حيانتا الدنيا لا تسير بنا على وتيرة واحدة وعلى وضع دائم إنما هي تتقلب وتتأرجح بنا تأرجح الكرة ، فيها نعيش بين سعادة وشقاء ، يبن يسر وعسر ،بين فرح وحزن بين صفاء وكدر .........
هكذا هي الحياة وهكذا أرادها الله – عز وجل - مد وجزر، حل وترحال ،لقاء وفراق، بداية ونهاية قال تعالى : { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }آل عمران:140
ويقول الشاعر:
ثمانية لابد منها على الفتى ولابد أن تجري عليه الثمانية
سـرور وهــم واجتماع وفرقة ويـسر وعـسر ثـم سقم وعافية
لكن المؤمن يقيناً أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، فهو يعيش فيها مطمئن السريرة ، مرتاح البال، شاكرا، عابداً ، راضياً بقضاء الله وقدره لأنه يدرك حقيقةً وهي أن المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف كما جاء في الحديث ، ويعلم تمام العلم أن إيمانه بالله يوجب عليه أن يشكر الله على نعمه وفي المقابل أن يرضى ويُسِّـلم على كل ما يعترض حياته من مصائب وعقبات،يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)
لذلك تجده وإن اشتد الكرب وضاقت السبل وبلغ الحزن به ذروته والألم قوته تجده أمامها دائم الصبر، دائم الرضا، دائم الدعاء لله بتفريج الكربات وتيسير العقبات فهو يعلم أن( الصبر كالصبر مر مذاقه وله عواقب أحلى من العسل ) ،وأن ذلك كله ( فـي الكتاب مسطورا )، ويدرك أن الجزع والسخط لا يغير في الأمر شيئاً وإنما ينقلب وبالاً عليه ، وأن الحياة لا تقف عند موت حبيبه وخليله وإن فعل ووقف وبادر هو بالوقوف فهو بذلك سلك أسهل الطرق لموته وإن لم يمت .
يقول الإمام ابن الجوزي : "من تأمل الدنيا علم أنه ليس فيها لذة أصلا ،فإن وجدت لذة شيبت بالنغص الذي يزيد على اللذة أضعافاً "
فصبر آيها الإنسان ووطن نفسك على تحمل المصاب بكل طمأنينة وتأكد أن الله لا يكتب لعبده المؤمن إلا كل خير،فاصبر وإن لم تكن قد تعلمته فتعلمه فالحلم بالتحلم والصبر بالتصبر ، وإن تكن قد زارتك مصيبة فقد سبقتها مئات من النعم ، ولها يوم لابد أن تكون فيه زائلة كما كانت فيه زائرة –بإذن الله – فعود نفسك على التفكير الإيجابي وطمئن نفسك ،وثق بالله وكن متفائلاً ، محسن الظن بالله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى فيما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنا عند ظن عبدي بي ، إن ظنَّ خيراٍ فله وإن ظَّن شراً فله )،وتسلح بسلاح الإيمان وارض بقضائه وقدره فهو والله البلسم الشافي لكل ما يواجهه حياتنا من مصائب،فالعسر مع اليسر و الضيق يعقبه الفرج ، وتأكد أن الحياة لا تخلو من منغصات فكن شامخاً أمامها بإيمانك وصبرك ، وتمثل بقول الشاعر:
آيها الحامل هماً إن الهم لا يدوم
مثل ما تفنى المسرات كذا تفنى الهموم
ومن الوسائل التي تعيننا على مواجهه المصائب والتغلب على المصاعب أن يعلم الإنسان أن هذه هي الحياة، وهذه حقيقة الدنيا فالابتلاء سنه ماضية
فلا حزن يدوم ولا سرور قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)البلد:4 ، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ)سورة محمد:31
يقول الشاعر: طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار
ويقول الإمام ابن القيم: ( الناس منذ أن خلقوا لم يزالوا مسافرين وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة والنار، والعاقل يعلم أن السفر مبني على المشقة وركوب الأخطار، ومن المحال عادة أن يُطلب فيه نعيم ولذة وراحة ، إنما ذلك بعد انتهاء السفر )
وأن يعلم يقينا ً أن الناس جميعاً نالت منهم المصائب ما نالت ، كلِّ بحسبها صغرت أو كبرت
كل من تلقاه يشكوا دهـره ليت شعري هذه الدنيا لمن ؟
ذكر ابن الجوزي بإسناده عن عبد الله بن زياد قال: حدثني بعض من قرأ في الكتب: "أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها، وبلغ أرض (بابل) مرض مرضًا شديدًا، فعلم أنه مرض الموت، وأشفق على نفسه، فكتب إلى أمه معزِّيًا في ذكاء قائلاً: "يا أماه إذا جاءكِ كتابي فاصنعي طعامًا، واجمعي من قدرت عليه من الناس، ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة، واعلمي هل وجدتِ لشيء قرارًا. إني لأرجو أن يكون الذي أذهب إليه خيرًا مما أنا فيه" فلما وصل كتابه صنعت طعامًا عظيمًا، وجمعت الناس، وقالت: "لا يأكل هذا من أُصيب بمصيبة" فلم يتقدم أحد للأكل من هذا الطعام، فعلمت مراد ابنها، فقالت: "بني من مبلغك عني أنك وعظتني فاتعظت، وعزيتني فتعزيت؛ فعليك السلام حيًا وميتًا".
واحرص كل الحرص على ألا يراك الله إلا في موقع الحامد ، الراضي بالقضاء، و ألا تخرج من الأزمة ومن الامتحان إلا بالربح والفوز ، فأصبر واحتسب ( لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً )
ومن الوسائل التي تهون عليك مصابك أن تعلم أن الذي أصابك بالمصيبة هو أرحم الراحمين، هو من كتب على نفسه الرحمة ، هو أرحم من الأم بولدها، ولله في خلقه شؤون وفي قضائه حكم ،فأصبر وإن طال المصاب، طالباً الأجر من الله (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) الأعراف:128
وفي الحديث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ )
يقوا الإمام أبي عبد الله المنبجي في كتابه تسلية أهل المصائب ـ بتصرف ـ ( على العبد أن ينظر بعين بصيرته، فليعلم أن مرارة الدنيا بعينها حلاوة الآخرة ، وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة ، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خيرُ من عكس ذلك )
وأعلم كذلك أن مصابك لا يخلو من أمور وكلها تصب في صالحك إذا صبرت وسلمت ورضيت بقضاء الله وقدره فهو إما تكفيراً لسيئات وتمحيصاً لذنوب اقترفتها فيما مضى من زمان أو درجة لك في الجنة لن تصلها بعملك ولكن بامتحانك بهذا المصاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها ) أو صقلا لإيمانك وتنبيهاً من غفلتك وتذكيراً بنعم الله وإيقاظاً لك نحو العمل(وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )الأعراف:168
يقول سفيان بن عيينة –رحمه الله- ما يكره العبد خير له مما يحب، لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء، وما يحبه يلهيه )
وقال بعض السلف : لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة مفاليس
واسمع لهذه البشرى.........
قَالَ تَعَالَى في كتابه الكريم : ( وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ , وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ )
قال الإمام أحمد –رحمه الله- ( إن الله تعالى جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم وهي:الصلاة منه عليهم،ورحمته لهم، وهدايته إياهم )
و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا سَقَمٍ وَلَا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ )
يقول سليمان بن القاسم

والإنسان مهما سلك في طريق العلم والتعلم يظل عاجزاً عن إدراك حقيقة بعض ما يعترينا في حياتنا ، فكثيراً من المصائب انقلبت على غير ظاهرها وفي نهاية مطافها صارت نعمة بعد أن كانت مصيبة وأصبحت منحة بعد أن كانت محنة ولبست لباس الفرح بعد أن كانت متوشحة( ظاهرياً ) بلباس الحزن
وصدق الله العظيم : ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرا لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون)
و عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَقَالَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَعْقِبْنِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِ ) قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ ذَلِكَ ثُمَّ قُلْتُ وَمَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَوَّجَهَا ) وَذَلِكَ لِمَا كَانَتْ تَعْلَمُ مِنْ فَضْلِ أَبِي سَلَمَةَ وَدِينِهِ وَخَيْرِهِ وَاسْتَبْعَدَتْ لِذَلِكَ أَنْ تُعَوَّضَ بِخَيْرٍ مِنْهُ وَلَمْ تَكُنْ تَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يَتَزَوَّجُهَا وَلَوْ ظَنَّتْ ذَلِكَ لَمْ تَقُلْهُ فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ كما في المنتقى شرح الموطأ .
يقول الشاعر: يضيق صدري بغم عند حادثة وربما خير لي في الغم أحياناً
رب يوم يكون الغم أوله وعند آخره روحاً وريحاناً
ما ضقت ذرعاً بغم عند نائبة إلا ولي فرج قد حلَّ أو حانا
وفي استقراء التاريخ الكثير من القصص التي تهون عليك مصابك ولنا معهم وقفات بسيطة لعل فيها عبرة.
بترت رجل عروة بن الزبير، ومات ابنه في يوم واحد فقال: اللهم لك الحمد، إن كنت أخذت فقد أبقيت وإن كنت ابتليت فقد عافيت، منحتني أربعة أعضاء وأخذت عضواً ومنحتني سبعة أبناء وأخذت ابناً واحداً ،ومما يذكر عن أمير المؤمنين- عمر بن عبد العزيز- عندما مات ابنه عبد الملك وأرادوا أن ينقل له خبر موته قام كاتبه بكتابة رسالة طويلة وعندما بدأ بقراءتها ، وفهم مافيها من خبر أوقفه وقال له ( أكتب هذا أمر قد وطنَّا أنفسنا عليه فلما جاء لم نستغرب )
وكانت امرأة من العابدات بالبصرة تصاب بالمصائب فلا تجزع فذكروا لها ذلك فقالت: ما أصاب بمصيبة فأذكر معها النار إلا صارت في عيني أصغر من الذباب
وأخيرا .آيها الإنسان سَّر في هذه الحياة بقلب صابر وبلسان ذاكر شاكر، متزوداً بالأعمال الصالحات ، رافعاً شعار(حلاوة الإيمان أنستني مرارة المصاب )
وتذكر أن الحياة أنفاس تعد ورحال تشد وعارية ترد فأعمل بجد قبل أن توضع في اللحد وتكون عن الأهل في بعد.
هذه كلمات بسيطة...أسأل الله أن ينفع بها كل من قرأها..كلمات لعل فيها تسلية للمصابين،و عزاء للمنكوبين، وتربية للنفس وإعداد لها لمواجهة هذه الحياة..........
اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ، لا نرجو سواك ولا نلجأ إلا إليك ....
وأشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
أسأل الله أن يجعلنا عند البلاء من الصابرين وعند النعماء من الشاكرين، وممن كان همه الآخرة فاستحق بذلك رضاء الله.
................. فاصلة ..............
دع المـقاديـر تـجري فــي أعنـّـَتها ولا تـنـامَنَّ إلا خـالي البـال
مـا بين غمـضة عـين وانـتباهـتِها يغير الله من حــال إلى حـال
منقول:26: