العذاب ولا الجزع يعطف عليكم قلوب الخزنة ولا يستنزل لكم الرحمة ثم أعلموا بأن الرب تعالى لم يظلمهم بذلك وإنما هو نفس أعمالهم صارت عذابا.
فلم يجدوا من اقترانهم به بدا بل صارت عذابا لازما لهم كما كانت إرادتهم وعقائدهم الباطلة وأعمالهم القبيحة لازمة لهم ولزوم العذاب لأهله في النار بحسب لزوم تلك الإرادة الفاسدة والعقائد الباطلة وما يترتب عليها من الأعمال لهم في الدنيا فإذا زال ذلك اللزوم في وقت ما بضده وبالتوبة النصوح زوالا كليا لم يعذبوا عليه في الآخرة لأن أثره قد زال من قلوبهم وألسنتهم وجوارحهم ولم يبق له أثر يترتب عليه فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
ثم ذكر سبحانه أرباب العلوم النافعة والأعمال الصالحة والاعتقادات الصحيحة وهم المتقون فذكر مساكنهم وهم في الجنان وحالهم في المساكن وهو النعيم وذكر نعيم قلوبهم وراحتهم بكونهم ( فاكهين بما آتاهم ربهم ) والفاكه المعجب بالشيء المسرور المغتبط به وفعله فكه بالكسر يفكه فهو فكه وفاكه إذا كان طيب النفس والفاكه البال ومنه الفاكهة وهي المرح الذي ينشأ عن طيب النفس وتفكهت بالشيء إذا تمتعت به ومنه الفاكهة التي يتمتع بها.
والمقصود أنه سبحانه جمع لهم بين النعيمين نعيم القلب بالتفكه ونعيم البدن بالأكل والشرب والنكاح ووقاهم عذاب الجحيم فوقاهم مما يكرهون وأعطاهم ما يحبون جزاء وفاقا لأنهم تركوا ما يكره وأتوا بما يحب فكان جزاؤهم مطابقا لأعمالهم .
ثم أخبر عن دوام ذلك لهم بما أفهمه قوله هنيئا فإنهم لو علموا زواله وانقطاعه لنغص عليهم ذلك نعيمهم ولم يكن هناء لهم .
ثم ذكر مجالسهم وهيئاتهم فيها فقال ( متكئين على سرر مصفوفة ) وفي ذكر اصطفافها تنبيه على كمال النعمة عليهم بقرب بعضهم من بعض ومقابلة بعضهم بعضا كما قال تعالى ( متكئين عليها متقابلين ) فإن من تمام اللذة والنعيم أن يكون مع الإنسان في بستانه ومنزله من يحب معاشرته ويؤثر قربه ولا يكون بكون بعيدا منه بل سريره إلى جانب سرير من يحبه.
وذكر أزواجهم وأنهم الحور العين وقد تكرر وصفهم في القرآن بهاتين الصفتين قال أبو عبيدة جعلناهم أزواجا كما يزوج البعل بالبعل جعلناهم اثنين اثنين وقال يونس قرناهم بهن وليس من عقد التزويج
قلت وعلى هذا فتلويح فعل التزويج قد دل على النكاح وتعديته بالباء المتضمنة معنى الاقتران والضم فالقولان واحد والله أعلم .
وأما الحور العين فقال مجاهد التي يحار فيها الطرف باديا مخ سوقهن من وراء ثيابهن ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون وقال قتادة بحور أي بيض وكذا قال ابن عباس وقال مقاتل الحور البيض الوجوه العين الحسان الأعين وعين حوراء شديدة السواد نقية البياض طويلة الأهداب مع سوادها كاملة الحسن ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون مع حور عينها بياض لون الجسد فوصفهن بالبياض والحسن والملاحة كما قال ( خيرات حسان ) فالبياض في ألوانهن والحسن في وجوههن والملاحة في عيونهن وقد وصف الله سبحانه نساء أهل الجنة بأحسن الصفات ودل بما وصف بما سكت عنه .
فإن شئت التفصيل فالذي يحمد ويستحب من وجه المرأة وبدنها وأخلاقها البياض في أربعة اشياء اللون وبياض العين والفرق والثغر والسواد في أربعة سواد العين وسواد شعر الرأس والجفن وسواد الحاجبين والحمرة في أربعة اللسان والشفتين والوجنتين وحمرة تشوب البياض وفتحسنه وتزينه ومن التدوير أربعة أشياء الوجه والرأس والكعب والمقعد ومن الطول أربعة القامة والعنق والشعر والحاجب والسعة في أربعة الجبهة والعين والوجه والصدر ومن الصغر في أربعة الثدي والفم والكف والقدم ومن الطيب في أربعة الفم والأنف والفرق والفرج ومن الضيق في موضع واحد ومن الأخلاق كما قال تعالى ( </SPAN> عربا أترابا ) إذ العرب جمع عروب وهي المرأة المتحببة إلى زوجها بأخلاقها ولطافتها وشمائلها قال ابن الأعرابي العروب من النساء المطيعة لزوجها المتحببة إليه وقال أبو عبيدة هي الحسنة التبعل قال المبرد هي العاشقة لزوجها وقال البخاري في صحيحه هي الغنجة ويقال الشكلة فهذا وصف أخلاقهن وذلك وصف خلقهن وأنت إذا تأملت الصفات التي وصفهن الله بها رأيتها مستلزمة لهذه الصفات ولما وراءها والله المستعان </SPAN>
ثم أخبر سبحانه عن تكميل نعيمهم بإلحاق ذرياتهم بهم في الدرجة وإن لم يعملوا أعمالهم لتقر أعينهم بهم ويتم سرورهم وفرحهم وأخبر سبحانه أنه لم ينقص الآباء من عملهم من شيء بهذا الإلحاق
ثم أخبر سبحانه أن هذا إنما هو فعله في أهل الفضل وأما أهل العدل فلا يفعل بهم ذلك بل ( كل امرئ بما كسب رهين ) ففي هذا دفع لتوهم التسوية بين الفريقين بهذا الالحاق كما في قوله ( وما ألتناهم من عملهم من شيء ) أي ما نقصناهم
ثم ذكر امدادهم باللحم والفاكهة والشرب وأنهم يتعاطون كؤوس الشراب بينهم يشرب أحدهم ويناول صاحبه ليتم بذلك فرحهم وسرورهم .
ثم نزه ذلك الشراب عن الآفات من اللغو من أهله عليه ولحوق الأثم لهم فقال ( لا لغو فيها ولا تأثيم ) فنفى باللغو السباب والتخاصم والهجر والفحش في المقال والعربدة ونفى بالتأثيم جميع الصفات المذمومة التي أثمت شارب الخمر وقال سبحانه ( ولا تأثيم )
قال ابن قتيبة لا يذهب بعقولهم فيلغوا ولم يقع منهم ما يؤثمهم .
ثم وصف خدمهم الطائفين عليهم بأنهم كاللؤلؤ في بياضهم والمكنون المصون الذي لا تدنسه الأيدي فلم تذهب الخدمة تلك المحاسن وذلك اللون والصفاء والبهجة بل مع انتصابهم لخدمتهم كأنهم لؤلؤ مكنون.
ثم ذكر سبحانه ما يتحدثون به هناك وانهم يقولون ( إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ) أي كنا خائفين في محل الأمن بين الأهل والأقارب والعشائر فأوصلنا ذلك الخوف والإشفاق إلى أن من الله علينا فأمنا مما نخاف ( ووقانا عذاب السموم ) وهذا ضد حال الشقي الذي كان في أهله مسرورا فهذا كان مسرورا مع إساءته وهؤلاء كانوا مشفقين مع إحسانهم فبدل الله سبحانه إشفاقهم بأعظم الأمن وبدل أمن أولئك بأعظم المخاوف والله المستعان .
ثم أخبر عن حالهم في الدنيا وأنهم كانوا يعبدون الله فيها فأصلتهم عبادته وحده إلى قربه وجواره ومحل كرامته والذي جمع لهم ذلك كله بره ورحمته فإنه هو البر الرحيم
الثاني الكتاب المسطور في الرق المنشور واختلف في هذا الكتاب فقيل هو اللوح المحفوظ وهذا غلط فإنه ليس برق وقيل هو الكتاب الذي تضمن أعمال بني آدم وقال مقاتل تخرج إليهم أعمالهم يوم القيامة في رق منشور وهذا وإن كان أقوى وأصح من القول الأول واختاره جماعة من المفسرين ومنهم من لم يزك غيره فالظاهر أن المراد به الكتاب المنزل من عند الله وأقسم الله به لعظمته وجلالته وما تضمنه من آيات ربوبيته وأدلة توحيده وهداية خلقه.
ثم قيل هو التوراة التي أنزل الله على موسى. ولكن التوراة إنما أنزلت في الواح لا في رق إلا أن يقال هي في رق في السماء وأنزلت في ألواح وقيل هو القرآن ولعل هذا أرجح الأقوال لأنه سبحانه وصف القرآن بأنه في صحف مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة فالصحف هي الرق وكونه بأيدي سفرة هو كونه منشورا وعلى هذا فيكون قد أقسم بسيد الجبال وسيد الكتب ويكون ذلك متضمنا للنبوتين المعظمتين نبوة موسى ونبوة محمد وكثيرا ما يقرن بينهما وبين محلهما كما في سورة التين والزيتون
ثم أقسم بسيد البيوت وهو البيت المعمور وفي وصفه الكتاب بأنه مسطور تحقيق لكونه مكتوبا مفروغا منه وفي وصفه بأنه منشور إيذان بالاعتناء به وأنه بأيدي الملائكة منشور غير مهجور.
وأما البيت المعمور فالمشهور أنه الضراح الذي في السماء الذي رفع للنبي ليلة الإسراء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم وهو بحيال البيت المعمور في الأرض وقيل هو البيت الحرام ولا ريب أن كلا منهما معمور فهذا معمور بالملائكة وعبادتهم وهذا معمور بالطائفين والقائمين والركع والسجود وعلى كلا القولين فكل منهما سيد البيوت.
ثم أقسم سبحانه بمخلوقين عظيمين من بعض مخلوقاته وهما مظهر آياته وعجائب صنعته وهما السقف المرفوع وهو السماء فإنها من أعظم آياته قدرا وارتفاعا وسعة وسمكا ولونا وإشراقا وهي محل ملائكته وهي سقف العالم وبها انتظامه ومحل النيرين الذين بهما قوام الليل والنهار والسنين والشهور والأيام والصيف والشتاء والربيع والخريف ومنها تنزل البركات واليها تصعد الأرواح وأعمالها وكلماتها الطيبة
والثالث البحر المسجور وهو آية عظيمة من آياته وعجائبه لا يحصيها إلا الله واختلف في هذا البحر هل هو الذي فوق السموات أو البحر الذي نشاهده على قولين فقالت طائفة هو البحر الذي عليه العرش وبين أعلاه وأسفله مسيرة خمسمائة عام.وهذا القول في البحر الذي تحت العرش محكي عن علي بن أبي طالب .
والثاني أنه بحر الأرض واختلف في المسجور فقيل المملوء هذا قول جميع أهل اللغة. وكذا قال ابن عباس المسجورة الممتلئ وقال مجاهد المسجور الموقد قال الليث السجر إيقادك في التنور تسجره سجرا والسجر اسم الحطب وهذا قول الضحاك وكعب وغيرهما قال البحر يسجر فيزداد في جهنم وحكى هذا القول عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال مسجور قال الفراء وهذا يرجع إلى القول الأول لأنك تقول سجرت التنور إذا ملأته حطبا وروى ذو الرمة الشاعر عن ابن عباس أن المسجور اليابس الذي قد نضب ماؤه وذهب.
قال أبو زيد المسجور المملوء والمسجور الذي ليس فيه شيء جعله من الأضداد وقد روى عن ابن عباس أن المسجور المحبوس ومنه ساجور الكلب وهو القلادة من عود أو حديد تمسكه والمعنى على هذا أنه محبوس بقدرة الله أن يفيض على الأرض فيغرقها فإن ذلك مقتضى الطبيعة أن يكون الماء غامرا للأرض فوقها كما أن الهواء فوق الماء ولكن أمسكه الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا.
وهذا الموضع مما هدم أصول الملاحدة والدهرية فإنه ليس في الطبيعة ما يقتضي حبس الماء عن بعض جوانب الأرض مع كون كرة الماء عالية على كرة الأرض بالذات.
وأقوى الأقوال في المسجور أنه الموقد وهذا هو المعروف في اللغة من المسجور ويدل عليه قوله تعالى ( وإذا البحار سجرت ) قال علي وابن عباس أوقدت فصارت نارا ومن قال يبست وذهب ماؤها فلا يناقض كونها نارا موقدة وكذا من قال ملئت فإنها تملأ نارا .
وإذا اعتبرت أسلوب القرآن ونظمه ومفرداته رأيت اللفظة تدل على ذلك كله فإن البحر محبوس بقدرة الله ومملوء ماء ويذهب ماؤه يوم القيامة ويصير نارا فكل من المفسرين أخذ معنى من هذه المعاني والله أعلم
وأقسم سبحانه بهذه الأمور على المعاد والجزاء فقال ( إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع ) ولما كان الذي يقع قد يمكن دفعه أخبر سبحانه أنه لا دافع له وهذا يتناول أمرين أحدهما أنه لا دافع لوقوعه والثاني أنه لا دافع له إذا وقع .
ثم ذكر سبحانه وقت وقوعه فقال ( يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا ) والمور قد فسر بالحركة وفسر بالدوران وفسر بالتموج والاضطراب والتحقيق أنه حركة في تموج وتكفؤ وذهاب ومجيء ولهذا فرق بين حركة السماء وحركة الجبال فقال ( وتسير الجبال سيرا ) وقال ( وإذا الجبال سيرت ) من مكان إلى مكان وأما السماء فإنها تتكفأ وتموج وتذهب وتجيء قال الجوهري مار الشيء يمور مورا ترهيا أي تحرك وجاء وذهب كما تكفأ النخلة العيدانة أي الطويلة ومنه قوله ( يوم تمور السماء مورا ) قال الضحاك تموج موجا وقال أبو عبيدة والأخفش تكفأ وأنشد للأعشى
( كأن مشيتها من بيت جارتها % مور السحابة لا ريث ولا عجل ) .
ثم ذكر وعيد المكذبين بالمعاد والنبوة وذكر أعمالهم وعلومهم التي كانوا عليها وهي الخوض الذي هو كلام باطل واللعب الذي هو سعي ضائع فلا علم نافع ولا عمل صالح بل علومهم خوض بالباطل وأعمالهم لعب ولما كانت هذه العلوم والأعمال مستلزمة لدفع الحق بعنف وقهر أدخلوا جهنم وهم يدعون إليها دعا إي يدفع في أقفيتهم وأكتافهم دفعا بعد دفع فإذا وقفوا عليها وعاينوها وقفوا وقيل لهم ( هذه النار التي كنتم بها تكذبون ) وتقولون لا حقيقة لها ولا من أخبر بها صادق .
ثم يقال ( أفسحر هذا ) الآن كما كنتم تقولون للحق لما جاءتكم به الرسل أنه سحر وأنهم سحرة. فقيل لهم يومئذ ( اصبروا أو لا تصبروا ) كلاهما سواء عليكم لا يجدي عنكم الصبر ولا الجزع فلا الصبر يخفف عنكم حمل هذا العذاب ولا الجزع يعطف عليكم قلوب الخزنة ولا يستنزل لكم الرحمة ثم أعلموا بأن الرب تعالى لم يظلمهم بذلك وإنما هو نفس أعمالهم صارت عذابا.
فلم يجدوا من اقترانهم به بدا بل صارت عذابا لازما لهم كما كانت إرادتهم وعقائدهم الباطلة وأعمالهم القبيحة لازمة لهم ولزوم العذاب لأهله في النار بحسب لزوم تلك الإرادة الفاسدة والعقائد الباطلة وما يترتب عليها من الأعمال لهم في الدنيا فإذا زال ذلك اللزوم في وقت ما بضده وبالتوبة النصوح زوالا كليا لم يعذبوا عليه في الآخرة لأن أثره قد زال من قلوبهم وألسنتهم وجوارحهم ولم يبق له أثر يترتب عليه فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
ثم ذكر سبحانه أرباب العلوم النافعة والأعمال الصالحة والاعتقادات الصحيحة وهم المتقون فذكر مساكنهم وهم في الجنان وحالهم في المساكن وهو النعيم وذكر نعيم قلوبهم وراحتهم بكونهم ( فاكهين بما آتاهم ربهم ) والفاكه المعجب بالشيء المسرور المغتبط به وفعله فكه بالكسر يفكه فهو فكه وفاكه إذا كان طيب النفس والفاكه البال ومنه الفاكهة وهي المرح الذي ينشأ عن طيب النفس وتفكهت بالشيء إذا تمتعت به ومنه الفاكهة التي يتمتع بها.
والمقصود أنه سبحانه جمع لهم بين النعيمين نعيم القلب بالتفكه ونعيم البدن بالأكل والشرب والنكاح ووقاهم عذاب الجحيم فوقاهم مما يكرهون وأعطاهم ما يحبون جزاء وفاقا لأنهم تركوا ما يكره وأتوا بما يحب فكان جزاؤهم مطابقا لأعمالهم .
ثم أخبر عن دوام ذلك لهم بما أفهمه قوله هنيئا فإنهم لو علموا زواله وانقطاعه لنغص عليهم ذلك نعيمهم ولم يكن هناء لهم .
ثم ذكر مجالسهم وهيئاتهم فيها فقال ( متكئين على سرر مصفوفة ) وفي ذكر اصطفافها تنبيه على كمال النعمة عليهم بقرب بعضهم من بعض ومقابلة بعضهم بعضا كما قال تعالى ( متكئين عليها متقابلين ) فإن من تمام اللذة والنعيم أن يكون مع الإنسان في بستانه ومنزله من يحب معاشرته ويؤثر قربه ولا يكون بكون بعيدا منه بل سريره إلى جانب سرير من يحبه.
وذكر أزواجهم وأنهم الحور العين وقد تكرر وصفهم في القرآن بهاتين الصفتين قال أبو عبيدة جعلناهم أزواجا كما يزوج البعل بالبعل جعلناهم اثنين اثنين وقال يونس قرناهم بهن وليس من عقد التزويج
قلت وعلى هذا فتلويح فعل التزويج قد دل على النكاح وتعديته بالباء المتضمنة معنى الاقتران والضم فالقولان واحد والله أعلم .
وأما الحور العين فقال مجاهد التي يحار فيها الطرف باديا مخ سوقهن من وراء ثيابهن ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون وقال قتادة بحور أي بيض وكذا قال ابن عباس وقال مقاتل الحور البيض الوجوه العين الحسان الأعين وعين حوراء شديدة السواد نقية البياض طويلة الأهداب مع سوادها كاملة الحسن ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون مع حور عينها بياض لون الجسد فوصفهن بالبياض والحسن والملاحة كما قال ( خيرات حسان ) فالبياض في ألوانهن والحسن في وجوههن والملاحة في عيونهن وقد وصف الله سبحانه نساء أهل الجنة بأحسن الصفات ودل بما وصف بما سكت عنه .
فإن شئت التفصيل فالذي يحمد ويستحب من وجه المرأة وبدنها وأخلاقها البياض في أربعة اشياء اللون وبياض العين والفرق والثغر والسواد في أربعة سواد العين وسواد شعر الرأس والجفن وسواد الحاجبين والحمرة في أربعة اللسان والشفتين والوجنتين وحمرة تشوب البياض وفتحسنه وتزينه ومن التدوير أربعة أشياء الوجه والرأس والكعب والمقعد ومن الطول أربعة القامة والعنق والشعر والحاجب والسعة في أربعة الجبهة والعين والوجه والصدر ومن الصغر في أربعة الثدي والفم والكف والقدم ومن الطيب في أربعة الفم والأنف والفرق والفرج ومن الضيق في موضع واحد ومن الأخلاق كما قال تعالى ( </SPAN> عربا أترابا ) إذ العرب جمع عروب وهي المرأة المتحببة إلى زوجها بأخلاقها ولطافتها وشمائلها قال ابن الأعرابي العروب من النساء المطيعة لزوجها المتحببة إليه وقال أبو عبيدة هي الحسنة التبعل قال المبرد هي العاشقة لزوجها وقال البخاري في صحيحه هي الغنجة ويقال الشكلة فهذا وصف أخلاقهن وذلك وصف خلقهن وأنت إذا تأملت الصفات التي وصفهن الله بها رأيتها مستلزمة لهذه الصفات ولما وراءها والله المستعان </SPAN>
ثم أخبر سبحانه عن تكميل نعيمهم بإلحاق ذرياتهم بهم في الدرجة وإن لم يعملوا أعمالهم لتقر أعينهم بهم ويتم سرورهم وفرحهم وأخبر سبحانه أنه لم ينقص الآباء من عملهم من شيء بهذا الإلحاق
ثم أخبر سبحانه أن هذا إنما هو فعله في أهل الفضل وأما أهل العدل فلا يفعل بهم ذلك بل ( كل امرئ بما كسب رهين ) ففي هذا دفع لتوهم التسوية بين الفريقين بهذا الالحاق كما في قوله ( وما ألتناهم من عملهم من شيء ) أي ما نقصناهم
ثم ذكر امدادهم باللحم والفاكهة والشرب وأنهم يتعاطون كؤوس الشراب بينهم يشرب أحدهم ويناول صاحبه ليتم بذلك فرحهم وسرورهم .
ثم نزه ذلك الشراب عن الآفات من اللغو من أهله عليه ولحوق الأثم لهم فقال ( لا لغو فيها ولا تأثيم ) فنفى باللغو السباب والتخاصم والهجر والفحش في المقال والعربدة ونفى بالتأثيم جميع الصفات المذمومة التي أثمت شارب الخمر وقال سبحانه ( ولا تأثيم )
قال ابن قتيبة لا يذهب بعقولهم فيلغوا ولم يقع منهم ما يؤثمهم .
ثم وصف خدمهم الطائفين عليهم بأنهم كاللؤلؤ في بياضهم والمكنون المصون الذي لا تدنسه الأيدي فلم تذهب الخدمة تلك المحاسن وذلك اللون والصفاء والبهجة بل مع انتصابهم لخدمتهم كأنهم لؤلؤ مكنون.
ثم ذكر سبحانه ما يتحدثون به هناك وانهم يقولون ( إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ) أي كنا خائفين في محل الأمن بين الأهل والأقارب والعشائر فأوصلنا ذلك الخوف والإشفاق إلى أن من الله علينا فأمنا مما نخاف ( ووقانا عذاب السموم ) وهذا ضد حال الشقي الذي كان في أهله مسرورا فهذا كان مسرورا مع إساءته وهؤلاء كانوا مشفقين مع إحسانهم فبدل الله سبحانه إشفاقهم بأعظم الأمن وبدل أمن أولئك بأعظم المخاوف والله المستعان .
ثم أخبر عن حالهم في الدنيا وأنهم كانوا يعبدون الله فيها فأصلتهم عبادته وحده إلى قربه وجواره ومحل كرامته والذي جمع لهم ذلك كله بره ورحمته فإنه هو البر الرحيم

الصفحة الأخيرة