منذ عدة سنوات، كنت أستقل الأتوبيس منتقلا من محافظة مصرية لأخرى.. وكان في نفس الأتوبيس أم مصرية وأربع بنات: طفلة صغيرة في الصف الأوّل الابتدائيّ وثانية في الصف الثاني، وثالثة في الصف الثالث ورابعة في الصف الخامس..
كانت المسافة طويلة، لهذا كنت أقضي الوقت في قراءة كتيب معي.. فلفت ذلك انتباه هذه الطفلات، فاقتربت مني أصغرهن، وبدأت أمازحها..
وبعد قليل أخذت أتحاور معهن ـ ما عدا أكبرهن فقد وجدت أنّ التحفظ أولى في التعامل معها، فهي تقترب من مرحلة المراهقة.. وما دامت تشاهد التلفاز، فهي مراهقة فعلا.. مع إيقاف التنفيذ!
كانت هذه الطفلات في منتهى الذكاء.. خاصة تلك التي في الصف الثاني الابتدائي.. وكانت تحب القراءة، وطلبت مني أن أتركها تقرأ لي بصوت مسموع بضع مقاطع من الكتيب الذي أحمله..
ثم أسمعتني بعض الأناشيد.. ووجدت أنّها تحب الشعر.. وكانت معي مسودة بها بعض شعري، فقرأت لها قصيدة منه!
وقد طلبت مني بإلحاح أن أعطيها هذه المسودة ـ طبعا كان هذا مستحيلا!
وتخيلت أنّ طفلة كهذه تستطيع أن تكون موهوبة في المستقبل.. في الواقع أطفالنا جميعا في منتهى الذكاء، ولديهم تطلّع وطاقة كبيرة..
ولكن المشكلة أنّ ظروف المجتمع ـ المدرسة والتلفاز خصوصا ـ تعمل على قتل هذا الذكاء.. أو بمعنى واضح: يستمر ذكاؤهم على نفس المعدل تقريبا، بينما تزداد أعمارهم!
ما علينا.. ما يهمنا هنا هو شيء آخر.. الطفلة الصغيرة ذات الأعوام الستة:
فقد أصرت فجأة أن تلقي بعض النكات.. طيب.. نسمع..
بدأت في إلقاء أوّل نكتة.. فلاحظت تحرّج أختيها، وحاولتا إسكاتها.. توقعت طبعا أنّ النكتة غير لائقة!
حاولت إسكاتها بكلّ السبل.. بما في ذلك إغلاق فمها!.. ولكنها تملّصت مني، وراحت تتكلم كالمدفع الرشاش، ولم ينجح معها شيء!
بعد أن سكتت سألتها:
- من الذي قال لك هذه النكتة؟
فأجابتني:
- المعلمة!
قلت لها مستنكرا:
- هذا مستحيل.. أنت تكذبين.. على كلّ حال: حتّى لو قالت المعلمة ذلك، فهي غير محترمة، وفي هذه الحالة يجب أن تخبري ماما وبابا.. وعليك أيضا ألا تقولي أيّ شيء حرام أو عيب.
قالت:
- طيب.. سأحكي لك قصة.
فقلت لها:
- احكي.. بشرط أن تكون لائقة.
فبدأت في حكاية قصة مؤلمة للغاية، مصاغة بعبارات مسجوعة، على لسان طفل ماتت أمه، وتزوج أبوه، فتحايلت زوجة الأب الشريرة لتحوله إلى عصفور، وذبحته وقدمته لأبيه فأكله!!!!
وتألمت ألما مذهلا من هذه الحكاية.. وتذكرت في ألم أنّني أيضا سمعت هذه القصة بنفس عباراتها وأنا في مثل سنّها.. وتساءلت في نفسي مندهشا:
- ما هذا الذي نحكيه لأطفالنا؟.. وما الهدف الذي تقدّمه هذه الحكايات لهم؟.. وما البصمات التي ستتركها هذه الحكايات المريضة فيهم؟
ولكنها لم تمهلني.. انتزعتني من خواطري لتصدمني صدمة أعنف.. حكت لي نكتة بذيئة غريزية.. وليس هذا أسوأ ما فيها.. فالنكتة تعتمد على تشبيه الأعضاء التناسلية بمقدساتنا الإسلامية!!!!!!!!!!
وتذكرت أيضا.. تذكرت أنّني سمعت هذه النكتة القذرة وأنا في نفس السن!!!!!!
وتساءلت في نفسي في غضب:
من هذا المجنون الكافر البذيء الذي ألّف شيئا كهذا؟؟
ولماذا تبدو هذه التركة الملوثة راسخة بمثل هذا الوضع؟
لماذا تصبّ في عقول ونفوس أطفالنا في نفس هذه السن، وكأنّ كلّ طفل لا يغادر هذه المرحلة العمرية إلا إذا سلّم هذه التركة الملوثة لمن سيخلفه؟
وأين دور الأهل في هذا وما هو أكثر منه؟
للأسف: أحيانا لا ينتبهون إلا متأخرا!
وهذه النكات والبذاءات الموبوءة لا تتوقف عند تدمير الذوق أو تشويه المقدسات.. بل إنّ الشذوذ محوريّ فيها!
والنتيجة أنّ بعض الأطفال يدفعهم الفضول لمحاولة التجريب..
إنّ أجمل فترات طفولتي أهدرتها أسمع لهذه الحكايات والبذاءات وما يحكيه الأطفال ـ الذين فرضهم التعليم عليّ كزملاء ـ من محاولات شذوذهم وزناهم وفسادهم!
ولا أعتقد أنّني ملام.. فقد كنت طفلا..
وأحمد لله أنّني كنت أذهب للكتّاب لحفظ القرآن في هذه الفترة.. وأن أهلي وأسرتي ممن يتمتعون بعفة القول والفعل.. فهذا ما جعلني أوقن بأنّ هذه الأقوال والأفعال غير لائقة وفاسدة.. ولم أكن ممن يرددها.. ولكنّني للأسف كنت مرغما على سماعها!
وقد كنت كتوما.. لهذا فلم أكن أحكي لأهلي أيّ شيء من هذا..
ولكن أخا يصغرني حكى لأبي بعض هذا يوما.. وأعجبتني معالجة أبي للأمر.. فقد تعامل معه ببساطة، وجعله يحكي كلّ ما لديه.. ومن ثم أمرنا إذا ما بدأ أحد من زملائنا في الكلام في مثل هذه الأمور، أن نقول له إن هذا حرام وعيب.. فإذا لم يسكت، نتركه وننصرف..
وهذا ما التزمته فعلا بعد هذا.
ولكن، هل كل الأطفال لديهم من يوجههم، أو من ينتبه أصلا لما يواجههم؟
هل هناك أيّ أبحاث أو دراسات عن هذه التركة الملعونة وكيف يتعامل معها الأهل لحماية أطفالهم؟
النكتة في الأمر أنّ المتأمركين لدينا يريدون أن يفسدوا بقايا من لم يفسد بتدريس ما أسموه الثقافة الجنسية لأطفالنا!
وليتها تدور حول توعية الأطفال بما أتكلم عنه من مخاطر.. ولكني سمعت وزير الثقافة في حوار في التلفاز يقول إنّه شاهد بنفسه أفلام الكارتون التي تمّ إعدادها ووجد أنّها مناسبة!!.. ففي نظركم ما الذي يمكن عرضه من هذه الثقافة الجنسية المزعومة في أفلام كارتون؟؟؟!!!!!!
إنّ الأجهزة التناسلية وأحكام الجنابة تدرس بالفعل.. فماذا بقي لتدرسه هذه الثقافة الجنسية المزعومة إلا.... أوضاع الجماع؟!!!!!!!! (ولو لم يبدأوا بتدريس هذا في البداية حتّى لا يصدموا أولياء الأمور، فسيتدرجون في تطوير مناهجها عبر عدة سنوات إلى أن يصلوا لمبتغاهم!!)
إنّ مثل هذا العبث الذي يفرضه علينا الغرب لن يحل شيئا.. بل على العكس، ستصبح هذه الغرائز الافتراضية ـ السابقة للنمو الجسدي ـ أكثر محورية في عقول ونفوس الأطفال..
لقد عايشت هذه التجربة وأفهمها جيدا، ورأيت كيف أثّرت في الكثيرين، وكيف ربّت بعض المجرمين!
إنّ الطفل خياليّ، ولديه فضول مذهل للتجريب..
كما أنّه في مرحلة تتشكل فيها فطرته.. وكلّ أمر مهما صغر يؤثر في تكوينه في هذه الفترة..
ولكن للأسف: الأهالي لا يعون هذا، وكلّ ما يعنيهم هو توفير المأكل والملبس واللعب ومصاريف المدرسة لأطفالهم.. بينما أطفالهم يُدمَرون تدميرا بشعا عبر الأفلام والمسلسلات والإعلانات والأغاني الفاسدة والنكات البذيئة وزملاء السوء في المدرسة والشارع.
إنّها تركة ملوثة ملعونة مستديمة راسخة بشكل مخيف.. وأسوأ ما فيها أنها لا ترحم براءة الصغار ولا بكارة عقولهم، بل تعمل على تشويههم منذ البداية.
فهل هذه هي الطريقة التي تسهم في تربية جيل النصر؟.. جيل العزة؟.. بل هل هذه أصلا طريقة تربية الأسوياء؟
ألا تعتقدون معي أنّه في ظلّ كلّ هذا، يجب ألا أن تدهشنا مظاهر الانحراف وتزايد الجرائم، وسوء طباع الأفراد؟
أبناؤكم أمانة.. فلا تضيعوهم.
الفضاء الرحيب @alfdaaa_alrhyb
عضوة جديدة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الفضاء الرحيب
•
للرفع.
الصفحة الأخيرة